Saturday 19 July 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: عبث النشر في زمن الفيسبوك

عبد الرفيع حمضي: عبث النشر في زمن الفيسبوك عبد الرفيع حمضي
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للتقارب وتبادل الأفكار، بل تحولت، شيئًا فشيئًا، إلى مساحات مفتوحة للنشر الآني، لحياتنا الخاصة وبدون حواجز. وهو أمر يمكن تفهّمه حين يصدر عن شباب في مقتبل العمر، يبحثون عن التفاعل أو الاعتراف أو مجرد التسلية. لكن هذا الانفلات لم يعد حكرًا على المستعملين العاديين أو المراهقين، بل تسلّل إلى فئات من المفترض أنها أكثر وعيًا،نخب فكرية، جامعية ، سياسية، بل حتى شخصيات تتولى مسؤوليات عامة.

صار الفيسبوك لدى بعضهم دفترًا مفتوحًا للحياة الشخصية، وللحظات إنسانية مؤلمة أو حميمية يتم تحويلها إلى محتوى قابل للمشاركة والتعليق والإعجاب. فلم نعد نميز بين ما يهم الناس وما يزعجهم، بين ما يُشترك فيه وما لا يُشترك، بين العام والخاص.

ما الذي يدفع شخصًا، مهما كان موقعه، إلى تحويل كل لحظة من حياته إلى خبر؟
هل هو بحث عن التعاطف؟ ام عن تأكيد الوجود؟ ام رغبة في  إثبات الحضور؟ أم المسافة بين الخاص والعام صارت معدومة في زمن “اللاخصوصية”؟
يكفي أن تقوم بجولة عشوائية على حائط فيسبوك في أي لحظة من اليوم لتصادف نماذج  من هذا العبث المُعلَن، تصدر أحيانًا عن أسماء يُفترض أنها تزن الكلمة بميزان المعنى والمسؤولية:
أحدهم يكتب: “قبل لحظات أسلّم والدي روحه، مع صورة مؤثرة للفقيد  انكه المرض وهو يحتضر”…
وآخر ينشر في هذه الأثناء أنا ارقد بمصحة كذا  الكائنة بشارع ….من أجل عملية جراحية دقيقة وخطيرة”، مرفقة بصورة على سرير المستشفى ونصفه الأعلى عاريا .
وثالث يدوّن : “زوجتي فقدت اليوم أخو زوج ابن خالتها من أمها… وأي كلام!”
وهذا فيديو لآخر يحتفل بـ “عملية ختان طفله الرضيع ذي الأربعة أشهر”، تتخلله صور مقرّبة للطفل، وكأننا في مناسبة عامة، لا لحظة خاصة تستحق الستر.
هذه أمثلة ليست من وحي الخيال، بل من واقع يومي متكرر، يعكس ضمور الحسّ بالخصوصية، وتضخم الرغبة في مشاركة كل شيء، ولو على حساب الذوق، ومشاعر الآخرين.
وما يزيد الأمر حساسية بل خطورة ، أننا لا نكتفي بنشر تفاصيل حياتنا، بل نُقحم معنا من لا صوت لهم ولا قدرة لهم على الموافقة أو الرفض.

 
فقط لأننا أولياء أمورهم، نسمح لأنفسنا بنشر صور أطفالنا، وتفاصيل حياتهم، ولحظاتهم الخاصة، بحجّة أننا نشاركهم فرحة النجاح، أو نحتفي ببراءتهم، أو نوثّق لحظات “عائلية” نراها جميلة.
ننشر صور أطفال لم يتجاوزوا العام، أو لم تطأ أقدامهم المدرسة بعد، دون أن نمنحهم أبسط حقوقهم: حقّهم في أن لا يُعرَضوا.

 
نفعل الشيء نفسه مع أمهاتنا وآبائنا، داخل بيوتهم، في جلساتهم العائلية، أو حتى في لحظات مرضهم وضعفهم، وكأن المحبة تُبرر تجاوز الخصوصية.
نصوّرهم لأننا نحبهم، لا لأنهم وافقوا على أن يكونوا “محتوى” يُشارك على الملأ.
لكن لا المحبة، ولا صفة الأب أو الأم، تُعطي الحق في اقتحام المساحات الخاصة للآخرين، مهما كانت قربتهم.
الطفل ليس ملكًا لوالده.
والأب ليس مشهدًا نلتقطه ثم نعرضه على الناس بدافع الحنين أو التفاخر.
إنّ المحبة الحقيقية تبدأ من الاحترام،
إنّ هذا النشر المفرط للحياة الخاصة لا يمكن اختزاله فقط في قلة الذوق ، بل هو في عمقه تعبير عن أزمة أكبر: أزمة هوية واعتراف ووجود.
فوسائل التواصل الاجتماعي "أصبحت “ساحة للاعتراف الرمزي”، (أكسل هونيث)
حيث يبحث الأفراد عن تقدير الذات من خلال نظرة الآخرين، ولو كانت نظرة عابرة أو سطحية.

 
كما يؤكد  عدد من علماء النفس، منهم بول ووترز، أن “الإفراط في مشاركة الخصوصيات هو نتيجة لشعور داخلي بالهشاشة، يدفع الإنسان إلى طلب التعاطف العلني كوسيلة لتسكين ألم داخلي لم يجد له مخاطبًا حقيقيًا”. وهذا ما يفسر تعمد بعض الأشخاص الإفراط في مشاركة لحظات الحزن أو الفقد أو الضعف، بدل الاحتفاظ بها في دائرتها الإنسانية الحميمة.
في الثقافة المغربية، لطالما ارتبطت الخصوصية بمفهوم “الستر”، لا من باب الحرج، بل من باب احترام الكرامة الإنسانية، ومراعاة لمشاعر الآخرين.

 
لكننا اليوم، نرى من ينقل إلى العلن ما لا يُقال، لا لشيء إلا من أجل لايكlik أو تفاعل عابر.
وفي هذا السياق، يجدر أن نتذكر بأن كل تدوينة هي شكل من أشكال النشر… حتى لو أقنعت نفسك بالعكس.
حين نكتب في مجلة أو صحيفة، أو نطلّ عبر أثير إذاعة أو شاشة تلفزة، نُسائل أنفسنا:
“هل ما كتبته يستحق؟ هل فيه ما يُفيد الناس؟ ما الإضافة؟”
لكن الغريب، أن هذا السؤال يغيب تمامًا حين نهمّ للتعبير  على فيسبوك…
وكأن الفضاء الرقمي مساحة مباحة لكل ما يخطر في البال، بلا ميزان ولا معيار.
ألا يستحق كل ما نكتبه ان نطرح سؤالاً بسيط 
بماذا ستفيد؟ هل تنفع، أم تجرح؟ هل تُعبّر، أم تُثرثر؟”
الكتابة مسؤولية، ولو كانت مجرّد سطر في تدوينة.
ولعلّنا لو تريّثنا قبل أن نضغط على زر “نشر”،
لكان الفضاء أكثر رحمة،والكلمات… أكثر حياة .

 
إن الرأي  العام لا ينتظر من   نخبته الثقافية والفكرية والسياسية غسيل يومياتهم  بل ينتظر منهم الأفكار، والرؤى، والمواقف وتقديم الحساب على مسؤولياتهم .
ينتظر من النخبة أن تُنير له الطريق، لا أن تُشغله بضوء خافت لا ينفع الناس.
الفايسبوك فضاء للنشر وليس "للنشير "