شهدت مدينة تاونات وقفة احتجاجية أمام المستشفى الإقليمي للمطالبة بتحسين الخدمات الصحية، بسبب نقص التجهيزات وتأخر العلاجات. المحتجون عبروا عن استيائهم من الوضع الصحي الصعب، مطالبين بتدخل عاجل من السلطات الإقليمية..
فيما يلي وجهة نظر الكاتب عبد العزيز الخبشي:
لم تكن الوقفة الاحتجاجية التي جسدها حرائر وشرفاء ومناضلو تاونات أمام المستشفى الإقليمي يوم 25 غشت 2025، مجرد تعبير بسيط عن غضب عابر، بل كانت مواجهة مفتوحة مع سياسة التهميش الممنهجة التي تحكم على الإقليم بالاحتضار البطيء.
إن ما وقع أمام تلك المؤسسة الصحية المهترئة لم يكن سوى صورة مكثفة عن واقع الظلم الصحي الذي يُمارَس في حق ساكنة تاونات منذ عقود، وكأن هذه الرقعة من الوطن ليست سوى هامش منسي لا يستحق الحياة الكريمة.
المستشفى الذي يفترض أن يكون ملاذاً للمرضى، تحول إلى شاهد على مأساة جماعية: نقص حاد في الأطر الطبية، غياب شبه كلي للأطباء الاختصاصيين، رداءة التجهيزات، ومعاملة تفتقر إلى أبسط شروط الإنسانية. حين يضطر المواطن البسيط إلى أن يصرخ أمام بوابة المستشفى مطالباً بحق بديهي هو العلاج، فإن ذلك يعني أن الدولة لم تفشل فقط في تدبير ملف الصحة، بل أبانت عن احتقار ممنهج لكرامة المواطن، واستهتار بوجوده.
إن هذه الوقفة لا يمكن قراءتها في حدودها المكانية فقط، فهي تتجاوز المستشفى لتعلن عن أزمة عميقة تعكس جوهر السياسات العمومية في المغرب.
ما جرى في تاونات يختزل حقيقة أن الدولة اختارت منذ زمن طويل تكريس منطق المركز والهامش: مدن كبرى تتكدس فيها المشاريع، والموارد، والمستشفيات الجامعية، بينما الأقاليم المهمشة، كتاونات، تُركت نهباً للقدر، يعاني أهلها في صمت ويُدفنون في صمت.
هنا تظهر بجلاء الطبيعة الطبقية للنظام الصحي: علاج لائق لمن يستطيع أن يدفع ثمنه في المصحات الخاصة، وفتات من الخدمات المتهالكة للفقراء الذين يجدون أنفسهم رهائن في يد مؤسسات لا تقدم سوى الموت البطيء. لذلك فالمسألة ليست مسألة تقصير إداري أو سوء تدبير، بل هي انعكاس لاختيارات سياسية طبقية منحازة، حيث يُعتبر المواطن البسيط مجرد فائض ديمغرافي بلا قيمة.
ومن هنا يطرح السؤال الحارق: هل ستستجيب الجهات المختصة لهذه الصرخة؟ التجارب السابقة تعلمنا أن الدولة لا تتحرك إلا تحت ضغط الشارع، وأنها لم ولن تستجيب طواعية لمطالب الساكنة. ما نراه كل مرة هو السيناريو المكرر: تصريحات رسمية مطمئنة، زيارات مفاجئة لمسؤولين محليين أو مركزيين، ووعود بإصلاحات مستقبلية، ثم تعود الأمور إلى سيرتها الأولى. هذه لعبة قديمة لم تعد تنطلي على أحد. فساكنة تاونات تدرك اليوم أن حقوقها لا تُمنح بل تُنتزع، وأن أي صمت جديد من طرف السلطات لن يعني سوى تكريس مزيد من التهميش. لذلك فإن قوة هذه الوقفة لا تكمن فقط في مضمونها، بل في كونها تفتح أفقاً لنضال شعبي متواصل يفضح هذا النظام الصحي المهترئ ويدفع نحو تغيير جذري في طريقة تدبير الشأن العام.
إننا أمام لحظة فارقة تكشف بوضوح الفجوة العميقة بين خطاب الدولة وواقعها. الدولة تتغنى بالنموذج التنموي الجديد، بالعدالة الاجتماعية، وبالحق في الصحة كحق دستوري، لكنها في الواقع تواصل إعادة إنتاج نفس آليات الإقصاء والتفاوت. ما جدوى الحديث عن التنمية إذا كان المريض يموت على باب المستشفى لأنه لم يجد طبيباً أو سريراً أو دواءً؟ ما جدوى الحديث عن الكرامة إذا كان المواطن التاوناتي يضطر إلى بيع ما يملك لينقل قريبه نحو فاس أو الرباط بحثاً عن علاج يفترض أن يكون متاحاً في مدينته؟ إنها مفارقة قاتلة: خطاب رسمي يتحدث عن مغرب صاعد، وواقع يومي يصرخ بوجود مغرب آخر غارق في الهامش، حيث لا صحة ولا عدالة ولا مساواة.
إن الجهات المختصة اليوم أمام امتحان حقيقي. إما أن تُثبت أن خطاب الإصلاح والتنمية ليس مجرد دعاية سياسية، وذلك عبر إجراءات ملموسة تبدأ بتجهيز المستشفى وتوفير الموارد البشرية الكافية وتحسين ظروف الاستقبال، أو أن تعترف ضمنياً بأن هذا الخطاب ليس سوى واجهة لتغطية سياسات طبقية لا ترى في المواطن الفقير سوى عبء يجب إسكاته. إن الاحتجاج أمام المستشفى لم يكن حدثاً عادياً، بل كان بمثابة إعلان صريح من ساكنة تاونات أنها لم تعد تقبل الموت البطيء في صمت. وإذا لم تتحرك الدولة فوراً، فإنها ستتحمل مسؤولية مباشرة في أي انفجار اجتماعي قادم، لأن الناس حين يُحرمون من الصحة يُحرمون من أبسط شروط الحياة.
إن السؤال ليس هل ستستجيب الدولة، بل إلى متى ستظل تتهرب من مسؤولياتها؟ الوقفة الاحتجاجية في تاونات ليست سوى بداية لمسار نضالي يجب أن يستمر ويتوسع، لأن معركة الصحة ليست مطلباً قطاعياً، بل هي معركة من أجل الكرامة والعدالة والمساواة. وإذا كانت الدولة لا تفهم إلا لغة الضغط، فإن على الساكنة والمناضلين أن يواصلوا الضغط بكل الأشكال النضالية الممكنة، حتى يدرك من في موقع القرار أن تاونات ليست هامشاً صامتاً، بل قلب نابض بالرفض والكرامة. هذه ليست مجرد رسالة احتجاج، بل هي إنذار صارخ موجَّه إلى دولة لم تتعلم بعد أن الشعوب لا تموت، وأن الحق في الصحة ليس منحة من أحد، بل هو حق يُنتزع بالنضال والتضحيات.
