المعروف أن موسى عليه السلام هو من قاد بني إسرائيل خروجًا من مصر، هاربًا من بطش فرعون، باحثًا عن أرض الحرية والكرامة. أما “سي موسى” الذي نتحدث عنه اليوم، فقصته مختلفة تمامًا: لم يكن مطاردًا، بل نشأ صغيرًا ثم كبر أمام أعين الجميع، إلى أن دخل “فاتحًا” مدينة أزغنغان. أتباعه ليسوا من المستضعفين، بل من فقهاء ورجال دين، وسياسيين ومنتخبين وموظفين عموميين، وإعلاميين، وعدد وافر من المغنين والمغنيات. اصطفّ الجميع خلفه، لا لأنه نبيّ يحمل رسالة، بل لأنه يوزّع العطاء بسخاء.
أزغنغان لم تكن يومًا منطقة عابرة في تاريخ المغرب. فقد اشتهرت بجهادها ضد الاستعمار الإسباني، ومنها خرج المجاهد الشريف محمد أمزيان، الذي خاض أكثر من مائة معركة حتى استُشهد سنة 1912. حتى الرحّالة ابن بطوطة ذكرها في أسفاره، وقيل إنه بات فيها ذات ليلة. واليوم، تُذكر في الإعلام الدولي بعرسها الباذخ… أي مفارقة أقسى من أن تتحوّل مدينة المجاهدين إلى مدينة الأعراس المخدومة ؟
كان “العرس ” أقرب إلى مهرجان جماهيري: آلاف الحاضرين، سيارات فارهة، أموال تُصرف بسخاء، وأجواء صاخبة جذبت القريب والبعيد. وما أثار الجدل أكثر هو المنصة الغنائية التي جمعت عددًا من المغنين والمغنيات، في صورة كشفت كيف يتحوّل الفن إلى أداة لتبييض المال، مع غياب كامل للحس الأخلاقي.
لكن المعضلة الأعمق أن المئات حضروا بكثافة. الموظفون جلسوا في الصفوف الأمامية، الفقهاء باركوا، الفنانون غنّوا، والسواد الأعظم يرقص ويصفق. بدا المشهد وكأن الجميع منخرط في الكتيبة، والكل يُهلّل للمال، أيًّا كان مصدره. وهنا تتجلّى المأساة: حين يصبح المال، لا القيم، هو معيار الشرعية الاجتماعية.
العريس وقبله كثيرون، لم يهبطوا من السماء. كبروا أمام أعين الجميع، راكموا الثروات، تمدّد نفوذهم، ونالوا الحفاوة والتقدير. والسبب بسيط فالمجتمع نفسه طبّع مع المال قبل أن تطبّع معه الإدارة. حين يُبنى مسجد وتُموَّل رحلات الحج والعمرة من أموال المخدرات أو المال المنهوب من الصفقات ، ولا يُطرح السؤال؛ وحين يُغنّى على منصّات تُموّل من مصادر مجهولة دون حرج، فإن السؤال الأخلاقي “من أين لك هذا؟” يتلاشى، لتحلّ محله نشوة الاستفادة الآنية.
عرس أزغنغان ليس استثناءً. قبله كان عرس الفقيه بن صالح، وعرس مراكش حيث فُتح جسر جوي لنقل الحلويات من باريس، وعرس الجنوب الذي لم يخلُ من استعراض فجّ. وفي كل مرة، يتكرر المشهد: بذخ بلا حدود، مال مشبوه، وجمهور يصفق.
أم الدرس واحد ، فهذه الأعراس، مهما اختلفت الأسماء والوجوه، تعكس نفس المرض. مرض المال الأسود حين يتغلغل في النسيج الاجتماعي، فيشتري الصمت، ويشتري الغناء، ويشتري التصفيق. لا فرق بين “موسى” ومن سبقوه ما دامت البيئة واحدة، من مجتمع مبهور، ونخب ثقافية وفنية وإعلامية فقدت البوصلة الأخلاقية مع ادارة متساهلة من حين لآخر .
يقينا ان التحقيقات والتحريات قد انطلقت، ولكن إن لم نفتح نقاشًا عميقًا حول هذه الظاهرة، سنظل ندور في نفس الحلقة: نغضب، نستهزئ، نحقق… ثم نعود لنصفّق للعرس المقبل. وبين عرس وآخر، يربح المال الاسود مزيدًا من النفوذ، بينما نخسر نحن ذاكرة مدننا، وقيمنا الجماعية، ومعنى القانون في حياتنا اليومية.
