كان اللقاء بيننا في البداية مبرمجا ليستغرق حوالي ساعة بمقهى "كيلمي"Kilmi بضاحية مدينة بنسليمان، لترتيب محاور لقاء مهني في المستقبل القريب، يجمع بين موقع "أنفاس بريس" مع الباحث عبد الخالق المجيدي، أستاذ بقسم آثار ماقبل التاريخ، بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، إلا أن اللقاء امتد لثلاث ساعات دون أن يفطن أي منا للوقت أو لباقي الانشغالات.
شخصيا كنت مهيأ لهذا الطارئ، بالنظر إلى أن الأستاذ عبد الخالق المجيدي، معروف في الوسط الجامعي ، ليس فقط بنبله ودماثة أخلاقه وتواضعه، بل معروف بكونه أحد أهرامات البحث العلمي المختص في "العصر الحجري"، الذين نذروا حياتهم كلها لمهمة وحيدة وواحدة، ألا وهي مصالحة المغرب مع تاريخه ونفض الغبار عن الفن الصخري الذي يزخر به التراب الوطني.
الأستاذ المجيدي، قاد منذ التحاقه بالتدريس الجامعي، 45 بعثة علمية ميدانية بمواقع الفن الصخري بمختلف مناطق المغرب: أكانت بالجبال أو بالصحراء أو بسرير الأودية. وبفضل هذه البعثات العلمية أمكن اكتشاف وتحديد مواقع عديدة للنقوش الصخرية التي يعود بعضها إلى 12 ألف سنة قبل الميلاد( أي في نهاية العصر الحجري العلوي).
لا، ليس هذا وحسب، بل كسر عبد الخالق المجيدي- رفقة زملائه الأساتذة والأطر بمركز النقوش الصخرية- تلك العقيدة التي رسخها الباحثون الفرنسيون في عهد الاستعمار من كون الفن الصخري لصيق بالمجال الترابي الممتد من توبقال إلى طنجة، والحال أن تراب المغرب ككل عرف مجتمعات محلية تركت بصماتها عبر النقوش الصخرية. بدليل أن المغرب - وبفضل إصرار وشغف هؤلاء الباحثين من طينة المجيدي وزملائه- يتوفر اليوم على حوالي 800 موقع للنقوش الصخرية بعد أن كانت في بداية الاستقلال لا تتجاوز 250 موقعا. علما أن أغلب المواقع المستكشفة توجد في السمارة وأوسردو زاكورة وأسا الزاك وطاطا وبوعرفة وباقي شريط الجنوب الشرقي الذي كان الاستعمار الفرنسي يدرجه في خانة المغرب غير النافع.
الأمل مازال متقدا لاكتشاف مواقع أخرى، خاصة بعد أن ساهمت كليات الآداب بعدة مدن مغربية في تكوين باحثين من عيار مهم في التاريخ القديم، فضلا عن كون المغرب بدأ اليوم يجني ثمار إحداث المعهد الوطني لعلوم الآثار، الذي بدأ هو الآخر يوفر جيلا شابا من الباحثين المؤهلين لحمل المشعل، وتقديم حقائق جديدة عن تاريخ المغرب، خاصة وأن القطعة الأثرية( سواء كانت حجرا أو خزفا أو نقودا، الخ...) لا تكذب، وهو ماسيسمح للمغاربة بإعادة تملك تاريخهم، في أفق "توثيق عقد ملكية تاريخ المغرب"، بخبرات وطنية وبكفاءات المغرب الجامعية ، سواء التي درست داخل الوطن أو خارجه.
