Thursday 28 August 2025
كتاب الرأي

مراد علمي: في علاقات القوة.. الاتحاد الأوروبي، الصين، الولايات المتحدة والمغرب (2)

 
 
مراد علمي: في علاقات القوة.. الاتحاد الأوروبي، الصين، الولايات المتحدة والمغرب (2) مراد علمي
لطالما عرفت الصين كيف تدافع عن مصالحها، فمنذ حرب الأفيون عام 1839، أقسمت الصين على عدم السماح بحدوث ذلك مرة أخرى؛ جرح غائر، لم يُشفَ، ولا يزال يُؤثّر حتى اليوم على المقاربة الصينية تجاه الدول الغربية، حيث يطلق على هذا القرن في التاريخ الصيني والكتب المدرسية اسم "قرن الإهانة"، لأن توقيع معاهدة "نانجينغ" عام 1842 أدى إلى فتح خمسة موانئ صينية بالقوة أمام التجارة الأوروبية (تخضع "هونغ كونغ" و"ماكاو" ليومنا هذا لأنظمة أجنبية، أو على الأقل أنظمة هجينة، بعملاتها وتشريعاتها الخاصة)، وذلك من خلال التعريفات الجمركية والتعويضات المالية التي فرضها البريطانيون، والأخطر من ذلك كله هو فرض تقنين تجارة الأفيون، مما أدى إلى تدهور صحة الشعب، وزعزعة استقرار البلاد والنسيج الاجتماعي وتقهقر الإنتاجية، مما جعل إدمان جميع السكان الصينيين أمرًا عاديا وطبيعيًا.
 
وهكذا لم تعد الصين قادرة على دفع حتى رواتب موظفيها الحكوميين، نظرا لتفشّى الفساد، مما أضعف سلطة الدولة وقوّض سيادتها، وغذّى أزمة شرعية جسيمة. ساهم الفساد، الذي قوّض الثقة في مؤسسات الدولة، بشكل كبير في تراجع سلالة "تشينغ" منذ ولايتها، وهذا بالفعل ما دفع "شي جين بينغ" أن يعلن الحرب على الفساد في بلاده. وحتى في عام 2025 كرّر التزامه بالقضاء على الفساد عندما أعلن معركة شاملة وطويلة الأمد وحاسمة ضد الفساد داخل مؤسسات الدولة، مستهدفًا كبار المسؤولين الحكوميين، الوزراء، رجال الاعمال وقادة المقاطعات والبلديات وكبار الجيش، هدفت حملة شي جين بينغ مكافحة الفساد "الذباب" و"النمور" على حد سواء، كما كان يحلو له أن يصف هذه الحملة ضد الفساد.
 
بحلول عام 2024 فُرضت عقوبات شديدة على أكثر من 2،4 مليون شخص، بمن فيهم شخصيات من جميع المستويات، من مسؤولين صغار إلى قادة رفيعي المستوى. وكما تُظهر جميع الدراسات، فإن الدول الأقل فسادًا تُعزز الرخاء والعدالة والثقة في مؤسسات الدولة، مع ضمان جودة حياة أفضل وثقة قوية في الحكومة، وهذا يتم بالاعتماد على قضاء مستقل ونزيه ومشاركة فعّالة من المجتمع المدني، بعيدًا عن القوانين التعسفية والسالبة للحرية.
 
يعرف كل من الاتحاد الأوروبي والصين أنهما بحاجة إلى بعضهما البعض كشركاء تجاريين، ولكن هذا مجرد توافق عام بالنسبة للصين، لا يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه شريك طبيعي ولا ذو أولوية. وفي هذا السياق، تسعى بكين الآن إلى إقامة تحالفات وشراكات مع الجنوب العالمي لموازنة بروكسيل، وخاصة واشنطن. وهذا هو بالضبط التحدي الذي يجب على المغرب مواجهته: ألا يسمح لنفسه بالانجراف إلى معسكر واحد، بل أن يواصل تعزيز سياسة التوازن الاستراتيجي والبراغماتي، المليئة بالحس السليم والوضوح، مع تنويع شراكاته والإعلان بصوت عالٍ عن استقلاله في صنع القرار.
 
الشراكة مع الولايات المتحدة مثالية، خاصة بعد الاعتراف بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية. من الضروري أن تتبع الصين نفس المسار وأن تدفع شركاتها الحكومية والخاصة أن تقوم باستثمارات مهمة في الأقاليم الجنوبية، لأن المغرب احترم دائمًا السيادة الإقليمية للصين، مع الالتزام بسياسة الصين الواحدة، وجمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الوحيدة للصين، ولم يستقبل لحد الآن أي تمثيلية ل "تايوان" على أراضيه، وفي إطار مبدأ المعاملة بالمثل، ينبغي تفعيل هذه المعادلة البسيطة.
 
أما العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فهي عميقة، وتُعزز جميع أشكال التبادل الثقافي والاقتصادي والإنساني، نظرًا للروابط التاريخية والقرب الجغرافي والجالية المغربية الكبيرة المقيمة هناك التي اختارت هذه السنة قضاء عطلتها في دول أخرى غير المغرب، قائمة المظالم طويلة ومتنوعة: أسعار باهظة، سوء الخدمات في بعض الاحيان، ناهيك عن الشكاوى المقدمة إلى المحاكم المغربية والتي غالبًا ما تظل دون رد. ومع ذلك، يظل الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الرئيسي للمغرب، بتبادل تجاري بلغ 60 مليار يورو العام الماضي.
 
بعد زيارة جلالة الملك محمد السادس للصين عام 2016، اختار المغرب الانفتاح على الصين في إطار "طرق الحرير الجديدة"، مما أعطى زخمًا جديدًا للاستثمارات الصينية في المملكة، لا سيما في قطاعات السيارات والطاقة المتجددة والبنية التحتية وغيرها، مع ذلك، لا يزال المغرب حذرًا للغاية وحرصًا على عدم المساس بعلاقاته المتميزة مع الدول الغربية.
 
ومع ذلك، إذا ما تعرضت السيادة الوطنية للتهديد أو الانتهاك، فقد أظهرت الرباط شجاعةً وحزمًا لإنهاء جميع العلاقات الدبلوماسية مع كبرى دول الاتحاد الأوروبي، كما حدث مع فرنسا أو ألمانيا. تُمثل الأقاليم الجنوبية المغربية، شأنها شأن تايوان بالنسبة للصين، الخط الأحمر المطلق الذي سيبقى، مهما حدث، راسخًا في الوعي الجماعي والهوية المغربية.