رغم أن المسؤولية الطبية في المغرب لا تزال مؤطرة بنصوص متفرقة وقديمة، ولا وجود لآلية واضحة للوساطة أو لقانون خاص يحمي الطبيب في مواجهة مخاطر الممارسة اليومية، فإن مشروع قانون متكامل قد تم إعداده ألا أنه لم ير النور بعد.
هذا المشروع تمّت دراسته من طرف أطباء، قانونيين، مرضى، برلمانيين، وممثلي وزارة الصحة، بالإضافة إلى الهيئة الوطنية للأطباء.
وفي أواخر أبريل 2025، أعادت جمعية أطباء النساء والتوليد الخواص بالرباط فتح النقاش حول هذه القضية المفصلية في الممارسة الطبية المغربية: المسؤولية الطبية.
لكن، في انتظار أن يتحرك الملف، لا بأس من إلقاء نظرة على ما يجري في بلدان أخرى.
كيف تُمارس المسؤولية الطبية في الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا ومصر؟
"البلوزة البيضاء لم يعد يحمي من العباءة السوداء... "
لقد أصبحت المسؤولية الطبية، التي كانت فيما مضى محمية بسرية المهنة وسلطة المعرفة، خاضعة اليوم للعدالة والإعلام، ولرأي عام أصبح أكثر جرأة ومطالبة بالحقوق.
من الولايات المتحدة إلى ألمانيا، ومن فرنسا إلى مصر، وصولاً إلى المغرب، أضحت قاعات المحاكم ساحات مواجهة بين الأطباء والمرضى أو ذويهم.
تحوّل صامت لكنه عميق يعيد تشكيل علاقة الطبيب بالمريض، ويؤثر على جوهر الممارسة الطبية ذاتها.
الولايات المتحدة: الطب تحت سطوة المحامين
تُعد الولايات المتحدة من أكثر الدول التي تخضع فيها المسؤولية الطبية لتدقيق شديد.
كل إجراء طبي قد يُفضي إلى دعوى قضائية.
ما يُعرف بـ malpractice suit أصبح صناعة قائمة بذاتها، حيث تُرفع سنوياً حوالي 15 ألف قضية ضد مهنيي الصحة.
محامون متخصصون، شركات تأمين شرسة، وثقافة تعويضات مالية حولت الخطأ الطبي إلى "كنز محتمل" للمتقاضين.
الكثير من الأطباء فقدوا مستقبلهم المهني بسبب تشخيص خاطئ أو تقصير بعد العمليات.
الخوف من المحاكمة أنتج ما يُسمى بـ"الطب الدفاعي": تحاليل زائدة، تدخلات غير ضرورية، فقط لتجنّب الوقوع تحت طائلة القانون.
ألمانيا : صرامة ... وندرة في الأحكام الثقيلة
في ألمانيا، يسير ملف المسؤولية الطبية ضمن نظام صارم ومتوازن.
المريض له الحق في تقديم شكوى، لكن آليات الوساطة، غالباً عبر الهيئات المهنية، تسبق اللجوء إلى القضاء.
المحاكمات نادرة، والعقوبات السجنية نادرة جداً.
ففي عام 2020، تم تسجيل حوالي 2000 شكاية ذات طابع جدي، لم تنتهِ إلا قلة قليلة منها بأحكام جنائية.
فرنسا: بين اللجوء للقضاء وروح التعويض
قانون "كوشنير" لسنة 2002 أعطى للمريض الفرنسي الحق في التعويض حتى دون وجود خطأ طبي، عبر التضامن الوطني (ONIAM).
ورغم ذلك، تُسجّل سنوياً أكثر من 10 آلاف شكوى ضد الأطباء، تنتهي حوالي 10% منها بإدانة.
السجن نادر، لكن العقوبات التأديبية (كالتوقيف أو المنع من المزاولة) أصبحت أكثر شيوعاً.
مصر: أحكام سريعة وغياب للحماية القانونية
الوضع في مصر مأساوي بالنسبة للأطباء.
تشهد البلاد موجة من "القضائية الشعبوية" تغذيها مواقع التواصل الاجتماعي.
يُحكم على أطباء بالسجن النافذ بسرعة، أحياناً بدون أي خبرة طبية مستقلة.
في سنة 2022، أثار الحكم على جرّاح بالسجن 10 سنوات بتهمة الإهمال المؤدي للوفاة، موجة استنكار داخلية ودولية.
الخوف من السجن دفع كثيراً من الأطباء الشباب إلى مغادرة البلاد أو تقليص نشاطهم.
الغياب التام لنص قانوني يُفرّق بين الخطأ المهني العادي وبين الحادث العرضي يزيد من تفاقم الوضع.
والمغرب؟ فراغ قانوني سحيق
المغرب ليس استثناء. فرغم ندرة الأحكام السجنية، إلا أن غياب الحماية القانونية يجعل الطبيب يعيش تحت ضغط دائم.
النصوص المؤطرة مشتتة وقديمة، ولا وجود لآلية وساطة فعالة، ولا قانون خاص يحصن المهنة.
القضايا تُرفع أمام المحاكم العادية، وغالباً دون خبرة طبية مستقلة.
محاكمات أطباء اتُّهِموا زوراً بنسيان شاش في بطن مريضة، أو متابعات أطباء نساء بسبب ولادات عسيرة، كلها تعكس الفراغ القانوني الخطير.
ورغم أن مشروع القانون الخاص بالمسؤولية الطبية تم الحديث عنه مراراً، إلا أنه لم يخرج إلى حيز الوجود.
في الأثناء، يمارس الأطباء مهنتهم في جو من التوجّس، والخلط، بل وحتى الخوف من التشهير الجماهيري.
الطب أصبح حقلاً من الألغام .
مهنة محفوفة بالمخاطر... وسط الصمت
رغم أن الأطباء يقومون بواجبهم في ظروف صعبة، وبإمكانيات محدودة، وتحت ضغط متواصل، فإنهم أضحوا من أكثر الفئات عرضة للمتابعة القضائية.
وفي زمن تحوّل فيه المريض إلى "زبون"، وغلبت فيه عقلية النتيجة على منطق المجهود، صار من الملحّ تقنين المسؤولية الطبية بصرامة، وإنصاف، وإنسانية.
من أجل حماية المريض... ومن يعالجه أيضاً.
الوضع في المغرب حالة استعجالية
الكرة الآن في ملعب المكتب الحالي للهيئة الوطنية للأطباء.
الفرصة سانحة لإنجاز هذه القفزة القانونية النوعية، التي طال انتظارها، لصالح مهنة نبيلة ومجتمع بحاجة إلى ثقة متبادلة بين المريض والطبيب.
هذا المشروع تمّت دراسته من طرف أطباء، قانونيين، مرضى، برلمانيين، وممثلي وزارة الصحة، بالإضافة إلى الهيئة الوطنية للأطباء.
وفي أواخر أبريل 2025، أعادت جمعية أطباء النساء والتوليد الخواص بالرباط فتح النقاش حول هذه القضية المفصلية في الممارسة الطبية المغربية: المسؤولية الطبية.
لكن، في انتظار أن يتحرك الملف، لا بأس من إلقاء نظرة على ما يجري في بلدان أخرى.
كيف تُمارس المسؤولية الطبية في الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا ومصر؟
"البلوزة البيضاء لم يعد يحمي من العباءة السوداء... "
لقد أصبحت المسؤولية الطبية، التي كانت فيما مضى محمية بسرية المهنة وسلطة المعرفة، خاضعة اليوم للعدالة والإعلام، ولرأي عام أصبح أكثر جرأة ومطالبة بالحقوق.
من الولايات المتحدة إلى ألمانيا، ومن فرنسا إلى مصر، وصولاً إلى المغرب، أضحت قاعات المحاكم ساحات مواجهة بين الأطباء والمرضى أو ذويهم.
تحوّل صامت لكنه عميق يعيد تشكيل علاقة الطبيب بالمريض، ويؤثر على جوهر الممارسة الطبية ذاتها.
الولايات المتحدة: الطب تحت سطوة المحامين
تُعد الولايات المتحدة من أكثر الدول التي تخضع فيها المسؤولية الطبية لتدقيق شديد.
كل إجراء طبي قد يُفضي إلى دعوى قضائية.
ما يُعرف بـ malpractice suit أصبح صناعة قائمة بذاتها، حيث تُرفع سنوياً حوالي 15 ألف قضية ضد مهنيي الصحة.
محامون متخصصون، شركات تأمين شرسة، وثقافة تعويضات مالية حولت الخطأ الطبي إلى "كنز محتمل" للمتقاضين.
الكثير من الأطباء فقدوا مستقبلهم المهني بسبب تشخيص خاطئ أو تقصير بعد العمليات.
الخوف من المحاكمة أنتج ما يُسمى بـ"الطب الدفاعي": تحاليل زائدة، تدخلات غير ضرورية، فقط لتجنّب الوقوع تحت طائلة القانون.
ألمانيا : صرامة ... وندرة في الأحكام الثقيلة
في ألمانيا، يسير ملف المسؤولية الطبية ضمن نظام صارم ومتوازن.
المريض له الحق في تقديم شكوى، لكن آليات الوساطة، غالباً عبر الهيئات المهنية، تسبق اللجوء إلى القضاء.
المحاكمات نادرة، والعقوبات السجنية نادرة جداً.
ففي عام 2020، تم تسجيل حوالي 2000 شكاية ذات طابع جدي، لم تنتهِ إلا قلة قليلة منها بأحكام جنائية.
فرنسا: بين اللجوء للقضاء وروح التعويض
قانون "كوشنير" لسنة 2002 أعطى للمريض الفرنسي الحق في التعويض حتى دون وجود خطأ طبي، عبر التضامن الوطني (ONIAM).
ورغم ذلك، تُسجّل سنوياً أكثر من 10 آلاف شكوى ضد الأطباء، تنتهي حوالي 10% منها بإدانة.
السجن نادر، لكن العقوبات التأديبية (كالتوقيف أو المنع من المزاولة) أصبحت أكثر شيوعاً.
مصر: أحكام سريعة وغياب للحماية القانونية
الوضع في مصر مأساوي بالنسبة للأطباء.
تشهد البلاد موجة من "القضائية الشعبوية" تغذيها مواقع التواصل الاجتماعي.
يُحكم على أطباء بالسجن النافذ بسرعة، أحياناً بدون أي خبرة طبية مستقلة.
في سنة 2022، أثار الحكم على جرّاح بالسجن 10 سنوات بتهمة الإهمال المؤدي للوفاة، موجة استنكار داخلية ودولية.
الخوف من السجن دفع كثيراً من الأطباء الشباب إلى مغادرة البلاد أو تقليص نشاطهم.
الغياب التام لنص قانوني يُفرّق بين الخطأ المهني العادي وبين الحادث العرضي يزيد من تفاقم الوضع.
والمغرب؟ فراغ قانوني سحيق
المغرب ليس استثناء. فرغم ندرة الأحكام السجنية، إلا أن غياب الحماية القانونية يجعل الطبيب يعيش تحت ضغط دائم.
النصوص المؤطرة مشتتة وقديمة، ولا وجود لآلية وساطة فعالة، ولا قانون خاص يحصن المهنة.
القضايا تُرفع أمام المحاكم العادية، وغالباً دون خبرة طبية مستقلة.
محاكمات أطباء اتُّهِموا زوراً بنسيان شاش في بطن مريضة، أو متابعات أطباء نساء بسبب ولادات عسيرة، كلها تعكس الفراغ القانوني الخطير.
ورغم أن مشروع القانون الخاص بالمسؤولية الطبية تم الحديث عنه مراراً، إلا أنه لم يخرج إلى حيز الوجود.
في الأثناء، يمارس الأطباء مهنتهم في جو من التوجّس، والخلط، بل وحتى الخوف من التشهير الجماهيري.
الطب أصبح حقلاً من الألغام .
مهنة محفوفة بالمخاطر... وسط الصمت
رغم أن الأطباء يقومون بواجبهم في ظروف صعبة، وبإمكانيات محدودة، وتحت ضغط متواصل، فإنهم أضحوا من أكثر الفئات عرضة للمتابعة القضائية.
وفي زمن تحوّل فيه المريض إلى "زبون"، وغلبت فيه عقلية النتيجة على منطق المجهود، صار من الملحّ تقنين المسؤولية الطبية بصرامة، وإنصاف، وإنسانية.
من أجل حماية المريض... ومن يعالجه أيضاً.
الوضع في المغرب حالة استعجالية
الكرة الآن في ملعب المكتب الحالي للهيئة الوطنية للأطباء.
الفرصة سانحة لإنجاز هذه القفزة القانونية النوعية، التي طال انتظارها، لصالح مهنة نبيلة ومجتمع بحاجة إلى ثقة متبادلة بين المريض والطبيب.
الدكتور أنور الشرقاوي، خبير في التواصل الطبي والصحافة الصحية