بروتوكول متميز ذاك الذي تم التقيد به في الجلسة الرسمية لاستقبال وتنصيب ثلاثة أعضاء جدد لأكاديمية المملكة المغربية.
تم ضبط بداية التنصيب مع ساعة الانطلاقة، الثالثة بعد الزوال من يوم الأربعاء 19 فبراير 2025، إذ لا مجال للتأخر، عن موعد له طقوسه الخاصة الممتدة عبر سنوات مضت، قاعة بعدد محدود من الكراسي، تظهر أن الاجتماع يضم أسماء بعينها، نساء ورجال من عالم الفكر والاجتماع والاقتصاد والقضاء والثقافة، والعلوم التقنية، والتعليم والتربية، والإعلام والديبلوماسية.. مغاربة وأجانب، وقد اشتعلت رؤوسهم شيبا، فيما كان البعض يتحرك بصعوبة، نتيجة المرض، ولعلها ضريبة مسؤوليات كثيرة تقلدها هذا أو تلك، خلال مسار مهني طويل، توج بالعضوية في أكاديمية المملكة التي تعد أعلى هيئة فكرية..
عبد السلام بنعبد العالي، هو واحد من الثلاثة الذين تم تعيينهم عضوا مقيما بالأكاديمية، كان أول من ولج القاعة التي تعلو حائطها الأيسر لوحتان من الحجم الكبير يختلفان شكلا، لكنهما يتوحدان من حيث المضمون، صورة جانبية لشخص أمامه شكل هندسي شبه دائري، يحمل رقم 867!
بعد ذلك بدأت الشخصيات، التي كان بعضها يضع القلادة الذهبية، تتقاطر على هذه القاعة، قدموا فرادى ومثنى وثلاث، بلغة دارجة أو فرنسية، خيم سؤال كيف الصحة، على عدد من أعضاء الأكاديمية وضيوف آخرين، منهم مستشارون ملكيون ووزراء سابقون ورؤساء جامعات ومدراء شركات وغيرهم من الشخصيات متعددة المشارب..
بعد الترحيب والسلام والسؤال، التحق الأعضاء والضيوف بمقاعدهم، فيما اختار البعض الانزواء في الكراسي الخلفية، قريبا من الباب الخلفي للقاعة.
عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، أول من صعد للمنصة، وتلاه ادريس الكراوي الذي ترأس الجلسة، ثم رحمة بورقية، وبعدها تمت المناداة على الأعضاء المقيمين المعينين في الأكاديمية، وهم بالترتيب شكيب بنموسى وعبد السلام بنعبد العالي وحسن رشيق، وهو نفس ترتيب حفل التنصيب سواء من حيث تقديمهم والتعريف بمسارهم العلمي أو من خلال دروس التنصيب، التي تتوافق مع الاختصاص الأكاديمي للثلاثة.
كل شيء في برنامج التنصيب بمقدار زمني محدد، يتساوى فيه الأعضاء المعينون، 15 دقيقة لخطاب الترحيب، و30 دقيقة لدرس التنصيب، وهو ما يتناسب وروح المادة التي تتحدث عن وجوب اعتبار جميع أعضاء الأكاديمية أنفسهم سواسية في علاقاتهم المتبادلة داخل الأكاديمية مهما كانت الصفة أو المهام الأخرى التي يشغلونها أو سبق لهم شغلها.
خمس دقائق، كانت كافية لعبد الجليل لحجمري للترحيب بالضيوف وخاصة المعينين الجدد، مشيدا باختيارهم في أعلى هيئة فكرية، متمنيا لهم التوفيق، وأن تكون عضويتهم إضافة نوعية في مسار الأكاديمية، مؤكدا أن تعيين أعضاء جدد مقيمين ومشاركين يأتي استنادا إلى الظهير الشريف رقم 1.21.02 الصادر في 5 فبراير 2021، القاضي بتنفيذ القانون رقم 74.19 المتعلق بإعادة تنظيم أكاديمية المملكة.
شكيب بنموسى، الوزير السابق والمندوب السامي للتخطيط، كان أول من تم تخصيص استقبال له، حيث تكلف لحجمري بالترحيب به وتقديمه، بعد توشيحه بالقلادة ذهبية اللون، فيما ظل بنموسى واقفا إلى جانبه، إلى حين انتهاء تقديم سيرته الذاتية، أكاديميا ومهنيا ووزاريا. بعد ذلك وضمن طقس مدروس مسبقا، تقدم بنموسى إلى المنصة ليلقي ما يسمى "درس التنصيب"، وهو ضمن تقاليد هذه المؤسسة التي يعود إحداثها لسنة 1977، زمن الملك الراحل الحسن الثاني.
اختار شكيب بنموسى، أن يكون درسه أمام نخبة المجتمع المغربي من عالم الفكر والاقتصاد والثقافة عن التعليم، وهو الذي أدار هذا القطاع في حكومة أخنوش الحالية قبل أن يتم التعديل الحكومي ويعين مندوبا ساميا للتخطيط، وكان عنوان الدرس: "تحول التعليم، محدد للعقد الاجتماعي"، استهله بالشكر للثقة المولوية التي حظي بها وتعيينه عضوا مقيما بالأكاديمية، متمنيا أن يشكل ذلك إضافة نوعية لعمل الأعضاء، مبديا فخره بالانتماء إلى هذه المؤسسة.. وبعد ذلك استأذن الحضور لإتمام درسه باللغة الفرنسية. ولأنه كان رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، فقد أكد بنموسى في درسه على أن النموذج التنموي الجديد يضع الإنسان في صميم أولويات السياسات العامة. معتبرا أن تعزيز رأس المال البشري من خلال تنمية قدرات المواطنين يشكل، من جهة، رافعة لتحقيق مغرب مزدهر يخلق الثروة وفرص العمل بشكل مستدام، ومن جهة أخرى، يشكل هدفا من أهداف النموذج التنموي الجديد لأنه يساهم في تكافؤ الفرص. نحو الإندماج الفعال والمواطنة.
فالتعليم في نظر الوزير السابق، يشكل عنصرا أساسيا في تجديد العقد الاجتماعي. وهذا يعني بذل الجهود من جانب الأسر لتمكين أبنائها من الحصول على التعليم مع تحقيق المنفعة الفردية، وبذل الجهود من جانب المجتمع من خلال توفير التمويل العام الكافي والعادل.
ودعا بنموسى إلى جعل التعليم موضوعا دائما للنقاش العمومي بما يحقق المصلحة المشتركة من حيث التنمية. فالنقاش الموسع الذي يشمل المجتمع بأكمله هو وحده القادر على المساعدة في بناء توافق اجتماعي حول موضوع يهم كل فرد على وجه التحديد والتغلب على الأزمات التي تواجه النظام التعليمي.
وبخصوص العقد الاجتماعي حول التعليم، فهو يتطلب الاهتمام ببعض المبادئ الأساسية: ثقة المواطنين في النظام التعليمي، والتنوع الاجتماعي حتى تظل الطبقة المتوسطة مرتبطة بالمدارس العامة، والدعوة إلى القطاع الثالث، كفاعل مكمل للقطاعين العام والخاص، وأخيرا تعزيز مدرسة الغد التي تؤكد على الاهتمام الضروري من جانب المعلمين لنقل المعرفة الأساسية منذ الطفولة المبكرة.
على نفس المنوال البروتوكولي، سار تقديم باقي العضوين، الكاتب والمفكر عبد السلام بنعبد العالي، الذي قدم سيرته الذاتية الأنثربولوحي حسن رشيق، وهذا الأخير قدمته زميلته، العضو في الأكاديمية رحمة بورقية، بعد توشيحهما أيضا بالقلادة ذات اللون الذهبي.
بعربية سليمة ودارجة "الشاوية"، قدم حسن رشيق زميله عبد السلام بنعبد العالي، الباحث والكاتب المفكر، الذي سكن مدينة سلا وسكنته، أستاذ في كلية الأداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، عضو اتحاد كتاب المغرب، له الكثير من المقالات والدراسات العلمية في مجلات متخصصة ومنابر ثقافية وطنية وأجنبية، منها مؤلفاته حول الفلسفة، وهو حاصل على دكتوراه الدولة في تاريخ الفلسفة.
ولأن الفلسفة هي المدخل فقد انطلق بنعبد العالي من قيمة التعددية الخلاقة، فالترجمة، لم تعد مجرد عمليات نقل لغات ونصوص، وإنما صارت أسلوب تفكير، بل اسلوب حياة ونمط عيش، "فكل ما نكتبه أو نقوله بلغتيْنا مشروط بلغات أخرى متضمن لها، لقد صارت الترجمة واقعنا المعيش، هذا ما نعطيه ب "وضعية ترجمة"، يقول عبد السلام بنعبد العالي، مضيفا، "هذه الوضعية وضعية تعددية وضعية بينية، وهي تعني أن الازدواجية والتعدد اللغوي والثقافي هما واقعنا المعيش.."
ليخلص بنعبد العالي، إلى القول "أن الترجمة، بهذا المعنى، هي التمرين الفكري الحقيقي اليوم، أي التمرين الأول الذي سيهيئ لغتينا كي تغدو أداة فكر فلسفي ويهيئنا لأن نكون أهلا لتراثنا بألوانه المتعددة، وأهلا لمواكبة كل تجدّد.."
من جهتها، وفي مخالفة تامة للمثل الشعبي، "خوك في الغرفة عدوك"، قالت رحمة بورقية، أنها تفتخر بتقديم سيرة زميلها في الانثربولوجيا، حسن رشيق، الأستاذ بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية بالرباط، وهو أيضا عضو بعدد من الجامعات المغربية، والأمريكية والأوربية والعربية، مكرسا بحوثه الميدانية الأولى لتأويل الأبعاد الثقافية والسياسية وتفسير التغيرات الاجتماعية في البيئات الريفية.. كما درس رشيق استعمالات الأيديولوجيات القومية والأمازيغية والإسلامية وعمليات العلمنة، وكيف تتحول الأديان إلى إيديولوجيات..
كما استعرضت رحمة بورقية سلسلة من مؤلفات زميلها حسن رشيق، بدء من "المقدس والتضحية في الأطلس الكبير" (1990) إلى "المغرب الريفي، قاموس سوسيوأنثربولوجي" (2023)، مرورا بعدد من المؤلفات التي تتحدث عن الهوية المغربية وبعدها الأنثربولوجي..
ولأن الأنثربولوجيا، عند رشيق هي المبتدأ والخبر، فإن درسه في حفل التنصيب، كان حاضرا، من خلال مفهومي "الألفة والبعد"، ومن بين ما جاء في مداخلته: "كان الأنثروبولوجي الغربي يهدف إلى الألفة بالثقافة الأجنبية المدروسة كي يفهمها.
ومنذ ستينيات القرن العشرين، وبعد إنهاء الاستعمار، اهتز السياق السياسي للأنثروبولوجيا. وكان من أهم التغيرات ظهور الأنثروبولوجي في بلده، الذي يدرس مجتمعه ويقرأ وينتقد أعمال أسلافه وزملائه الغربيين، وخلافا للأنثروبولوجي الغربي، يفترض وضعه الألفة بالظواهر التي يدرسها. ونعني بالألفة القدرة على الفهم المباشر للظواهر الاجتماعية والثقافية قيد الدراسة دون اللجوء إلى وسيط، مترجم أو مخبر يشرحها ويعلق عليها. وهدفنا معرفة مكانة الألفة بالنسبة للأنثروبولوجي في بلده، وما هي تأثيراتها على عملية البحث والمعرفة المنتجة".
كل الدروس الثلاثة لقيت تصفيقا حارا من قبل الحضور متعدد المشارب الفكرية. وكما بدأها عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، ختمها، معيدا الترحاب بالأعضاء الجدد.