Monday 30 June 2025
كتاب الرأي

سعيد العزوزي: طوطو والشباب... مرآة لوطن يهرب من أسئلته الكبرى

سعيد العزوزي: طوطو والشباب... مرآة لوطن يهرب من أسئلته الكبرى سعيد العزوزي
مساء يوم السبت 28 يونيو 2025 لم تكن الرباط كباقي الأيام حيث توقفت المدينة عن عادتها، واكتظت الشوارع بجحافل من الشباب والشابات، بل وحتى الأسر من مختلف الجهات والطبقات، يتزينون بأجمل الأزياء، يسرعون الخطى نحو منصة السويسي، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الراب، ولا حضور يضاهي الحضور الجماهيري الصاخب. وكأن الساحات لم تعد تتسع إلا لصرخة كتمت طويلا، فخرجت على هيئة إيقاع جريء، وعبارات حادة، واحتشاد لا تعبر عنه تقارير المؤسسات، ولا تفسره خطب النخب المثقفة.

حفل "El Grande Toto" لم يكن حدثا فنيا عاديا، بل لحظة رمزية، تهز كل من يملك الجرأة على الإصغاء. إنها صفعة ناعمة، ولكنها عميقة، لسياسات عمومية مرتجلة، لرؤى ثقافية لم تغادر مكاتبها الوثيرة، ولمنظومة شبابية حائرة بين التجاهل الرسمي والاستيعاب السطحي. ما جرى لا يفسر بنبرة الأخلاق، بل يقرأ بعين فلسفية ثاقبة.

الحشود التي غمرت الفضاء لم تأتِ بدافع الإعجاب وحده، بل جاءت لتقول: نحن هنا. من حرموا من الفضاءات، ومن صودر صوتهم، ومن غابوا عن مشهد القرار، حضروا بقوة، وفرضوا ذواتهم في فضاء عمومي حرموا منه طويلا. هؤلاء هم نفس الشباب الذين في جزء كبير منهم لا يصوتون، ولا يثقون في السياسة، ولا يشعرون بأنهم معنيون بالجاهز من المشاريع الحكومية المعزولة عن واقعهم أحلامهم ... لكنهم حين يجدون فنا يشبههم، يهرعون إليه. فطوطو لم يجبر أحدا على الحضور، بل جاءه كل فج عميق من شعر بأنه يحاكي وجعه ولا يمطره بوابل من الإملاءات...

وفي المقابل، أصيبت النخبة بالذهول، ساسة ومثقفون وإعلاميون...يطرحون نفس السؤال بدهشة مستفزة: هل هذا هو جيل المستقبل؟ بعضهم وصف الأمر بانهيار الذوق، والبعض الآخر رآه انحدارا في سلم القيم. لكن الواقع أعمق من هذا وذاك، إنها مواجهة رمزية بين جيلين: جيل يتكلم من فوق، بلغة متعالية، وجيل يصرخ من الأسفل، بلغة خشنة ولكنها صادقة.

المشكل ليس في "طوطو"، بل في الفراغ الذي يعيشه الشباب، حين تتحول السياسات العمومية إلى مناسبات موسمية، وتتكرر الوجوه والبرامج والشعارات، وتختزل وزارة الشباب في إدارة المخيمات، وتهمش الجمعيات الجادة، ويقصى الفاعلون المدنيون، ويغيب الشباب عن الإعلام العمومي، فمن الطبيعي أن تبحث فئة بأكملها عن منبر آخر، عن صوت بديل، عن خطاب لا يخجلها من واقعها.

ويزداد هذا الفراغ اتساعا حين يفكر بعض المسؤولين بمنطق الربح والخسارة، ويسعون لتحويل الخدمة العمومية إلى سلعة للبيع، ويسمح بإغلاق مؤسسات حاضنة للشباب كانت تراكم في جدرانها أحلام جيل كامل من المبدعين والمهمشين. وحين تغلق أبواب المراكز الثقافية، أو تتحول إلى مشاريع ممسوخة بلا روح، يصبح الميكروفون في الشارع أكثر صدقا من كل كامرات رسمية تبث صور رامج ومشاريع باهتة...

فن الراب، الذي نراه اليوم يملأ المنصات ويحتل الفضاءات العمومية، ليس مجرد موضة عابرة، بقدرما هو تعبير حديث عن معاناة قديمة يضع الإصبع على الجرح وينحت بالصوت ما لا يقال في نشرات الأخبار إنه صرخة في وجه الفراغ...وكأن التاريخ يعيد نفسه: ألم نر شيئا شبيها في سبعينيات القرن الماضي مع الظاهرة الغيوانية؟ فن خرج من رحم المجتمع من قلب الأحياء الشعبية ليصارع التهميش والألم، وتعرض في بداياته للاستهجان والتكفيرات الذوقية، قبل أن تعترف به النخبة نفسها كرافعة لوعي جماعي وصوت من لا صوت له.

الراب، وإن اختلف في اللغة والشكل، فهو امتداد لتلك الروح الغيوانية هو تمرد فني على التهميش وصرخة من الهامش، في زمن يصم آذانه عن أنين شبابه. هو صوت جيل لا يطلب الموافقة، بل يفرض حضوره، ويطالب بحقوقه.

لذلك، بدل أن نلعن الراب وطوطو، لنسائل أنفسنا: أين الجامعة التي تنصت وتؤطر؟ أين دور الموسيقى والمسرح والسينما والفن التشكيلي... في تنمية الوعي؟ أين التلفزيون الذي يعكس واقع الشباب بدل أن يهذبه قسرا؟ أين السياسات العمومية التي تراهن على المستقبل لا على الورق؟ أين الفضاءات الثقافية العمومية التي تغذي الأحلام؟ أين النخب التي تملك الجرأة للنزول إلى الأرض لنحاور و تؤطر و تتفاعل ... لا مجرد التنظير من أعلى؟ وأين وزارة الشباب...؟؟؟ على قول الشاعر أحمد مطر
وأمام هذا المشهد المعبر.. على الجميع أن يعي جيدا أن المغرب لا يملك ترف إهدار رأسماله الحقيقي، فالتنمية بدون حوار حقيقي مع الشباب ضرب من الهم، والاستثمار دون إشراكهم خداع، إنهم لا يريدون صدقة من برامج هلامية كبرنامج متطوع على سبيل المثال ... ، بل شراكة في المصير في الحلم بمغرب جدير بشبابه لا يبحثون عن هوية تفرض، بل عن معنى حقيقي للشراكة تبنى بالمصداقية والإنصات الحقيقي لصوت الشباب ومؤسساته المدنية.