في كل مرة تنشر فيها جريدة "لوموند'' الفرنسية مقالات مطولة عن المغرب، وبالأخص عن المؤسسة الملكية، يطرح السؤال نفسه بإلحاح: ما الغرض من هذه الكتابات، ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ هذه الصحيفة التي تعتبر من كبريات الجرائد الأوروبية، غالبا ما تحاول من خلال مقالاتها أن تقدم "قراءة نقدية" للشأن المغربي، لكنها في واقع الأمر تنزلق نحو الانتقائية، وتغفل عن خصوصيات التجربة المغربية وعمقها التاريخي والاجتماعي.
آخر هذه السلسلة من المقالات التي تناولت ستة وعشرين عاما من حكم جلالة الملك محمد السادس، جاءت محملة بقدر كبير من التحامل، وكأنها محاولة لإعادة صياغة صورة المغرب وفق تصورات مسبقة لا علاقة لها بالواقع.
من المثير للانتباه أن اختيار "لوموند" نشر هذه المقالات جاء في لحظة تعرف فيها العلاقات المغربية - الفرنسية أوج انسجامها. فمنذ سنوات، تعودنا أن تهاجم الصحيفة المغرب حين تسوء العلاقات أو تدخل في مرحلة برود دبلوماسي. أما اليوم، فالوضع مختلف: العلاقات بين البلدين تسير على نحو إيجابي جدا، وتجسد ذلك من خلال الزيارة الناجحة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، وخطابه التاريخي أمام البرلمان المغربي، فضلاً عن الموقف الفرنسي الداعم وبوضوح لمغربية الصحراء.
هنا يبرز السؤال المشروع: لماذا إذن تلجأ صحيفة مقربة من دوائر القرار الفرنسي إلى نشر مقالات مشحونة بالسلبية عن المؤسسة الملكية المغربية؟ هل هو مجرد اجتهاد صحفي؟ أم أنه انعكاس لتيارات داخل "الدولة العميقة" الفرنسية التي لم تستسغ بعد التحولات العميقة التي شهدتها الشراكة الاستراتيجية بين الرباط وباريس؟
قراءة هذه المقالات تكشف بوضوح أنها ليست بريئة أو معزولة عن سياق سياسي أوسع. ففرنسا، على الرغم من موقفها الرسمي الداعم للمغرب، ما زالت تعيش ارتباكا في كيفية التعامل مع المتغيرات الإقليمية. بعض دوائر النفوذ في باريس ربما ترى في متانة العلاقات المغربية - الفرنسية تهديدا لتوازنات إقليمية قديمة، وتسعى في الوقت نفسه لمغازلة الجزائر أو إبقاء أوراقها مفتوحة معها. وهنا تصبح الحملات الإعلامية وسيلة للضغط أو للتشويش، أكثر منها تعبيرا عن "حرية الرأي" أو "التحليل الموضوعي".
ليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها لوموند إلى هذا الأسلوب. فمنذ السنوات الأولى لتولي الملك محمد السادس العرش، نشرت الصحيفة مقالات مشابهة، توقعت فيها اهتزاز التجربة المغربية أو عجزها عن مواكبة التحولات. لكن الواقع كان عكس ذلك تماما. فقد أطلق المغرب آنذاك سلسلة من الإصلاحات الجريئة التي شملت العدالة الانتقالية، وتوسيع مجال الحريات العامة، وتحرير القطاع السمعي البصري، والنهوض بأوضاع المرأة، والاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية، إضافة إلى طرح مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء كحل سياسي واقعي وجدِّي، لاقت إشادة واسعة من المجتمع الدولي.
حتى فرنسا نفسها، أو على الأقل نخبتها الموضوعية، اعترفت بعمق هذه الإصلاحات وأشادت بها، معتبرة أن المغرب يمثل نموذجا متميزا في العالم العربي والإفريقي. فكيف تتجاهل "لوموند" هذه الحقائق اليوم، وتحاول العودة إلى نفس الخطاب السلبي وكأن شيئا لم يتغير؟
الخطأ الأكبر الذي تقع فيه بعض القراءات الفرنسية هو عدم فهم طبيعة العلاقة التي تربط المؤسسة الملكية بالشعب المغربي. فالأمر يتجاوز الجانب السياسي الصرف ليأخذ بعدا اجتماعيا ونفسيا وتاريخيا عميقا. الملكية في المغرب ليست مجرد نظام حكم، بل هي رمز لوحدة البلاد وضمانة لاستمرارية الدولة، وتجسيد لعلاقة وجدانية راسخة بين العرش والشعب.
التاريخ القريب والبعيد أظهر أن المغاربة يلتفون حول ملكهم كلما اشتدت التحديات أو كثرت الحملات الخارجية. بل إن أطروحات بعض الباحثين الفرنسيين الذين بشروا بـ"السقوط الوشيك للملكية المغربية" لم تؤدّ إلا إلى نتيجة عكسية، حيث ازداد التمسك بالعرش وارتفعت رمزية الملك باعتباره رمز الاستقرار وضمان الوحدة الوطنية.
من النقاط التي ركزت عليها "لوموند" مسألة غياب الملك بسبب المرض، محاولة تضخيمها لتصويرها وكأنها مؤشر على فراغ سياسي. غير أن هذا الطرح يتجاهل حقيقة أساسية: المغرب بلد مؤسسات. والملك، رغم ظروفه الصحية، يمارس صلاحياته الدستورية بشكل كامل، سواء عبر رئاسة المجالس الوزارية، أو التعيين في المناصب العليا، أو افتتاح السنة التشريعية، أو استقبال القادة والزعماء الأجانب.
ثم إن المؤسسة الملكية لم تخف يوما هذا الجانب، بل تواصلت بشفافية مع المواطنين من خلال بلاغات رسمية صادرة عن الديوان الملكي. الأهم أن المغرب يملك دستورا متقدما يضمن استمرارية الدولة، وهو ما يجعل أي محاولة للتشكيك في استقرار المؤسسات مجرد قراءة سطحية لا تصمد أمام الواقع.
إذا كانت الملكية المغربية تستمد مشروعيتها من التاريخ ومن عمقها الشعبي، فإنها في عهد الملك محمد السادس اكتسبت أيضا شرعية ديمقراطية وتنموية. ففي ربع قرن فقط، تحول المغرب إلى قوة إقليمية صاعدة، وحقق إنجازات كبرى على المستويات الاقتصادية والبنية التحتية والطاقة المتجددة والسياسة الخارجية. وأصبح شريكا موثوقا لدى الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، والصين الشعبية، وروسيا، والاتحاد الإفريقي، وعدد من القوى الصاعدة.
ويكفي أن نستحضر مشروع تنظيم كأس العالم 2030 رفقة إسبانيا والبرتغال، الذي يعد أكبر حدث رياضي كوني بعد الأولمبياد، ليعكس المكانة الدولية التي بات يحتلها المغرب وثقة العالم في قدراته ومؤسساته.
هذه المقالات، مهما حاولت بث الشكوك أو التشويش على صورة المغرب، لن تكون سوى وقودا إضافيا يعزز تمسك المغاربة بمؤسساتهم الوطنية، وعلى رأسها المؤسسة الملكية التي تمثل صمام الأمان وركيزة الوحدة والاستقرار والإصلاح. فالواقع أثبت أن مثل هذه الحملات الإعلامية لا تزيد الشعب المغربي إلا لحمة وتشبثا بعرشه، ولا تدفع الدولة إلا إلى المضي قدما في مسار الإصلاح والتحديث.
إن المغرب اليوم ليس دولة هشة كما تحاول بعض المقالات تصويره، بل هو بلد مستقر، يسير في مسار واضح نحو الإصلاح والتقدم، رغم الصعوبات والتحديات. كما انه لم يعد بلدا على الهامش، بل أصبح قوة إقليمية صاعدة وفاعلا دوليا موثوقا يحسب له حساب في معادلات السياسة والاقتصاد الإقليمي والدولي.
أما أولئك الذين ما زالوا يصرون على النظر إلى المغرب بعدسة الوصاية الكولونيالية البالية، فإنهم يتجاهلون حقيقة تاريخية راسخة مفادها أن زمن الإملاءات الخارجية قد انتهى بلا رجعة، وأن المغرب الجديد يشق طريقه بثبات نحو المستقبل. إنه مغرب واثق من نفسه، مسنود بشرعية تاريخية وشعبية متينة، ومحصن بإرادة الإصلاح والتقدم التي يقودها جلالة الملك محمد السادس، بما يجعل من كل محاولات التشويش مجرد أصداء باهتة أمام صلابة مشروع وطني متجذر وطموح.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي.
