ينقل الدكتور عزيز العلوي المصطفى، أخصائي في جراحة أورام الدماغ والأعصاب والعمود الفقري ظروف رحلته إلى مدينة هيوستن الأمريكية لتعميق تخصصه وما شاهده هناك من قيم، وما عاينه من تطور في مجال علاج أورام الدماغ، كما تحدث عن لقائه بعائلة إفريقية نبيلة آوته بمنزلها وكانت كريمة معه، فضلا عن وقائع عودته إلى المغرب وإنشائه لمصحة متخصصة بالدار البيضاء، وحكاية الطفل المهدي الذي جاء إلى مصحته من إحدى قرى أعالي بني ملال، ليعلمه درسا في الإنسانية ما زال عالقا في ذهنه إلى الآن..
وعقد الدكتور العلوي مقارنة بين ما يقع في أمريكا وما يقع في المغرب، كما تحدث عن التطور الذي عرفته جراحة الدماغ والأعصاب، في البينات والمعدات والموارد البشرية المتخصصة..
بعد رحلة الى الديار الأمريكية دامت ما يناهز ثلاثة أشهر، قصد صقل معلوماتي في ميدان جراحة الدماغ والأعصاب والعمود الفقري، في أحد أكبر المستشفيات بمدينة هيوستن HOUSTON التي توجد بها القاعدة الفضائية(نازا)، رجعت إلى وطني وأنا مصمم العزم على أن أحاول ان أطبق ما حزت من معلومات ومن تقنيات ومن معاملات، مع مرضى بلدي الحبيب الذين يستحقون، على غرار الأمريكيين او الألمانيين ...، كل العناية.
كانت رحلتي مليئة بالصدف الجميلة والطيبة التي تركت في نفسي ذكريات راسخة رغم مرور ما يزيد عن ثلاثين سنة. أذكر على سبيل المثال تعرفي بالصدفة على أحد الأفارقة القاطنين بهذه المدينة العلمية ومهد الاختراعات والمعرفة. كان أبوه إمبراطورا في افريقيا. أصر على أن أنتقل فورا من الفندق الذي كنت أقيم فيه لأسكن مع عائلته في منزله، ثم قدمني إلى زوجته، وهي ابنة أحد ملوك دولة بجوار جنوب إفريقيا، وإلى أولاده الذين رحبوا بي أيما ترحيب، وطلبوا مني ان أقوم بزيارة لكل أرجاء المنزل، وخصوصا الغرفة الجميلة التي سأقيم بها، مرورا بموقف السيارات قائلين لي: "هذه سيارتك التي ستقلك يوميا للذهاب إلى المستشفى، وهي من نوع "ليموزين"، ولا يهمك كم تستهلك من البنزين".
شكرت كل أفراد العائلة على كرم الضيافة الذي قل مثيله. وبعد ذلك أذنوا لي بان أستريح قليلا في غرفتي قبل ان نخرج لتناول طعام العشاء في أحد المطاعم الفخمة في هيوستن، وهو مطعم مغربي يسمى CASABLANCA، حيت تعرفت على صاحبه وتجاذبنا أطراف الحديث، فأطلعته على هويتي وعلى سر مجيئي الى هذه المدينة البعيدة جدا من الدار البيضاء. وفي نهاية الوجبة قدم لنا صاحب المطعم الشاي المغربي وتشكيلة من الحلويات صنعتها أياد مغربية هدية منه وفرحا بلقائه بطبيب مغربي. شكره الجميع على حفاوته وطيبته.
في الصباح الموالي، طلب مني مضيفي الإفريقي أن اركب سيارتي وأقودها خلفه حتى باب المستشفى الجامعي ANDERSEN HOSPITAL، كي أتعرف على الطريق الذي يقودني مباشرة إليه، والذي سأستعمله كل يوم، ما عدا يومي السبت والأحد.
هكذا صرت اقضي كل اليوم في المستشفى. أغدو واروح كالطير إلى عشه، حيث كل افراد الأسرة يستعدون كل يوم لتناول وجبة العشاء في مكان خارج المنزل كنت ممنوعا منعا كليا من مد يدي الى جيبي، ناهيك عن أنهم في كثيرا من الأوقات كانوا يوجهون الدعوة إلى بعض الأفارقة، لتناول وجبة العشاء معنا والتعرف علي.
مرت كل هذه الفترة في هذا المستشفى الشهير الذي تعرفت على كل ما يجري فيه في ما يهم اختصاصي. ربطت علاقات صداقة ومهنية مع جل الأطباء، وتشبعت بفكرة العمل الجماعي للوصول الى نتائج مرضية، خاصة أمام الحالات المستعصية، دون غيرة او حسد. فالكل يخدم الكل، والهدف هو علاج المرضى. وما اثار انتباهي جدا هو المستوى المهني العالي للممرضين والممرضات وكل الأعوان الذين يشكلون طاقما واعيا بكل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وفهم الأعمال المنوطة بهم.
أغلب من تعرفت عليهم كانوا يخلطون بين المغرب وموناكو. إذ حينما يسألونني من أي بلد جئت وأقول: "من المغرب"، يظنون أنني أعني "موناكو". ذلك أنهم يعرفون المغرب باسم "كازا بلانكا "CASABLANCA، نسبة إلى الفيلم الذي أخرجه ميشيل كورتيز سنة 1942، والذي جرت أحداثه أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة الدار البيضاء.
رجعت إلى وطني وعشيرتي والأمل يحذوني بان أحاول ان أكوٌنَ مجموعة من الأطباء الأخصائيين في مجال جراحة الدماغ والأعصاب والعمود الفقري، وفتح مصحة متخصصة في القطاع الخاص. فعملت على إنشاء أول مصحة في هذا المحال، رغم أن الكثير كان يتنبأ لها بالفشل، بل حتى الابناك التي منحتنا القروض كان يعتريها الشعور نفسه. ذلك أن جراحة هذا العضو المليء بالألغاز والمخيف كانت حكرا على المستشفيات الكبيرة عبر العالم. غير أن مصحتنا كانت تتوفر على معدات متطورة، ومن مستوى عال يشرف المغرب، إذ أشادت بها الصحافة ووسائل الاعلام السمعية والبصرية. وكان التلاحم بين أطبائها وممرضيها واعوانها قدوة لعدة مصحات أخرى فتحت أبوابها بعد ذلك.
بدأنا العمل بالتركيز على المبدأ الأكاديمي بدقته العلمية والبحثية، وعلى التكوين المستمر وعقد ندوات علمية وتشاورية في قلب المصحة، فذاع صيت المصحة عبر المغرب وخارجه، وزارنا عدد كبير من الأطباء الكبار، مغاربة وأجانب. كما قمنا بعمليات مختلفة ومعقدة كللت اغلبها بالنجاح، والتي كانت تتطلب قبل ذلك مغادرة المرضى أرض الوطن للعلاج وبتكلفة باهظة الثمن...
أما حكاياتي مع المرضى فهي كثيرة، لكن حكاية واحدة ظلت راسخة في عقلي وأثارت اهتمامي. إنها حكاية الطفل مهدي التي أعطتني درسا كبيرا بعمق فلسفتها وتقمصها العاطفي قل مثيله عند الانسان وخصوصا في هذا العمر المبكر. كان المهدي طفلا يبلغ من العمر سبع سنوات ونصف، ويقطن بقرية صغيرة تبعد عن مدينة بني ملال بخمسين او ستين كلم في أعالي الجبال. بدأ دراسته الابتدائية بطبيعة الحال في قريته التي توجد بها ثلاثة او أربعة أقسام تدرس فيها كل المستويات بمعلمين إثنين فقط، وفق ما نقله والد الطفل الذي يأمل ان يرى في يوم من الأيام ابنه معلما في قريته.
قبل نهاية السنة الأولى من التعليم، بدأ المهدي يشتكي من نقص في النظر، مما دفع المعلم إلى أن يغير مكان مقعده إلى الامام للاقتراب أكثر من السبورة. ومع مرور الأيام زادت حدة هذا النقصان مما دعا المعلم إلى أن يجبر أباه على عرضه على طبيب العيون في بني ملال.
كان تقييم الفحص ثقيلا: المهدي يعاني من ضغط شديد، وربما سيؤدي به الى فقدان بصره في أقرب وقت، وقد يكون هذا ناتجا عن ورم في الدماغ، خصوصا وأن الطفل يعاني من نوبات قيء، بعيدا عن وجبات الأكل. أنصحك يا سيدي بأن تعرض ابنك على طبيب اخصائي في جراحة الدماغ، في مستشفى جامعي أو مصحة خاصة في الرباط أو الدار البيضاء".
وهكذا كان الأمر. حل الوالد وطفله المهدي بعيادتي بالمصحة بعد أن أشار عليهما البعض بذلك. وبعد أن قرأت تقارير طبيب العيون، فقمت بفحص سريري للمهدي، وسارعت بإجراء فحوص أخرى، كالسكانير SCANNER ثم الرنين المغناطيسيIRM للتدقيق، وذلك رغم قلة موارد والده، وقد ساعدنا في ذلك أحد المحسنين الذي واكب كل مراحل التشخيص والعلاج بالجراحة والعلاجات المضافة.
قبل أن أقوم بالعملية الجراحية على مستوى الدماغ، وبالضبط في المخيخ الذي كان محل ورم من نوع خبيث حسب معطيات الفحوص الإشعاعية (كان علينا انتظار ما ستفرزه الفحوص التشريحية)، بادرت إلى تفسير كل المراحل التي سأقوم بها لأبيه الذي كان يردد عبارة "هذا من أمر ربي"، ولا يردد عبارة سواها. بعد خاطبت المهدي الذي لم يبق له إلا بصيص قليل من البصر، قائلا:
- يا ولدي، أنت دون شك طفل نجيب وذو قدرات عالية لفهم ما سأقوله لك أمام أبيك، وسنعمل كل ما في وسعنا لاسترجاع بصرك بإذن الله تعالى.
كان الطفل المهدي يستمع الى حديثي كرجل صغير، يحاول أن يستوعب معنى كل ما أفوه به من كلمات تقنية مُبسَّطة. وبعد أن خضت معه في موضوع العملية الجراحية، واستمع بتأني إلى كلامي، أوقفني قائلا:
- شكرا يا دكتور... لكن عندي سؤال أرجوك أجبني عنه بصراحة !
- - بالطبع يا ولدي..
لم يخطر ببالي أنني سأحرج غاية الإحراج بسؤاله..
- ما هو سؤالك يا مهدي؟
- إذا كنت سأموت بعد العملية، أو في وقت وجيز بعدها، أرجوك أن تصارحني يا دكتور.
- -لماذا هذا السؤال يا ولدي؟
- إذا كان الأمر هكذا يا دكتور، أريد من اليوم أن أترك مقعدي في القسم المكتظ جدا بتلاميذ يفوق عددهم الستين. نحن نجلس متزاحمين، وتركي لمقعدي سيفسح مكانا للذين ساعدهم الحظ في الحياة.
بقيت صامتا لعدة دقائق، متأملا لباقة هذا الطفل وحسه الاجتماعي وعدم تلطخ روحه بالأنانية الهدامة والمفسدة.
كيف يمكن لطفل في بداية مشوره في الحياة أن يكون له رصيد كبير وفطري من الإنسانية، بينما يفقدها في كثير من الأحيان آخرون على حساب والديهم أو عائلتهم أو جيرانهم في سبيل الاغتناء وما إلى ذلك. هذا درس عميق المعاني من طفل مريض.
لم يكن حظ هذا الطفل جيدا، ذلك أن تشريح الورم أثبت أنه قاتل ولن ينفع معه علاج. علمت أن الطفل فارق الحياة بعد ثمانية أشهر تاركا آثارا عميقة في نفسي. كما علمت أيضا أن صديقي الإفريقي في مدينة هيوستن توفى في المستشفى نفسه الذي كانت سيارته تقودني إليه كل صباح، متأثرا بسرطان في الرئة لتعاطيه للتدخين المفرط.
أثناء وجودي بمستشفى أندرسون بهيوستن الأمريكية، الذي كان يستقبل عددا وافرا من مشاهير وزعماء العالم الذين لا مجال لذكر أسمائهم حفاظا عن سر المهنة، قمت بزيارة جناح جراحة الشرايين الذي كان يشرف عليه آنذاك الأستاذ الشهير ميكاييل إليس ديباكاي Michael Ellis DeBakey. وكان مثيرا للانتباه وأنت متوجه الى مكتبه في نهاية ممر طويل هو الصور المعلقة للملوك والرؤساء والمشاهير الذين ترددوا على جناحه وتلقوا العلاجات.
أول يوم بدأت فيه نشاطي هناك، هو زيارة قاعة الجراحة. وقد ترك رئيس المصلحة الأستاذ R. GROSSMAN الوصية لمساعِدته لتقودني إلى القاعة بمجرد التحاقي بالجناح المخصص لجراحة الدماغ والأعصاب. وصلت في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة صباحا، فتم إرشادي إلى القاعة وأنا مزهو بأني أول الواصلين قبل الفريق. وكم كانت دهشتي عظيمة لم فتحت الباب، ووجدت القاعة مكتظة بالأطباء، والممرضات، والآلات، والكاميرات. كان عدد الأطباء يفوق ستة أو سبعة، لأن العملية معقدة، وتتطلب تدخل عدة أخصائيين من جراحي الدماغ neurochirugiens وجراحي الوجه والفكين chirurgie maxillo facial وجراحي التجميل chirurgie plastique ، ناهيك عن أطباء التخدير. الكل كان منهمكا في العمل المنوط به تحت رنين موسيقى خافتة مهدئة للأعصاب، كيف لا والضغط النفسي كان في أوجه. رفع الأستاذ ديباكاي رأسه نحوي وأرسل إلي غمزة للتعبير عن ترحيبه بوجودي معهم. رفعت يدي ووضعتها على صدري بسرعة فائقة لرد التحية دون تضييع أي وقت.
كانت درايتي باللغة الإنجليزية متوسطة، مما أحرجني قليلا، لكنهم ما لبثوا أن فهموا وضعيتي، فبدأ الكل يتحدث بشيء من البطء. وفي وقت من الأوقات، بدأ الأستاذ دون أي يرفع رأسه عن المجهر يشرح لنا ما كان يقوم به. أما أنا، فكنت قبل ذلك قد تفحصت الصور التي كانت معلقة على négatoscope ، وفهمت أن العملية جد معقدة وتتطلب مهارات وخبرة طويلة لطاقم متعدد الاختصاصات. فالورم متأصل في الطبق الأمامي من الجمجمة l’étage antérieur ، وقد امتد إلى العين اليمنى التي فقدت بصرها وأصبحت مطوقة بالورم، وتبعد عن الوجه بعشر سنتمترات على الأقل، كما هو الحال بالنسبة للفك العلوي.
كان عمر المريضة التي تجرى لها العملية يناهز الستة وسبعين سنة، ووزنها مائة وخمسة وعشرون كلغ. أذكر هذا لأنبه إلى دور أطباء التخدير والإنعاش الذين يلعبون دورا رئيسيا في التعامل مع هذا النوع من المرضى إبان العملية وما بعدها. وقد استغرقت العملية ما يناهز ستة وثلاثين ساعة، وقام كل فريق بما عليه ليترك المجال للآخر. ولم أتابع بالطبع إلا فريق الدماغ والو جه والفك. إذ غادرت قاعة الجراحة لما بدأ فريق التجميل بسد وملء الثغرات التي تركها استئصال الورم الكبير والعين اليمنى الميتة والفك الأيمن بكامله. وقد تم إغلاق هذه الحفرة الواسعة بـ "سَديلَةٌ عَضَلِيَّةٌ جِلْدِيَّة" lambeau musculo-cutané تم أخذها من الكتف الأيمن. وبعد أربعة وعشرين ساعة وقع نَخَرُ في هذه السديلة necrosis ، مما أدى الى عملية أخرى استغرقت مدة اثني عشرة ساعة، غير أن المريضة توفيت بعدها بيومين في غرفة الإنعاش التي زرتها فيها للمرة الاخيرة.
التحقت بالأستاذ في مكتبه بعد الاستراحة من هذه العملية المتعبة والمعقدة، وتجادبنا أطراف الحديث بكلتا اللغتين الإنجليزية والفرنسية من طرفه، وأنا أشكره جدا على المجهود الذي قام به لتجنب إحراجي. ثم عدت الى مقر إقامتي عند صديقي، وبعد تمددي على فراش النوم، بدأ شريط يومي الأول في المستشفى يمر أمام عينيّ وأنا أتساءل عن فحوى إجراء عمليات مثل هذا النوع في وطني، وعن كل المعدات البشرية والمادية والمالية التي تم توفيرها لإجرائها في هذا المستشفى.
كم كان إعجابي شديدا بما عاينته أثناء العملية، وكم كانت خيبتي أشد بعد وفاة المريضة. علمت أن فاتورة الاستشفاء تجاوزت 250 ألف دولار. وهذا القدر من المال يمكنني في وطني أن أقوم بما يناهز ستين عملية جراحية على مستوى الدماغ. فويل لأي طبيب أو مصحة تطلب أتعابا على غرار أطباء أو مصحات أجنبية بنفس النتيجة، والا نُعِت ونعتت بـ"الشفار" من طرف المريض أو عائلته أو حتى السلطات وشركات التأمين التي تؤدي هذه مبالغ دون قيد أو شرط عن بعض مرضاها المختارين حين يتوجهون إلى الخارج للعلاج. وكذلك الشأن بالنسبة للمرضى الذين يفضلون العلاج وراء حدود الوطن رغم كل الجهود التي تم القيام بها في كلا القطاعين، العام والخاص، في مجال التجهيزات التقنية والموارد البشرية. لا أريد هنا أن أشكك في قدرات الأطباء أو المستشفيات في أوربا وأمريكا. لكنني أريد أن أنوه بالتقدم الذي عرفه المغرب في هذا القطاع الحيوي، والذي يسير بوتيرة هائلة رغم بعض العراقيل والتعثرات. أنا شاهد على هذا لطول مسيرتي ومعاينتي لكل هذه الأشواط لما يزيد عن خمس وأربعين سنة عملت فيها بكل القطاعات.
في اليوم الموالي للعملية، قررت أن أطرح بعض الأسئلة على الأستاذ ديباكاي لأفهم دوافع القيام بهذا النوع من العمليات والدخول في مغامرة بدون نتيجة في غالب الأحيان وبتكلفة باهظة الثمن. جلسنا في المقهى الجامعي الموجود داخل المستسقى، والذي يتردد عليه كل العاملين به والزوار وحتى المرضى وهم حاملين لبعض المعدات العلاجية دون حرج أو مركب نقص، إذ لا فرق بين المواطنين. كانت أسئلتي القادمة من تخوم إفريقيا تتطلب شيئا من التفكير لغرابتها، وهو ما دفعه إلى أن يعتذر مني لحظة ليأتي بقنينة ماء.
بعد شربة لجرعة الماء الباردة قال لي:
- يا صديقي يجب أن تعلم أن حياة الإنسان وصحته هنا مقدستان أكثر مما يخطر على بالك، وهذا يجعل الدولة والقانون لا يتهاونان في هذا الميدان. ولعلك تعلم أن المحامين وشركات التأمين والمرضى والإعلام كلهم على أهبة لينقضوا على أي تقصير أو "خطأ طبي". كل هذا أدى الى ارتفاع مهول لسعر تكلفة تأمين الأطباء والمرضى والمصحات والمستشفيات والمعدات.. إلى غير ذلك. دخلنا في هستيريا لا حدود لها ولا رؤية واضحة المعالم للشفاء منها، وهذا ما دفع الأطباء والمستشفيات الى هذا التصعيد الصاروخي في التجهيزات والاحتياطات المفرطة التي تكون في بعض الحالات غير ضرورية، ولكنها حاضرة في عين المكان إذا تطلب الأمر استعمالها. زد على هذا لوبيات الأدوية والمعدات الطبية التي تخترع أدوية ومعدات جديدة ومغرية ومفيدة بدون منازع في كثير من الأحيان، فويل لمن لم يتمكن من متابعة الركب أو فاته الركب ما يقال. هل فهمت لماذا نستعمل دبٌابة tank لقتل ذبابة بدل استعمال منشة، ولماذا أصبحت التكلفة عالية الثمن؟ حقا، إننا بلد غني جدا، ولكن يجب إعادة النظر في نظامنا الصحي وتقنينه دون الإساءة إلى صحة المواطنين وخلق نظام ذي سرعتين. إذا كان البشر متساوون أمام الموت، فلماذا هم لا يتساوون أمام الحق في العلاج والحياة؟
لا أخفى عليك يا صديقي- يسميني هكذا ربما لأن فارق السن بيننا قليل جدا، وربما احتراما لي- أني زرت عدة مستشفيات عبر العالم، ولاحظت عدة خروقات كما بهرت بالعمل الجبار والنتائج التي يتوصل إليها أطباء وممرضو هذه المستشفيات، وهذا يدل على أن عبقرية الإنسان تكمن في عزيمته وكيفية تدبيره للأشياء. ولكن بالنسبة لما قمنا به مع المريضة، والذي مع الأسف لم يكلل بما كنا نتمناه، فإننا خرجنا بعدة توصيات ودروس تفيدنا في المستقبل، ولو كان الإحباط يسد طريقنا في كل مرة يهزمنا المرض لما وصلنا الى ما وصلنا إليه من تقدم أبهر البشرية، وأنقد ما لم يكن في الحسبان من مرضى كانوا في لائحة الموتى.
- أنت على حق وعلى بينة بما يجري في العالم من موقعك هذا، واسمك معروف عبر كل المواقع لما أسديته من اعمال مفيدة في مجال جراحة الدماغ والعمود الفقري، مما جعلني اختار هذا القسم الذي تشرفون على تسيره بحكمة وانضباط، لزيارته والإطلاع عن كثب على ما تقومون به من خدمات قيمة وأشكركم جزيل الشكر على قبولكم زيارتي هذه.
- أشكرك بدوري على عواطفك النبيلة، وأتمنى أن أستفيد أنا أيضا من تجربتك في المغرب الذي أتمنى أن أزوره إذا ما أتيحت لي الفرصة، والآن هيا بنا لإجراء العملية المبرمجة في الساعة العاشرة، والتي ستهم سرطان ثانوي في إحدى فقرات العمود الفقري العنقي.
هكذا توالت الأيام والأسابيع ما بين قاعة الجراحة وحضور المحاضرات التي تلقى في أحضان مستشفى METHODIST/ANDERSON/ HOSPITAL أو غيره في مدينة HOUSTON الواسعة وعاصمة تيكساسTEXAS ، وبين خزانة جناح جراحة الدماغ. كما ترددت مرتين في الأسبوع على مركز الاستشارات الطبية رفقة الأستاذ R.G ، حيث لم يكن عدد المرضى يتجاوز خمسة أو ستة كل مرة، وذلك في هدوء واحترام فائق للمواعد، كأنك في محطة للقطارات في اليابان أو سويسرا. وذات مرة، جاء للاستشارة مريض يناهز الخامسة وأربعين من عمره، كان حسن الخلقة والهندام، وتبدو عليه علامة الثراء. تحدث إلينا بأدب واحترام، وبكلمات مختارة، لتبليغ ما كان يعانيه من ألم في رأسه وقلة تركيزه في مسائل مهمة بالنسبة لعمله. وبعد الفحوص السريرية العادية والروتينية، طلب منه الأستاذ عدة اختبارات إشعاعية وبيولوجية لتحديد مسببات ألمه.
في الموعد المحدد، دخل المريض علينا، ومعه كل ما طلب منه من تحاليل وهي في ظروف مغلقة بإحكام وموجهة إلى الطبيب شخصيا. تفحصنا كل التحاليل بإتقان قبل أن يتناول الأستاذ الكلمة متوجها الى المريض بشيء من الحسرة والصراحة المفروض قولها رغم كل الدبلوماسية التي يقتضي استعمالها في مثل تلك الحالات:
- سيدي، لا شك أننا أمام أمر بالغ الصعوبة، فالأمر يتعلق في الغالب بورم جد خبيث كما يقال، ولكن لا بد من انتظار نتيجة علم التشريح . anatomopathlogie
كان همي أمام هذا الحكم الطبي القاسي والصادر من طبيب ذي خبرة واسعة هو أن أرى رد فعل المريض الأمريكي مقارنة مع المريض المغربي الذي يبدأ بمجرد ما نلمح له بشيء من هذا القبيل بالصراخ والعويل داخل القاعة وأمام المستشفى أو المصحة، بدل أن يكون إيماننا وثقتنا بخالقنا فوق كل شيء.
توقف المريض لبعض الثواني متأثرا لما سمعه من الطبيب ثم قال:
- هل عندكم فكرة عن مسار المرضpronostic ، وعن المدة التي يمكن أن أبقي على قيد الحياة؟
- في الحقيقة إذا ثبت ما نشك فيه من نوع الورم GLIOBLASTOME ، فهو قاتل ، ولن يمهلك سوى أقل من ستة إلى ثمانية أشهر إذا لم نفعل أي شيء، اما إذا التجأنا الى الجراحة وكل الأدوية المضافة فعلى حسب المكان المصاب في الدماغ، فيمكن ان يعيش الإنسان، على أكثر تقدير ، بين ثمانية عشرة شهرا وأربعة وعشرين شهرا.
- حسنا يا دكتور، قد استوعبت خطابك وأنا رجل أعمال ولدي داخل الوطن وخارجه تجارة business . فهل يمكنني أخد أسبوعين لكي أرتب كل اغراضي وأودع كل أصدقائي في الخارج الذين سوف لن التقيهم مرة أخرى، وانا رهن اشارتكم للقيام بما أتاكم الله وضميركم من علم ومسؤولية.
غادر المريض وقد ادهشتني صراحة الطبيب وطريقة إنصات المريض ووعيه وثقافة الشعوب المتقدمة التي تجعلهم يثقون بالعلم والعلماء ويعرفون ما لهم وما عليهم.
انتهت مهمتي في هذا المستشفى الرائد ببلد العام سام، وخصوصا في علاج الأورام على مختلف أشكالها، وبدأ الحنين إلى وطني يلتهمني، آملا في تطبيق كل ما اختزنته في جُعْبَتي مما عاينته في المستشفى على أرض واقع مغربي الحبيب. وقبل الوداع طلب مني الأستاذ أن ألقي محاضرة وجيزة في موضوع يهم أحد الأمراض الشائعة في المغرب، والتي هي نادرة عندهم ليستفيد الأطباء والطلبة المتدربون بالجناح. كنت قبل سفري إلى الولايات المتحدة أتوقع هذا، وكنت قد أعددت الحديث عن مرض سل الدماغ Les tuberculomes ومرض الأكياس Le kyste hydatique cérébral وطريقة علاجه. اخترت هذا الأخير معززا بالصور وبفلم قصير للعملية، وقد كانت القاعة مملوءة عن آخرها، وكان الكل يصفق في النهاية، ويشكرونني لأخبارهم بما لم يسبق لهم رؤيته من قبل.
وحين التحقت بأرض الوطن، بدأت مشوارا جديدا في القطاع الخاص، وها أنا اليوم بفضل الله أقف على تحقيق الكثير من أحلامي في ما أراه ينمو من مشاريع، إذ لم يخطر ببالي يوما أن نصل إلى ما وصلنا إليه الآن. ذلك أنه بداية مشوري في جراحة الدماغ في نهاية عام 1978، كنا انا وصديقي الدكتور "يوسف. ب" مثل اليتيمين في مصلحة جراحة الدماغ والاعصاب بالمستشفى الجامعي ابن رشد بالدر البيضاء. كنا دون معلم ولا رقيب عدا أحد الجراحين الرومانيي un Romain المتقدم في السن والذي تعلمنا منه القليل قبل ان نلتحق بفرنسا لتكميل تكويننا في هذا الميدان.
لقد كانت مصلحة جراحة الدماغ منبوذة ومخيفة لقلة تجهيزاتها المادية والبشرية وسمعتها بأن من" دخلها مفقود ومن خرج منها كأنه مولود" كغابة في الأدْغال الأمازونية. وكان الأطباء، كلما التقوني في "نادي الداخليين" يمزحون قائلين ومرددين: "كم خطف اليوم من مريض ملك الموت سيدنا عزرائيل؟". أما اليوم، فإنك تجد في ذات المصلحة ما يزيد عن عشرين طبيبا، بين أساتذة مقتدرين وأطباء في طور التكوين، مغاربة وأفارقة، ومعدات جديدة، ناهيك عن أن كل المدن المغربية متوفرة على مصالح مجهزة لجراحة الدماغ والأعصاب.
ألا يثلج الصدر كل هذا، خصوصا عند كل الذين عرفوا وعاشوا أو عايشوا قلة الشيء او عدم وجوده كما يقال؟.
لعل الغيوم القليلة التي تحجب تحقيق الحلم الكبير تنجلي لينعم الوطن بالعدل الكفيل والضامن الحقيقي والوحيد للطمأنينة والمساواة.
وعقد الدكتور العلوي مقارنة بين ما يقع في أمريكا وما يقع في المغرب، كما تحدث عن التطور الذي عرفته جراحة الدماغ والأعصاب، في البينات والمعدات والموارد البشرية المتخصصة..
بعد رحلة الى الديار الأمريكية دامت ما يناهز ثلاثة أشهر، قصد صقل معلوماتي في ميدان جراحة الدماغ والأعصاب والعمود الفقري، في أحد أكبر المستشفيات بمدينة هيوستن HOUSTON التي توجد بها القاعدة الفضائية(نازا)، رجعت إلى وطني وأنا مصمم العزم على أن أحاول ان أطبق ما حزت من معلومات ومن تقنيات ومن معاملات، مع مرضى بلدي الحبيب الذين يستحقون، على غرار الأمريكيين او الألمانيين ...، كل العناية.
كانت رحلتي مليئة بالصدف الجميلة والطيبة التي تركت في نفسي ذكريات راسخة رغم مرور ما يزيد عن ثلاثين سنة. أذكر على سبيل المثال تعرفي بالصدفة على أحد الأفارقة القاطنين بهذه المدينة العلمية ومهد الاختراعات والمعرفة. كان أبوه إمبراطورا في افريقيا. أصر على أن أنتقل فورا من الفندق الذي كنت أقيم فيه لأسكن مع عائلته في منزله، ثم قدمني إلى زوجته، وهي ابنة أحد ملوك دولة بجوار جنوب إفريقيا، وإلى أولاده الذين رحبوا بي أيما ترحيب، وطلبوا مني ان أقوم بزيارة لكل أرجاء المنزل، وخصوصا الغرفة الجميلة التي سأقيم بها، مرورا بموقف السيارات قائلين لي: "هذه سيارتك التي ستقلك يوميا للذهاب إلى المستشفى، وهي من نوع "ليموزين"، ولا يهمك كم تستهلك من البنزين".
شكرت كل أفراد العائلة على كرم الضيافة الذي قل مثيله. وبعد ذلك أذنوا لي بان أستريح قليلا في غرفتي قبل ان نخرج لتناول طعام العشاء في أحد المطاعم الفخمة في هيوستن، وهو مطعم مغربي يسمى CASABLANCA، حيت تعرفت على صاحبه وتجاذبنا أطراف الحديث، فأطلعته على هويتي وعلى سر مجيئي الى هذه المدينة البعيدة جدا من الدار البيضاء. وفي نهاية الوجبة قدم لنا صاحب المطعم الشاي المغربي وتشكيلة من الحلويات صنعتها أياد مغربية هدية منه وفرحا بلقائه بطبيب مغربي. شكره الجميع على حفاوته وطيبته.
في الصباح الموالي، طلب مني مضيفي الإفريقي أن اركب سيارتي وأقودها خلفه حتى باب المستشفى الجامعي ANDERSEN HOSPITAL، كي أتعرف على الطريق الذي يقودني مباشرة إليه، والذي سأستعمله كل يوم، ما عدا يومي السبت والأحد.
هكذا صرت اقضي كل اليوم في المستشفى. أغدو واروح كالطير إلى عشه، حيث كل افراد الأسرة يستعدون كل يوم لتناول وجبة العشاء في مكان خارج المنزل كنت ممنوعا منعا كليا من مد يدي الى جيبي، ناهيك عن أنهم في كثيرا من الأوقات كانوا يوجهون الدعوة إلى بعض الأفارقة، لتناول وجبة العشاء معنا والتعرف علي.
مرت كل هذه الفترة في هذا المستشفى الشهير الذي تعرفت على كل ما يجري فيه في ما يهم اختصاصي. ربطت علاقات صداقة ومهنية مع جل الأطباء، وتشبعت بفكرة العمل الجماعي للوصول الى نتائج مرضية، خاصة أمام الحالات المستعصية، دون غيرة او حسد. فالكل يخدم الكل، والهدف هو علاج المرضى. وما اثار انتباهي جدا هو المستوى المهني العالي للممرضين والممرضات وكل الأعوان الذين يشكلون طاقما واعيا بكل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وفهم الأعمال المنوطة بهم.
أغلب من تعرفت عليهم كانوا يخلطون بين المغرب وموناكو. إذ حينما يسألونني من أي بلد جئت وأقول: "من المغرب"، يظنون أنني أعني "موناكو". ذلك أنهم يعرفون المغرب باسم "كازا بلانكا "CASABLANCA، نسبة إلى الفيلم الذي أخرجه ميشيل كورتيز سنة 1942، والذي جرت أحداثه أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة الدار البيضاء.
رجعت إلى وطني وعشيرتي والأمل يحذوني بان أحاول ان أكوٌنَ مجموعة من الأطباء الأخصائيين في مجال جراحة الدماغ والأعصاب والعمود الفقري، وفتح مصحة متخصصة في القطاع الخاص. فعملت على إنشاء أول مصحة في هذا المحال، رغم أن الكثير كان يتنبأ لها بالفشل، بل حتى الابناك التي منحتنا القروض كان يعتريها الشعور نفسه. ذلك أن جراحة هذا العضو المليء بالألغاز والمخيف كانت حكرا على المستشفيات الكبيرة عبر العالم. غير أن مصحتنا كانت تتوفر على معدات متطورة، ومن مستوى عال يشرف المغرب، إذ أشادت بها الصحافة ووسائل الاعلام السمعية والبصرية. وكان التلاحم بين أطبائها وممرضيها واعوانها قدوة لعدة مصحات أخرى فتحت أبوابها بعد ذلك.
بدأنا العمل بالتركيز على المبدأ الأكاديمي بدقته العلمية والبحثية، وعلى التكوين المستمر وعقد ندوات علمية وتشاورية في قلب المصحة، فذاع صيت المصحة عبر المغرب وخارجه، وزارنا عدد كبير من الأطباء الكبار، مغاربة وأجانب. كما قمنا بعمليات مختلفة ومعقدة كللت اغلبها بالنجاح، والتي كانت تتطلب قبل ذلك مغادرة المرضى أرض الوطن للعلاج وبتكلفة باهظة الثمن...
أما حكاياتي مع المرضى فهي كثيرة، لكن حكاية واحدة ظلت راسخة في عقلي وأثارت اهتمامي. إنها حكاية الطفل مهدي التي أعطتني درسا كبيرا بعمق فلسفتها وتقمصها العاطفي قل مثيله عند الانسان وخصوصا في هذا العمر المبكر. كان المهدي طفلا يبلغ من العمر سبع سنوات ونصف، ويقطن بقرية صغيرة تبعد عن مدينة بني ملال بخمسين او ستين كلم في أعالي الجبال. بدأ دراسته الابتدائية بطبيعة الحال في قريته التي توجد بها ثلاثة او أربعة أقسام تدرس فيها كل المستويات بمعلمين إثنين فقط، وفق ما نقله والد الطفل الذي يأمل ان يرى في يوم من الأيام ابنه معلما في قريته.
قبل نهاية السنة الأولى من التعليم، بدأ المهدي يشتكي من نقص في النظر، مما دفع المعلم إلى أن يغير مكان مقعده إلى الامام للاقتراب أكثر من السبورة. ومع مرور الأيام زادت حدة هذا النقصان مما دعا المعلم إلى أن يجبر أباه على عرضه على طبيب العيون في بني ملال.
كان تقييم الفحص ثقيلا: المهدي يعاني من ضغط شديد، وربما سيؤدي به الى فقدان بصره في أقرب وقت، وقد يكون هذا ناتجا عن ورم في الدماغ، خصوصا وأن الطفل يعاني من نوبات قيء، بعيدا عن وجبات الأكل. أنصحك يا سيدي بأن تعرض ابنك على طبيب اخصائي في جراحة الدماغ، في مستشفى جامعي أو مصحة خاصة في الرباط أو الدار البيضاء".
وهكذا كان الأمر. حل الوالد وطفله المهدي بعيادتي بالمصحة بعد أن أشار عليهما البعض بذلك. وبعد أن قرأت تقارير طبيب العيون، فقمت بفحص سريري للمهدي، وسارعت بإجراء فحوص أخرى، كالسكانير SCANNER ثم الرنين المغناطيسيIRM للتدقيق، وذلك رغم قلة موارد والده، وقد ساعدنا في ذلك أحد المحسنين الذي واكب كل مراحل التشخيص والعلاج بالجراحة والعلاجات المضافة.
قبل أن أقوم بالعملية الجراحية على مستوى الدماغ، وبالضبط في المخيخ الذي كان محل ورم من نوع خبيث حسب معطيات الفحوص الإشعاعية (كان علينا انتظار ما ستفرزه الفحوص التشريحية)، بادرت إلى تفسير كل المراحل التي سأقوم بها لأبيه الذي كان يردد عبارة "هذا من أمر ربي"، ولا يردد عبارة سواها. بعد خاطبت المهدي الذي لم يبق له إلا بصيص قليل من البصر، قائلا:
- يا ولدي، أنت دون شك طفل نجيب وذو قدرات عالية لفهم ما سأقوله لك أمام أبيك، وسنعمل كل ما في وسعنا لاسترجاع بصرك بإذن الله تعالى.
كان الطفل المهدي يستمع الى حديثي كرجل صغير، يحاول أن يستوعب معنى كل ما أفوه به من كلمات تقنية مُبسَّطة. وبعد أن خضت معه في موضوع العملية الجراحية، واستمع بتأني إلى كلامي، أوقفني قائلا:
- شكرا يا دكتور... لكن عندي سؤال أرجوك أجبني عنه بصراحة !
- - بالطبع يا ولدي..
لم يخطر ببالي أنني سأحرج غاية الإحراج بسؤاله..
- ما هو سؤالك يا مهدي؟
- إذا كنت سأموت بعد العملية، أو في وقت وجيز بعدها، أرجوك أن تصارحني يا دكتور.
- -لماذا هذا السؤال يا ولدي؟
- إذا كان الأمر هكذا يا دكتور، أريد من اليوم أن أترك مقعدي في القسم المكتظ جدا بتلاميذ يفوق عددهم الستين. نحن نجلس متزاحمين، وتركي لمقعدي سيفسح مكانا للذين ساعدهم الحظ في الحياة.
بقيت صامتا لعدة دقائق، متأملا لباقة هذا الطفل وحسه الاجتماعي وعدم تلطخ روحه بالأنانية الهدامة والمفسدة.
كيف يمكن لطفل في بداية مشوره في الحياة أن يكون له رصيد كبير وفطري من الإنسانية، بينما يفقدها في كثير من الأحيان آخرون على حساب والديهم أو عائلتهم أو جيرانهم في سبيل الاغتناء وما إلى ذلك. هذا درس عميق المعاني من طفل مريض.
لم يكن حظ هذا الطفل جيدا، ذلك أن تشريح الورم أثبت أنه قاتل ولن ينفع معه علاج. علمت أن الطفل فارق الحياة بعد ثمانية أشهر تاركا آثارا عميقة في نفسي. كما علمت أيضا أن صديقي الإفريقي في مدينة هيوستن توفى في المستشفى نفسه الذي كانت سيارته تقودني إليه كل صباح، متأثرا بسرطان في الرئة لتعاطيه للتدخين المفرط.
أثناء وجودي بمستشفى أندرسون بهيوستن الأمريكية، الذي كان يستقبل عددا وافرا من مشاهير وزعماء العالم الذين لا مجال لذكر أسمائهم حفاظا عن سر المهنة، قمت بزيارة جناح جراحة الشرايين الذي كان يشرف عليه آنذاك الأستاذ الشهير ميكاييل إليس ديباكاي Michael Ellis DeBakey. وكان مثيرا للانتباه وأنت متوجه الى مكتبه في نهاية ممر طويل هو الصور المعلقة للملوك والرؤساء والمشاهير الذين ترددوا على جناحه وتلقوا العلاجات.
أول يوم بدأت فيه نشاطي هناك، هو زيارة قاعة الجراحة. وقد ترك رئيس المصلحة الأستاذ R. GROSSMAN الوصية لمساعِدته لتقودني إلى القاعة بمجرد التحاقي بالجناح المخصص لجراحة الدماغ والأعصاب. وصلت في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة صباحا، فتم إرشادي إلى القاعة وأنا مزهو بأني أول الواصلين قبل الفريق. وكم كانت دهشتي عظيمة لم فتحت الباب، ووجدت القاعة مكتظة بالأطباء، والممرضات، والآلات، والكاميرات. كان عدد الأطباء يفوق ستة أو سبعة، لأن العملية معقدة، وتتطلب تدخل عدة أخصائيين من جراحي الدماغ neurochirugiens وجراحي الوجه والفكين chirurgie maxillo facial وجراحي التجميل chirurgie plastique ، ناهيك عن أطباء التخدير. الكل كان منهمكا في العمل المنوط به تحت رنين موسيقى خافتة مهدئة للأعصاب، كيف لا والضغط النفسي كان في أوجه. رفع الأستاذ ديباكاي رأسه نحوي وأرسل إلي غمزة للتعبير عن ترحيبه بوجودي معهم. رفعت يدي ووضعتها على صدري بسرعة فائقة لرد التحية دون تضييع أي وقت.
كانت درايتي باللغة الإنجليزية متوسطة، مما أحرجني قليلا، لكنهم ما لبثوا أن فهموا وضعيتي، فبدأ الكل يتحدث بشيء من البطء. وفي وقت من الأوقات، بدأ الأستاذ دون أي يرفع رأسه عن المجهر يشرح لنا ما كان يقوم به. أما أنا، فكنت قبل ذلك قد تفحصت الصور التي كانت معلقة على négatoscope ، وفهمت أن العملية جد معقدة وتتطلب مهارات وخبرة طويلة لطاقم متعدد الاختصاصات. فالورم متأصل في الطبق الأمامي من الجمجمة l’étage antérieur ، وقد امتد إلى العين اليمنى التي فقدت بصرها وأصبحت مطوقة بالورم، وتبعد عن الوجه بعشر سنتمترات على الأقل، كما هو الحال بالنسبة للفك العلوي.
كان عمر المريضة التي تجرى لها العملية يناهز الستة وسبعين سنة، ووزنها مائة وخمسة وعشرون كلغ. أذكر هذا لأنبه إلى دور أطباء التخدير والإنعاش الذين يلعبون دورا رئيسيا في التعامل مع هذا النوع من المرضى إبان العملية وما بعدها. وقد استغرقت العملية ما يناهز ستة وثلاثين ساعة، وقام كل فريق بما عليه ليترك المجال للآخر. ولم أتابع بالطبع إلا فريق الدماغ والو جه والفك. إذ غادرت قاعة الجراحة لما بدأ فريق التجميل بسد وملء الثغرات التي تركها استئصال الورم الكبير والعين اليمنى الميتة والفك الأيمن بكامله. وقد تم إغلاق هذه الحفرة الواسعة بـ "سَديلَةٌ عَضَلِيَّةٌ جِلْدِيَّة" lambeau musculo-cutané تم أخذها من الكتف الأيمن. وبعد أربعة وعشرين ساعة وقع نَخَرُ في هذه السديلة necrosis ، مما أدى الى عملية أخرى استغرقت مدة اثني عشرة ساعة، غير أن المريضة توفيت بعدها بيومين في غرفة الإنعاش التي زرتها فيها للمرة الاخيرة.
التحقت بالأستاذ في مكتبه بعد الاستراحة من هذه العملية المتعبة والمعقدة، وتجادبنا أطراف الحديث بكلتا اللغتين الإنجليزية والفرنسية من طرفه، وأنا أشكره جدا على المجهود الذي قام به لتجنب إحراجي. ثم عدت الى مقر إقامتي عند صديقي، وبعد تمددي على فراش النوم، بدأ شريط يومي الأول في المستشفى يمر أمام عينيّ وأنا أتساءل عن فحوى إجراء عمليات مثل هذا النوع في وطني، وعن كل المعدات البشرية والمادية والمالية التي تم توفيرها لإجرائها في هذا المستشفى.
كم كان إعجابي شديدا بما عاينته أثناء العملية، وكم كانت خيبتي أشد بعد وفاة المريضة. علمت أن فاتورة الاستشفاء تجاوزت 250 ألف دولار. وهذا القدر من المال يمكنني في وطني أن أقوم بما يناهز ستين عملية جراحية على مستوى الدماغ. فويل لأي طبيب أو مصحة تطلب أتعابا على غرار أطباء أو مصحات أجنبية بنفس النتيجة، والا نُعِت ونعتت بـ"الشفار" من طرف المريض أو عائلته أو حتى السلطات وشركات التأمين التي تؤدي هذه مبالغ دون قيد أو شرط عن بعض مرضاها المختارين حين يتوجهون إلى الخارج للعلاج. وكذلك الشأن بالنسبة للمرضى الذين يفضلون العلاج وراء حدود الوطن رغم كل الجهود التي تم القيام بها في كلا القطاعين، العام والخاص، في مجال التجهيزات التقنية والموارد البشرية. لا أريد هنا أن أشكك في قدرات الأطباء أو المستشفيات في أوربا وأمريكا. لكنني أريد أن أنوه بالتقدم الذي عرفه المغرب في هذا القطاع الحيوي، والذي يسير بوتيرة هائلة رغم بعض العراقيل والتعثرات. أنا شاهد على هذا لطول مسيرتي ومعاينتي لكل هذه الأشواط لما يزيد عن خمس وأربعين سنة عملت فيها بكل القطاعات.
في اليوم الموالي للعملية، قررت أن أطرح بعض الأسئلة على الأستاذ ديباكاي لأفهم دوافع القيام بهذا النوع من العمليات والدخول في مغامرة بدون نتيجة في غالب الأحيان وبتكلفة باهظة الثمن. جلسنا في المقهى الجامعي الموجود داخل المستسقى، والذي يتردد عليه كل العاملين به والزوار وحتى المرضى وهم حاملين لبعض المعدات العلاجية دون حرج أو مركب نقص، إذ لا فرق بين المواطنين. كانت أسئلتي القادمة من تخوم إفريقيا تتطلب شيئا من التفكير لغرابتها، وهو ما دفعه إلى أن يعتذر مني لحظة ليأتي بقنينة ماء.
بعد شربة لجرعة الماء الباردة قال لي:
- يا صديقي يجب أن تعلم أن حياة الإنسان وصحته هنا مقدستان أكثر مما يخطر على بالك، وهذا يجعل الدولة والقانون لا يتهاونان في هذا الميدان. ولعلك تعلم أن المحامين وشركات التأمين والمرضى والإعلام كلهم على أهبة لينقضوا على أي تقصير أو "خطأ طبي". كل هذا أدى الى ارتفاع مهول لسعر تكلفة تأمين الأطباء والمرضى والمصحات والمستشفيات والمعدات.. إلى غير ذلك. دخلنا في هستيريا لا حدود لها ولا رؤية واضحة المعالم للشفاء منها، وهذا ما دفع الأطباء والمستشفيات الى هذا التصعيد الصاروخي في التجهيزات والاحتياطات المفرطة التي تكون في بعض الحالات غير ضرورية، ولكنها حاضرة في عين المكان إذا تطلب الأمر استعمالها. زد على هذا لوبيات الأدوية والمعدات الطبية التي تخترع أدوية ومعدات جديدة ومغرية ومفيدة بدون منازع في كثير من الأحيان، فويل لمن لم يتمكن من متابعة الركب أو فاته الركب ما يقال. هل فهمت لماذا نستعمل دبٌابة tank لقتل ذبابة بدل استعمال منشة، ولماذا أصبحت التكلفة عالية الثمن؟ حقا، إننا بلد غني جدا، ولكن يجب إعادة النظر في نظامنا الصحي وتقنينه دون الإساءة إلى صحة المواطنين وخلق نظام ذي سرعتين. إذا كان البشر متساوون أمام الموت، فلماذا هم لا يتساوون أمام الحق في العلاج والحياة؟
لا أخفى عليك يا صديقي- يسميني هكذا ربما لأن فارق السن بيننا قليل جدا، وربما احتراما لي- أني زرت عدة مستشفيات عبر العالم، ولاحظت عدة خروقات كما بهرت بالعمل الجبار والنتائج التي يتوصل إليها أطباء وممرضو هذه المستشفيات، وهذا يدل على أن عبقرية الإنسان تكمن في عزيمته وكيفية تدبيره للأشياء. ولكن بالنسبة لما قمنا به مع المريضة، والذي مع الأسف لم يكلل بما كنا نتمناه، فإننا خرجنا بعدة توصيات ودروس تفيدنا في المستقبل، ولو كان الإحباط يسد طريقنا في كل مرة يهزمنا المرض لما وصلنا الى ما وصلنا إليه من تقدم أبهر البشرية، وأنقد ما لم يكن في الحسبان من مرضى كانوا في لائحة الموتى.
- أنت على حق وعلى بينة بما يجري في العالم من موقعك هذا، واسمك معروف عبر كل المواقع لما أسديته من اعمال مفيدة في مجال جراحة الدماغ والعمود الفقري، مما جعلني اختار هذا القسم الذي تشرفون على تسيره بحكمة وانضباط، لزيارته والإطلاع عن كثب على ما تقومون به من خدمات قيمة وأشكركم جزيل الشكر على قبولكم زيارتي هذه.
- أشكرك بدوري على عواطفك النبيلة، وأتمنى أن أستفيد أنا أيضا من تجربتك في المغرب الذي أتمنى أن أزوره إذا ما أتيحت لي الفرصة، والآن هيا بنا لإجراء العملية المبرمجة في الساعة العاشرة، والتي ستهم سرطان ثانوي في إحدى فقرات العمود الفقري العنقي.
هكذا توالت الأيام والأسابيع ما بين قاعة الجراحة وحضور المحاضرات التي تلقى في أحضان مستشفى METHODIST/ANDERSON/ HOSPITAL أو غيره في مدينة HOUSTON الواسعة وعاصمة تيكساسTEXAS ، وبين خزانة جناح جراحة الدماغ. كما ترددت مرتين في الأسبوع على مركز الاستشارات الطبية رفقة الأستاذ R.G ، حيث لم يكن عدد المرضى يتجاوز خمسة أو ستة كل مرة، وذلك في هدوء واحترام فائق للمواعد، كأنك في محطة للقطارات في اليابان أو سويسرا. وذات مرة، جاء للاستشارة مريض يناهز الخامسة وأربعين من عمره، كان حسن الخلقة والهندام، وتبدو عليه علامة الثراء. تحدث إلينا بأدب واحترام، وبكلمات مختارة، لتبليغ ما كان يعانيه من ألم في رأسه وقلة تركيزه في مسائل مهمة بالنسبة لعمله. وبعد الفحوص السريرية العادية والروتينية، طلب منه الأستاذ عدة اختبارات إشعاعية وبيولوجية لتحديد مسببات ألمه.
في الموعد المحدد، دخل المريض علينا، ومعه كل ما طلب منه من تحاليل وهي في ظروف مغلقة بإحكام وموجهة إلى الطبيب شخصيا. تفحصنا كل التحاليل بإتقان قبل أن يتناول الأستاذ الكلمة متوجها الى المريض بشيء من الحسرة والصراحة المفروض قولها رغم كل الدبلوماسية التي يقتضي استعمالها في مثل تلك الحالات:
- سيدي، لا شك أننا أمام أمر بالغ الصعوبة، فالأمر يتعلق في الغالب بورم جد خبيث كما يقال، ولكن لا بد من انتظار نتيجة علم التشريح . anatomopathlogie
كان همي أمام هذا الحكم الطبي القاسي والصادر من طبيب ذي خبرة واسعة هو أن أرى رد فعل المريض الأمريكي مقارنة مع المريض المغربي الذي يبدأ بمجرد ما نلمح له بشيء من هذا القبيل بالصراخ والعويل داخل القاعة وأمام المستشفى أو المصحة، بدل أن يكون إيماننا وثقتنا بخالقنا فوق كل شيء.
توقف المريض لبعض الثواني متأثرا لما سمعه من الطبيب ثم قال:
- هل عندكم فكرة عن مسار المرضpronostic ، وعن المدة التي يمكن أن أبقي على قيد الحياة؟
- في الحقيقة إذا ثبت ما نشك فيه من نوع الورم GLIOBLASTOME ، فهو قاتل ، ولن يمهلك سوى أقل من ستة إلى ثمانية أشهر إذا لم نفعل أي شيء، اما إذا التجأنا الى الجراحة وكل الأدوية المضافة فعلى حسب المكان المصاب في الدماغ، فيمكن ان يعيش الإنسان، على أكثر تقدير ، بين ثمانية عشرة شهرا وأربعة وعشرين شهرا.
- حسنا يا دكتور، قد استوعبت خطابك وأنا رجل أعمال ولدي داخل الوطن وخارجه تجارة business . فهل يمكنني أخد أسبوعين لكي أرتب كل اغراضي وأودع كل أصدقائي في الخارج الذين سوف لن التقيهم مرة أخرى، وانا رهن اشارتكم للقيام بما أتاكم الله وضميركم من علم ومسؤولية.
غادر المريض وقد ادهشتني صراحة الطبيب وطريقة إنصات المريض ووعيه وثقافة الشعوب المتقدمة التي تجعلهم يثقون بالعلم والعلماء ويعرفون ما لهم وما عليهم.
انتهت مهمتي في هذا المستشفى الرائد ببلد العام سام، وخصوصا في علاج الأورام على مختلف أشكالها، وبدأ الحنين إلى وطني يلتهمني، آملا في تطبيق كل ما اختزنته في جُعْبَتي مما عاينته في المستشفى على أرض واقع مغربي الحبيب. وقبل الوداع طلب مني الأستاذ أن ألقي محاضرة وجيزة في موضوع يهم أحد الأمراض الشائعة في المغرب، والتي هي نادرة عندهم ليستفيد الأطباء والطلبة المتدربون بالجناح. كنت قبل سفري إلى الولايات المتحدة أتوقع هذا، وكنت قد أعددت الحديث عن مرض سل الدماغ Les tuberculomes ومرض الأكياس Le kyste hydatique cérébral وطريقة علاجه. اخترت هذا الأخير معززا بالصور وبفلم قصير للعملية، وقد كانت القاعة مملوءة عن آخرها، وكان الكل يصفق في النهاية، ويشكرونني لأخبارهم بما لم يسبق لهم رؤيته من قبل.
وحين التحقت بأرض الوطن، بدأت مشوارا جديدا في القطاع الخاص، وها أنا اليوم بفضل الله أقف على تحقيق الكثير من أحلامي في ما أراه ينمو من مشاريع، إذ لم يخطر ببالي يوما أن نصل إلى ما وصلنا إليه الآن. ذلك أنه بداية مشوري في جراحة الدماغ في نهاية عام 1978، كنا انا وصديقي الدكتور "يوسف. ب" مثل اليتيمين في مصلحة جراحة الدماغ والاعصاب بالمستشفى الجامعي ابن رشد بالدر البيضاء. كنا دون معلم ولا رقيب عدا أحد الجراحين الرومانيي un Romain المتقدم في السن والذي تعلمنا منه القليل قبل ان نلتحق بفرنسا لتكميل تكويننا في هذا الميدان.
لقد كانت مصلحة جراحة الدماغ منبوذة ومخيفة لقلة تجهيزاتها المادية والبشرية وسمعتها بأن من" دخلها مفقود ومن خرج منها كأنه مولود" كغابة في الأدْغال الأمازونية. وكان الأطباء، كلما التقوني في "نادي الداخليين" يمزحون قائلين ومرددين: "كم خطف اليوم من مريض ملك الموت سيدنا عزرائيل؟". أما اليوم، فإنك تجد في ذات المصلحة ما يزيد عن عشرين طبيبا، بين أساتذة مقتدرين وأطباء في طور التكوين، مغاربة وأفارقة، ومعدات جديدة، ناهيك عن أن كل المدن المغربية متوفرة على مصالح مجهزة لجراحة الدماغ والأعصاب.
ألا يثلج الصدر كل هذا، خصوصا عند كل الذين عرفوا وعاشوا أو عايشوا قلة الشيء او عدم وجوده كما يقال؟.
لعل الغيوم القليلة التي تحجب تحقيق الحلم الكبير تنجلي لينعم الوطن بالعدل الكفيل والضامن الحقيقي والوحيد للطمأنينة والمساواة.