مع استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يبرز تباين واضح بين موقف الولايات المتحدة، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى المشهد، وبين موقف العديد من العواصم الأوروبية التي تدفع نحو تصعيد المواجهة بدلًا من البحث عن مخرج سياسي. هذا التناقض يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية لكل طرف، وما إذا كان استمرار الصراع يخدم أجندات تتجاوز أوكرانيا نفسها.
في أوروبا الشرقية، ترى دول مثل بولندا ودول البلطيق أن روسيا تمثل تهديدًا وجوديًا، وتعتبر أن دعم أوكرانيا حتى النهاية هو السبيل الوحيد لمنع موسكو من فرض نفوذها مجددًا. هذه الدول، التي لطالما عاشت في ظل الخوف من الهيمنة الروسية، ترفض أي تسوية قد تعيد رسم حدود النفوذ في المنطقة لصالح الكرملين. لكن في باريس وبرلين، يبدو أن الحسابات أكثر تعقيدًا. لا يتعلق الأمر فقط بالأمن، بل أيضًا بمكانة الاتحاد الأوروبي كقوة فاعلة في النظام العالمي. انتصار روسيا أو حتى خروجها من الحرب بوضع متقدم قد يعيد ترتيب الأولويات الاستراتيجية في القارة، مما قد يعمق تبعية أوروبا للمظلة الأمنية الأمريكية، وهو ما يتعارض مع طموحها في تحقيق استقلالية استراتيجية.
في خلفية هذا المشهد، تلعب المصالح الاقتصادية والعسكرية دورًا لا يمكن تجاهله. الصناعات الدفاعية في فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة حققت مكاسب ضخمة نتيجة ارتفاع الطلب على الأسلحة، مما خلق شبكة مصالح تضغط باتجاه استمرار التمويل العسكري لأوكرانيا. كما أن أزمة الطاقة التي نجمت عن الحرب دفعت أوروبا إلى البحث عن مصادر بديلة للغاز الروسي، وهو ما أعاد تشكيل الخارطة الاقتصادية للقارة، وإن كان ذلك على حساب المستهلكين الذين يواجهون ارتفاعًا حادًا في الأسعار.
على الجانب الآخر، يتغير الموقف الأمريكي، خاصة مع تصاعد التيار الداعي إلى تقليص الإنفاق الخارجي. ترامب، الذي يضع “أمريكا أولًا” في صميم خطابه السياسي، يدرك أن استمرار الحرب يمثل عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا لا يحظى بشعبية متزايدة داخل الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، فإن الأولويات الاستراتيجية لواشنطن تتجه أكثر نحو الصين، ما يجعل الإدارة الأمريكية أقل استعدادًا للاستثمار في صراع يبدو أنه يستنزف الموارد دون تحقيق مكاسب واضحة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل كان بايدن والقادة الأوروبيون يدفعون بهذه الحرب عن قناعة أم لخدمة أجندات أعمق؟ يبدو أن الرهان لم يكن فقط على دعم أوكرانيا، بل أيضًا على إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي. فقد استفادت شركات الطاقة الغربية من ارتفاع الأسعار بعد توقف إمدادات الغاز الروسي، بينما سجلت شركات التصنيع العسكري أرباحًا قياسية. كما أن إضعاف روسيا يظل هدفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، حتى وإن لم تؤدِّ العقوبات إلى الانهيار الاقتصادي الذي كان متوقعًا.
في هذه الأثناء، تتحمل أوكرانيا وأوروبا الجزء الأكبر من فاتورة الحرب. أوكرانيا، التي كانت واحدة من الاقتصادات الناشئة الواعدة في أوروبا الشرقية، أصبحت الآن دولة شبه مدمرة، واقتصادها في حالة انهيار. أما أوروبا، فقد باتت تعاني من موجة تضخم حادة، وركود صناعي متزايد، في وقت بدأت فيه الاحتجاجات تتصاعد ضد السياسات التي تضع الدعم العسكري لكييف فوق الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية.
ورغم كل هذه التداعيات، لا تزال الحرب مستمرة. المستفيدون منها معروفون: الشركات الكبرى في مجالات الطاقة والدفاع، بينما يدفع الثمن الأكبر المواطن الأوكراني والأوروبي. السؤال الذي يظل مفتوحًا: إلى متى سيستمر هذا الرهان، وما الذي يمكن أن تجنيه أوروبا في النهاية؟ إذا استمرت في هذا المسار، فقد تجد نفسها الخاسر الأكبر في حرب لم تكن بالضرورة حربها.