في عالم يتحول بسرعة نحو الاقتصاد الرقمي، أصبحت البيانات هي “النفط الجديد”، لكن المفارقة المؤلمة تكمن في أن دول الجنوب، الغنية بهذه البيانات، تُكرر نفس أخطاء الماضي مع الموارد الطبيعية المستخرجة (النفط الخام، الفوسفاط وغيرها). فبدلاً من امتلاك القدرة على تكرير هذه الثروة الرقمية وتحويلها إلى منتجات ذكية، تجد نفسها عالقة في فخ تصدير المادة الخام واستيراد المنتجات النهائية بأسعار باهظة، تمامًا كالمزارع الذي يبيع قمحه الخام ثم يشتري الخبز بمئة ضعف ثمنه!
لقد أصبحت البيانات المورد الأكثر استراتيجية في القرن الحادي والعشرين. لم تعد تُشبَّه بالنفط الجديد فحسب، بل تعدته لتصبح أداة جيوسياسية تحدد موازين القوى العالمية. ورغم امتلاك دول الجنوب لثروات هائلة من البيانات الخام، إلا أنها تقع مجددًا في فخ التبعية، حيث تصدّر هذه البيانات دون القدرة على معالجتها وتحويلها إلى منتجات ذكية أو بيانات ذكية. هذا النمط يُعيد إنتاج النموذج الريعي التقليدي بشكل رقمي، ويخلق نسخة جديدة من التبعية يمكن أن نطلق عليها “الاستخراج الرقمي” (Digital Extractivism).
شركات التقنية الكبرى العابرة للحدود تقوم بجمع بيانات المستخدمين في دول الجنوب عبر مختلف المنصات الرقمية مثل منصات الصحة، الزراعة، التعليم، والتجارة الإلكترونية، وغيرها ثم تعيد إنتاج هذه البيانات في شكل خوارزميات ذكاء اصطناعي تُباع كخدمات سحابية بأسعار باهظة. فعلى سبيل المثال، تُستخدم بيانات المرضى في بعض دول الجنوب لتدريب خوارزميات التشخيص الطبي، بينما تظل هذه الدول عاجزة عن بناء أنظمة تشخيص رقمية مستقلة. بهذا، يتحول الجنوب إلى ما يُشبه "مزارع بيانات"، تُحصد فيها المعلومات الخام ثم يُعاد تصديرها بشكل منتجات باهظة ضمن اقتصاد المنصة (Platform Economy)، تمامًا كما كان الحال مع اقتصاد المزارع (Plantation Economy) في الحقبة الاستعمارية.
ما يزيد الأمر تعقيدًا هو هشاشة البنية التحتية الرقمية في دول الجنوب. وفقًا لمؤشر القدرة الرقمية (Digital Capability Index)، تُظهر هذه الدول ضعفًا في البنية التحتية السحابية، رأس المال البشري الرقمي، والاستثمار في البحث والتطوير. وكنتيجة لذلك، تعجز هذه الدول عن إنشاء مصافي رقمية (Digital Refineries) قادرة على معالجة بياناتها وتحويلها إلى منتجات ذكية.
تفاقم هذا الوضع مع السياسات الحمائية التي تنتهجها الدول الصناعية الكبرى، مثل تعريفات ترامب الجمركية في 2018 و2025 التي استهدفت الواردات التكنولوجية الصينية. هذه الإجراءات لم تكن اقتصادية فقط، بل كانت إشارة واضحة إلى أن السيادة الرقمية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي. في المقابل، تفتقر دول الجنوب إلى الأدوات أو السياسات الدفاعية الكفيلة بفرض شروط عادلة في الاقتصاد الرقمي، خاصة تجارة أو خدمات البيانات.
في خضم هذه التحولات، يظهر مفهوم “التحرر التنموي” كمشروع بديل يُعزز سيادة دول الجنوب الرقمية من خلال تمكين بنى التكنولوجيا والمعرفة المحلية. هذا التحرر لا يقتصر على فك التبعية الاقتصادية، بل يتضمن أيضًا امتلاك أدوات الإنتاج الخوارزمي وتطوير المهارات التقنية ووضع أطر تشريعية تحمي البيانات من الاستغلال الخارجي.
يتطلب تحقيق هذا الهدف تبني سياسات استباقية، مثل الاستثمار في إنشاء مراكز بيانات وطنية (National Data Centers)، إدراج علوم البيانات والذكاء الاصطناعي في المناهج الجامعية، وسن قوانين تُلزم بمعالجة البيانات الحساسة محليًا قبل تصديرها. كذلك، يمكن لدول الجنوب أن تُشكّل تحالفات إقليمية مشابهة لمنظمة أوبك ولكن للبيانات، تُنسق سياسات البيانات وتفرض رسومًا عادلة وتعزز التفاوض الجماعي في السوق العالمية.
لم تعد السيادة تعني فقط السيطرة على الأرض أو الموارد التقليدية، بل تشمل أيضًا الفضاء السيبراني والمعرفة الرقمية. في عصر الحروب التكنولوجية (Tech Wars)، أصبحت البيانات والخوارزميات أدوات هيمنة لا تقل فتكًا عن الأسلحة العسكرية. لهذا، فإن دول الجنوب تقف أمام خيارين: إما أن تستمر كمصدر بيانات خام في اقتصاد رقمي تابع، أو أن تتبنى مشروعًا تحرريًا يُعيد إليها السيطرة على بياناتها وموقعها في المستقبل.
لذا، في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود التقليدية أمام زحف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لم تعد القوة تُقاس بالدبابات والحدود المحصنة، بل أصبحت تُختبر في الفضاء الرقمي، حيث تُرسم ملامح السيادة الحقيقية. فالدولة التي تعجز عن حماية بنيتها السيبرانية ستصبح دولةٌ ضعيفة وتابعة، مهما بلغت قوتها العسكرية؛ لأن العجز السيبراني يكشف عن تصدعٍ في مفهوم السيادة ذاته، الذي لم يعد مرتبطًا بحدود جغرافية، بل صار يُختبر في الفضاء الافتراضي، حيث تتجلى شرعية الدول وقوتها العلمية.
إن تبنّي استراتيجيات الثورة الصناعية الرقمية واقتصاد المعرفة والمجتمع الذكي لم تعد مجرد خيارٍ تنموي، بل ضرورة وجودية، شريطة أن يكون هذا التبني قائماً على مفهوم التحرر التنموي، حيث لا تستورد الأمة أدوات تقدمها جاهزة، بل تصنعها بعقلها وإرادتها، كي لا تتحوّل منصات تطورها إلى نقاط اختراقٍ استراتيجية ومصدر للبيانات الخام. فالتنمية دون أمنٍ سيبرانيٍ هي تنميةٌ مشلولة، والتقدم التقني دون استقلالٍ صناعيٍ ليس سوى قفزةٍ مقيدةٍ بقيود الآخرين.
ما يشهده العالم اليوم من صراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين يبرهن أن عل كل دولة أن تبني مستقبلها الرقمي وهي مالكة لمفاتيحه؛ فالمعركة الحقيقية اليوم ليست فقط في تطوير التقنيات، بل في صناعة القدرة على صنعها وحمايتها، لأن الهزيمة في الفضاء السيبراني ليست مجرد خسارة بيانات، بل انتقاصٌ من الإرادة الوطنية، وتهديدٌ صريحٌ لسيادة المستقبل.
لقد أصبحت البيانات المورد الأكثر استراتيجية في القرن الحادي والعشرين. لم تعد تُشبَّه بالنفط الجديد فحسب، بل تعدته لتصبح أداة جيوسياسية تحدد موازين القوى العالمية. ورغم امتلاك دول الجنوب لثروات هائلة من البيانات الخام، إلا أنها تقع مجددًا في فخ التبعية، حيث تصدّر هذه البيانات دون القدرة على معالجتها وتحويلها إلى منتجات ذكية أو بيانات ذكية. هذا النمط يُعيد إنتاج النموذج الريعي التقليدي بشكل رقمي، ويخلق نسخة جديدة من التبعية يمكن أن نطلق عليها “الاستخراج الرقمي” (Digital Extractivism).
شركات التقنية الكبرى العابرة للحدود تقوم بجمع بيانات المستخدمين في دول الجنوب عبر مختلف المنصات الرقمية مثل منصات الصحة، الزراعة، التعليم، والتجارة الإلكترونية، وغيرها ثم تعيد إنتاج هذه البيانات في شكل خوارزميات ذكاء اصطناعي تُباع كخدمات سحابية بأسعار باهظة. فعلى سبيل المثال، تُستخدم بيانات المرضى في بعض دول الجنوب لتدريب خوارزميات التشخيص الطبي، بينما تظل هذه الدول عاجزة عن بناء أنظمة تشخيص رقمية مستقلة. بهذا، يتحول الجنوب إلى ما يُشبه "مزارع بيانات"، تُحصد فيها المعلومات الخام ثم يُعاد تصديرها بشكل منتجات باهظة ضمن اقتصاد المنصة (Platform Economy)، تمامًا كما كان الحال مع اقتصاد المزارع (Plantation Economy) في الحقبة الاستعمارية.
ما يزيد الأمر تعقيدًا هو هشاشة البنية التحتية الرقمية في دول الجنوب. وفقًا لمؤشر القدرة الرقمية (Digital Capability Index)، تُظهر هذه الدول ضعفًا في البنية التحتية السحابية، رأس المال البشري الرقمي، والاستثمار في البحث والتطوير. وكنتيجة لذلك، تعجز هذه الدول عن إنشاء مصافي رقمية (Digital Refineries) قادرة على معالجة بياناتها وتحويلها إلى منتجات ذكية.
تفاقم هذا الوضع مع السياسات الحمائية التي تنتهجها الدول الصناعية الكبرى، مثل تعريفات ترامب الجمركية في 2018 و2025 التي استهدفت الواردات التكنولوجية الصينية. هذه الإجراءات لم تكن اقتصادية فقط، بل كانت إشارة واضحة إلى أن السيادة الرقمية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي. في المقابل، تفتقر دول الجنوب إلى الأدوات أو السياسات الدفاعية الكفيلة بفرض شروط عادلة في الاقتصاد الرقمي، خاصة تجارة أو خدمات البيانات.
في خضم هذه التحولات، يظهر مفهوم “التحرر التنموي” كمشروع بديل يُعزز سيادة دول الجنوب الرقمية من خلال تمكين بنى التكنولوجيا والمعرفة المحلية. هذا التحرر لا يقتصر على فك التبعية الاقتصادية، بل يتضمن أيضًا امتلاك أدوات الإنتاج الخوارزمي وتطوير المهارات التقنية ووضع أطر تشريعية تحمي البيانات من الاستغلال الخارجي.
يتطلب تحقيق هذا الهدف تبني سياسات استباقية، مثل الاستثمار في إنشاء مراكز بيانات وطنية (National Data Centers)، إدراج علوم البيانات والذكاء الاصطناعي في المناهج الجامعية، وسن قوانين تُلزم بمعالجة البيانات الحساسة محليًا قبل تصديرها. كذلك، يمكن لدول الجنوب أن تُشكّل تحالفات إقليمية مشابهة لمنظمة أوبك ولكن للبيانات، تُنسق سياسات البيانات وتفرض رسومًا عادلة وتعزز التفاوض الجماعي في السوق العالمية.
لم تعد السيادة تعني فقط السيطرة على الأرض أو الموارد التقليدية، بل تشمل أيضًا الفضاء السيبراني والمعرفة الرقمية. في عصر الحروب التكنولوجية (Tech Wars)، أصبحت البيانات والخوارزميات أدوات هيمنة لا تقل فتكًا عن الأسلحة العسكرية. لهذا، فإن دول الجنوب تقف أمام خيارين: إما أن تستمر كمصدر بيانات خام في اقتصاد رقمي تابع، أو أن تتبنى مشروعًا تحرريًا يُعيد إليها السيطرة على بياناتها وموقعها في المستقبل.
لذا، في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود التقليدية أمام زحف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لم تعد القوة تُقاس بالدبابات والحدود المحصنة، بل أصبحت تُختبر في الفضاء الرقمي، حيث تُرسم ملامح السيادة الحقيقية. فالدولة التي تعجز عن حماية بنيتها السيبرانية ستصبح دولةٌ ضعيفة وتابعة، مهما بلغت قوتها العسكرية؛ لأن العجز السيبراني يكشف عن تصدعٍ في مفهوم السيادة ذاته، الذي لم يعد مرتبطًا بحدود جغرافية، بل صار يُختبر في الفضاء الافتراضي، حيث تتجلى شرعية الدول وقوتها العلمية.
إن تبنّي استراتيجيات الثورة الصناعية الرقمية واقتصاد المعرفة والمجتمع الذكي لم تعد مجرد خيارٍ تنموي، بل ضرورة وجودية، شريطة أن يكون هذا التبني قائماً على مفهوم التحرر التنموي، حيث لا تستورد الأمة أدوات تقدمها جاهزة، بل تصنعها بعقلها وإرادتها، كي لا تتحوّل منصات تطورها إلى نقاط اختراقٍ استراتيجية ومصدر للبيانات الخام. فالتنمية دون أمنٍ سيبرانيٍ هي تنميةٌ مشلولة، والتقدم التقني دون استقلالٍ صناعيٍ ليس سوى قفزةٍ مقيدةٍ بقيود الآخرين.
ما يشهده العالم اليوم من صراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين يبرهن أن عل كل دولة أن تبني مستقبلها الرقمي وهي مالكة لمفاتيحه؛ فالمعركة الحقيقية اليوم ليست فقط في تطوير التقنيات، بل في صناعة القدرة على صنعها وحمايتها، لأن الهزيمة في الفضاء السيبراني ليست مجرد خسارة بيانات، بل انتقاصٌ من الإرادة الوطنية، وتهديدٌ صريحٌ لسيادة المستقبل.
عائشة العلوي، أستاذة جامعية وخبيرة اقتصادية