الأربعاء 16 إبريل 2025
كتاب الرأي

رشيد شخمان: الخطاب المتواطئ.. كيف يُستغل الخلط بين الصهيونية واليهودية ؟

رشيد شخمان: الخطاب المتواطئ.. كيف يُستغل الخلط بين الصهيونية واليهودية ؟ رشيد شخمان
من المؤسف أن نُضطر إلى التذكير بما يُفترض أنه من البديهيات: التمييز بين الصهيونية كأيديولوجيا استعمارية عنصرية، واليهودية كديانة سماوية. هذا الخلط، الذي لطالما كان سمة في الخطاب الإسلاموي الشعبوي، نراه اليوم يتكرر في خطاب بعض من يُقدّمون أنفسهم كصوت تقدمي أو يساري. غير أن الفرق الجوهري هذه المرة أن الخلط لم يعد ناتجًا عن الجهل أو الحماسة العقائدية، بل أصبح أداةً متعمّدة لتلميع صورة كيان عنصري، وتبرير التقارب معه أمام جمهور عربي يرفض التطبيع من حيث المبدأ.

هذا النوع من الخطاب لا يكتفي بإفراغ المفاهيم من معناها، بل يُعيد صياغة السردية بالكامل: فإذا كانت الصهيونية "تعبيرًا عن تطلعات الشعب اليهودي"، وإذا كان نقدها يعني "معاداة للسامية"، فإن النتيجة المنطقية الموجّهة للعقل العام هي: لا تنتقدوا، لا تعارضوا، لا تقاوموا. إنه خطاب يقوم على إضعاف أدوات الرفض، لا تعزيز الوعي.

لم يكن الخلط بين الصهيونية واليهودية ظاهرة جديدة على الخطاب العربي، بل شهدناه لعقود في خطابات بعض التيارات الإسلاموية، حيث كانت الصيغة الدارجة هي الحديث عن "اليهود" عمومًا عند الإشارة إلى جرائم الاحتلال. في ذلك السياق، كان الخلط غالبًا نتيجة قلة وعي أو توظيف ديني مبسّط للمسألة السياسية، فكان بالإمكان تفسيره – وإن رفضه – بأنه ناتج عن رؤية عقائدية ضيقة لا تُفرّق بين دين وتاريخ وسياسة.

لكن خطورة هذا الخلط تتجاوز الخلفيات الأيديولوجية، إذ إنه ساهم في تغذية مشاعر الكراهية الدينية، وشوّه صورة القضية الفلسطينية أمام الرأي العام العالمي، بل وقدّم خدمة مجانية للدعاية الصهيونية التي تسعى دومًا إلى الظهور بمظهر الضحية في وجه "العداء اليهودي" في المنطقة.

ولذلك، فإن أي تكرار لهذا الخطأ في سياقات تدّعي الوعي والتقدمية، لا يمكن أن يُقرأ بنفس البراءة. لأن من يفترض أنه حامل لخطاب يساري تحرري، يدرك جيدًا الفرق بين الدين والأيديولوجيا، ويعرف تمامًا أن الصهيونية ليست هوية دينية، بل مشروع استعماري مدعوم بالسلاح والسياسة والإعلام.

في الوقت الذي تتصاعد فيه جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وتتكشف فصول التطهير العرقي والعدوان المستمر على غزة والضفة، يخرج علينا بعض الأصوات التي تُقدِّم نفسها بوصفها "تقدمية" أو "يسارية"، لتُعيد إنتاج الخلط ذاته بين اليهودية والصهيونية، لكن هذه المرة باسم "الإنسانية" و"التسامح" و"رفض الكراهية".

يستبدل هؤلاء مفردات التضامن والمقاومة، بخطاب مائع يُجرِّم الغضب الشعبي، ويُدين الشعارات المرفوعة في المظاهرات، بدعوى أنها "معادية للسامية". هذا التعميم المتعمد، لا يهدف إلى حماية اليهود كأفراد أو كمكوّن ديني، بل يخدم هدفًا واضحًا: نزع الشرعية الأخلاقية عن كل خطاب مناهض للصهيونية، وتهيئة الجمهور العربي لتقبّل فكرة التعايش مع المشروع الصهيوني بوصفه أمرًا واقعًا لا يجوز مقاومته.

إننا هنا أمام انقلاب خطير في المفاهيم، حيث يُصبح التنديد بجرائم الاحتلال "خطاب كراهية"، ويُصبح الدفاع عن الضحية "مزايدة"، بينما يُقدَّم التواطؤ مع الجلاد على أنه "نضج سياسي" و"رؤية واقعية". وهو ما يشي بأن الخطأ هذه المرة ليس معرفيًا ولا حتى عاطفيًا، بل هو خيار سياسي مغلّف بخطاب زائف.

في خضم هذا التشويش المقصود، تزداد الحاجة إلى الوضوح والدقة، لا فقط في الخطاب السياسي، بل في الوعي الجمعي ذاته. فاليهودية ديانة عريقة، ينتسب إليها ملايين الأشخاص في أنحاء العالم، بينهم من يعارضون الصهيونية بشدة، ويرون فيها تشويهًا لروح الديانة ومبادئها. في المقابل، الصهيونية هي أيديولوجيا سياسية عنصرية نشأت في سياق استعماري، وتقوم على فكرة إحلال شعب مكان آخر، بالقوة، وبادعاء الحق التاريخي أو الديني.

إن خلط هذين المفهومين لا يُضعف فقط مصداقية الخطاب المعادي للصهيونية، بل يمنح الصهيونية ما تسعى إليه دائمًا: أن تُختزل في "هوية دينية" يصعب نقدها دون أن يُفهم ذلك ككراهية. بذلك، يصبح التضامن مع فلسطين نفسه محل اتهام، ويُجرّم الغضب، وتُراقَب الكلمات.

ما نحتاجه اليوم هو خطاب نقدي واعٍ، يواجه المشروع الصهيوني باعتباره كيانًا استعماريًا عنصريًا، لا باعتباره ممثلًا لدين أو عرق. وهذا التمايز ليس فقط ضرورة معرفية، بل هو شرط أخلاقي، يحفظ جوهر القضية، ويمنع أن تُجرّد من عدالتها تحت ذرائع زائفة.

ليس من قبيل الصدفة أن تترافق الدعوات إلى "التمييز بين اليهودية والصهيونية" مع تجاهل كامل لجوهر المشروع الصهيوني نفسه. فجرائم التهجير والتطهير العرقي لم تبدأ في السابع من أكتوبر 2023، كما تحاول بعض الروايات الغربية – ومعها أصوات عربية متواطئة تتقمّص دور الوسيط الحيادي – أن توحي، بل هي في صلب المشروع الصهيوني منذ لحظة تأسيسه. من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا، ومن النكبة إلى العدوان على غزة، يتجدد الوجه الحقيقي لهذا الكيان: مشروع إحلالي يقوم على الإقصاء والمحو والقوة.

لذلك، فإن مسؤوليتنا – كمثقفين، وناشطين، وأفرادٍ نؤمن بعدالة فلسطين – أن نُعيد ضبط المفاهيم، ونرفض هذا الخلط المتعمّد، لا لأننا نخشى الاتهام بمعاداة السامية، بل لأن هذا الخلط يساهم فعليًا في تزييف الحقيقة، ويمنح الغطاء الأخلاقي لكيان يرتكب الجرائم باسم "الحرية" و"الدفاع عن النفس".

الوضوح هنا ليس ترفًا لغويًا، بل موقف سياسي. فإما أن نكون مع الحقيقة، أو نكون جزءًا من آلة تبرير الظلم، حتى وإن ادّعت "الحياد" أو "الواقعية".