في قلب المشهد البرلماني المغربي، لا تعكس الوقائع سوى حقيقة دامغة: لا توجد معارضة بالمعنى السياسي الجاد، بل معارضات متنافرة، تفتقر إلى الحد الأدنى من الانسجام، ولا يجمع بينها إلا وهم الاصطفاف ضد الحكومة. مشهد يفيض بالتصريحات المتبادلة، والاتهامات المبطّنة حينًا، والمباشرة أحيانًا أخرى، كما هو الحال في الاشتباك السياسي الأخير بين إدريس لشكر ونبيل بنعبد الله، والذي يُظهر بجلاء أن التناقض ليس مع السلطة التنفيذية وحدها، بل أولًا بين من يُفترض أن يكونوا حلفاء في معسكر الرقابة والمساءلة.
تخرج زعامة حزب التقدم والاشتراكية لتردّ بلهجة لا تخلو من التحدي على اتهامات الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، متهمة إياه بـ"التشكيك المجاني" في مواقف حزب "الكتاب"، رافضة منطق التخوين والإلقاء باللائمة على الآخر، مذكّرة بخبرة الحزب في الاصطفاف النضالي، لكن، وعلى الرغم من ما قد يبدو ردًّا مشروعًا، فإن الأزمة أعمق بكثير من مجرد خلاف بين زعيمين حزبيين، إنها أزمة تصور وموقع وأفق، تعكس تفكك بنية "المعارضة" ذاتها، وتحوّلها إلى فسيفساء من المصالح المتقاطعة أكثر من كونها جبهة موحدة بقضايا ومطالب واضحة.
الحديث عن ملتمس الرقابة الذي لم يرَ النور، والذي أُجهض حتى قبل أن يُولد، ليس مجرد فشل برلماني بل هو فشل سياسي في المقام الأول. فحين تُفشل مكونات المعارضة ذاتها هذا السلاح الدستوري النبيل، بسبب حسابات صغرى وصراعات زعاماتية، يصبح البرلمان مجرد مسرح للخطابة لا أكثر، وتتحول المعارضة من أداة تصحيحية في النظام السياسي إلى عبء على تطلعات الشعب.
إن من يتأمل في خطاب زعماء هذه "المعارضات" سيدرك دون عناء أن الرؤية غائبة، وأن المصلحة الحزبية الضيقة تُهيمن على القرارات، وأن التنسيق ليس سوى واجهة شكلية لا عمق لها. فكيف يمكن لحزب أن يتهم حليفًا محتملا في المعارضة بأنه ساهم في إفشال ملتمس الرقابة، دون أن يضع بذلك لبنة إضافية في جدار فقدان الثقة المتبادل؟ كيف يمكن بناء معارضة فعالة دون الحد الأدنى من الاحترام السياسي المتبادل والقدرة على التنازل من أجل هدف مشترك؟
في هذا السياق، لا يمكن إلا أن نستحضر كيف تحولت مفاهيم النضال والمعارضة من رهانات تاريخية إلى تكتيكات ظرفية، وكيف صار الخطاب السياسي المعارض مهووسًا بالصدى الإعلامي أكثر من انشغاله ببناء بدائل. فقد يكون من المفهوم أن تختلف الأحزاب في البرامج والتوجهات، لكن ما لا يمكن تبريره هو أن تصبح هذه الاختلافات سببًا في تآكل أي احتمال لبناء قطب سياسي بديل. هذه هي الخيانة الحقيقية لمهام المعارضة، وهذه هي الهدية التي لا تثمّن التي تُقدّمها المعارضة المفككة للأغلبية الحكومية: تمرير كل الملفات دون عناء، مهما كانت درجة حساسيتها.
فحين تنكفئ مكونات المعارضة على صراعاتها، يصبح النقاش حول الأسعار، والعدالة الاجتماعية، والتعليم، والصحة، مجرد تفاصيل هامشية. تصبح كل القضايا الكبرى رهينة صمت مريب، أو تصريحات موسمية، وتُترك الحكومة تنفذ أجندتها دون مقاومة فعلية. لا لأن مشروعها مقنع، بل لأن مقاوميها متخاصمون، عاجزون، مهووسون بمرآة الزعامة وتصفية الحسابات التاريخية.
في هذا المناخ، يغدو الحديث عن "معارضة" مجرد تسويق لفظي، أشبه بعلامة تجارية أُفرغت من مضمونها. فالمعارضة ليست شعارًا يُرفع، ولا خطابًا يُلقى، بل موقع سياسي يتطلب اتساقًا في الرؤية، وشجاعة في الموقف، وقدرة على التنسيق والتنازل، وتقديم التناقض الرئيسي على الثانوي. وهو ما لا يبدو واردًا اليوم، حيث إن التناقض الرئيسي في نظر بعض مكونات المعارضة هو حليفها المفترض، لا الحكومة ذاتها، وحيث إن المعركة الحقيقية تُخاض داخل المعارضة وليس ضد من يمتلك أدوات السلطة.
إن المشهد الراهن لا يُبشّر إلا باستمرار الرداءة، ما دامت المعارضة ترفض أن تتعافى من انقساماتها، وما دامت أولوياتها مقلوبة، تُقدّم فيها الزعامات على القضايا، والخلافات على المشترك، والعداء الحزبي على الانحياز لمصالح الناس. وفي ظل هذا الفراغ، تستفيد الحكومة من ضعف خصومها، لا من قوة حججها، وتربح الوقت السياسي وتُمرّر برامجها، لا لأنها مقنعة، بل لأن من يواجهها مشغولٌ بخوض المعارك الجانبية.
لذلك، فإن السؤال الجوهري لم يعد مرتبطًا بأداء الحكومة وحدها، بل كذلك بقيمة المعارضة التي تُفترض أن تراقبها وتكشف اختلالاتها وتقترح البدائل. فالمشهد البرلماني ليس سوى صورة مصغّرة لخلل أعمق في النظام الحزبي والسياسي، حيث تلاشت الحدود بين المشروع واللا مشروع، بين التكتيك والمبدأ، بين الخط النضالي والانبطاح الانتخابي.
وحين تصير المعارضة عاجزة عن إنتاج موقف موحد في لحظة سياسية تتطلب الحزم والمسؤولية، فإنها لا تفشل في أداء دورها فحسب، بل تتحول إلى جزء من الأزمة، إلى ما يشبه الشاهد الزور على ما يجري. لا تكتفي بالغياب، بل تُقننه، وتُشرعنه، وتُضفي عليه بعدًا طبيعيًا، كما لو أن الانقسام قدر سياسي.
ولذلك، فإن بناء معارضة حقيقية لا يبدأ من تراشق الكلام بين الزعماء، ولا من مناورات توزيع اللوم، بل من إدراك عميق بأن لا تغيير ممكن دون وحدة على أساس الوضوح، لا المساومة، وأن أي معارضة لا تحمل مشروعًا للتحول الاجتماعي والسياسي الشامل، ولا تفرّق بين العدو الموضوعي والتناقض الثانوي، ستظل مجرد صدى باهت لنظام يعيد إنتاج نفسه كل يوم، عبر خصومه قبل حلفائه.
تخرج زعامة حزب التقدم والاشتراكية لتردّ بلهجة لا تخلو من التحدي على اتهامات الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، متهمة إياه بـ"التشكيك المجاني" في مواقف حزب "الكتاب"، رافضة منطق التخوين والإلقاء باللائمة على الآخر، مذكّرة بخبرة الحزب في الاصطفاف النضالي، لكن، وعلى الرغم من ما قد يبدو ردًّا مشروعًا، فإن الأزمة أعمق بكثير من مجرد خلاف بين زعيمين حزبيين، إنها أزمة تصور وموقع وأفق، تعكس تفكك بنية "المعارضة" ذاتها، وتحوّلها إلى فسيفساء من المصالح المتقاطعة أكثر من كونها جبهة موحدة بقضايا ومطالب واضحة.
الحديث عن ملتمس الرقابة الذي لم يرَ النور، والذي أُجهض حتى قبل أن يُولد، ليس مجرد فشل برلماني بل هو فشل سياسي في المقام الأول. فحين تُفشل مكونات المعارضة ذاتها هذا السلاح الدستوري النبيل، بسبب حسابات صغرى وصراعات زعاماتية، يصبح البرلمان مجرد مسرح للخطابة لا أكثر، وتتحول المعارضة من أداة تصحيحية في النظام السياسي إلى عبء على تطلعات الشعب.
إن من يتأمل في خطاب زعماء هذه "المعارضات" سيدرك دون عناء أن الرؤية غائبة، وأن المصلحة الحزبية الضيقة تُهيمن على القرارات، وأن التنسيق ليس سوى واجهة شكلية لا عمق لها. فكيف يمكن لحزب أن يتهم حليفًا محتملا في المعارضة بأنه ساهم في إفشال ملتمس الرقابة، دون أن يضع بذلك لبنة إضافية في جدار فقدان الثقة المتبادل؟ كيف يمكن بناء معارضة فعالة دون الحد الأدنى من الاحترام السياسي المتبادل والقدرة على التنازل من أجل هدف مشترك؟
في هذا السياق، لا يمكن إلا أن نستحضر كيف تحولت مفاهيم النضال والمعارضة من رهانات تاريخية إلى تكتيكات ظرفية، وكيف صار الخطاب السياسي المعارض مهووسًا بالصدى الإعلامي أكثر من انشغاله ببناء بدائل. فقد يكون من المفهوم أن تختلف الأحزاب في البرامج والتوجهات، لكن ما لا يمكن تبريره هو أن تصبح هذه الاختلافات سببًا في تآكل أي احتمال لبناء قطب سياسي بديل. هذه هي الخيانة الحقيقية لمهام المعارضة، وهذه هي الهدية التي لا تثمّن التي تُقدّمها المعارضة المفككة للأغلبية الحكومية: تمرير كل الملفات دون عناء، مهما كانت درجة حساسيتها.
فحين تنكفئ مكونات المعارضة على صراعاتها، يصبح النقاش حول الأسعار، والعدالة الاجتماعية، والتعليم، والصحة، مجرد تفاصيل هامشية. تصبح كل القضايا الكبرى رهينة صمت مريب، أو تصريحات موسمية، وتُترك الحكومة تنفذ أجندتها دون مقاومة فعلية. لا لأن مشروعها مقنع، بل لأن مقاوميها متخاصمون، عاجزون، مهووسون بمرآة الزعامة وتصفية الحسابات التاريخية.
في هذا المناخ، يغدو الحديث عن "معارضة" مجرد تسويق لفظي، أشبه بعلامة تجارية أُفرغت من مضمونها. فالمعارضة ليست شعارًا يُرفع، ولا خطابًا يُلقى، بل موقع سياسي يتطلب اتساقًا في الرؤية، وشجاعة في الموقف، وقدرة على التنسيق والتنازل، وتقديم التناقض الرئيسي على الثانوي. وهو ما لا يبدو واردًا اليوم، حيث إن التناقض الرئيسي في نظر بعض مكونات المعارضة هو حليفها المفترض، لا الحكومة ذاتها، وحيث إن المعركة الحقيقية تُخاض داخل المعارضة وليس ضد من يمتلك أدوات السلطة.
إن المشهد الراهن لا يُبشّر إلا باستمرار الرداءة، ما دامت المعارضة ترفض أن تتعافى من انقساماتها، وما دامت أولوياتها مقلوبة، تُقدّم فيها الزعامات على القضايا، والخلافات على المشترك، والعداء الحزبي على الانحياز لمصالح الناس. وفي ظل هذا الفراغ، تستفيد الحكومة من ضعف خصومها، لا من قوة حججها، وتربح الوقت السياسي وتُمرّر برامجها، لا لأنها مقنعة، بل لأن من يواجهها مشغولٌ بخوض المعارك الجانبية.
لذلك، فإن السؤال الجوهري لم يعد مرتبطًا بأداء الحكومة وحدها، بل كذلك بقيمة المعارضة التي تُفترض أن تراقبها وتكشف اختلالاتها وتقترح البدائل. فالمشهد البرلماني ليس سوى صورة مصغّرة لخلل أعمق في النظام الحزبي والسياسي، حيث تلاشت الحدود بين المشروع واللا مشروع، بين التكتيك والمبدأ، بين الخط النضالي والانبطاح الانتخابي.
وحين تصير المعارضة عاجزة عن إنتاج موقف موحد في لحظة سياسية تتطلب الحزم والمسؤولية، فإنها لا تفشل في أداء دورها فحسب، بل تتحول إلى جزء من الأزمة، إلى ما يشبه الشاهد الزور على ما يجري. لا تكتفي بالغياب، بل تُقننه، وتُشرعنه، وتُضفي عليه بعدًا طبيعيًا، كما لو أن الانقسام قدر سياسي.
ولذلك، فإن بناء معارضة حقيقية لا يبدأ من تراشق الكلام بين الزعماء، ولا من مناورات توزيع اللوم، بل من إدراك عميق بأن لا تغيير ممكن دون وحدة على أساس الوضوح، لا المساومة، وأن أي معارضة لا تحمل مشروعًا للتحول الاجتماعي والسياسي الشامل، ولا تفرّق بين العدو الموضوعي والتناقض الثانوي، ستظل مجرد صدى باهت لنظام يعيد إنتاج نفسه كل يوم، عبر خصومه قبل حلفائه.