الأربعاء 5 فبراير 2025
سياسة

حمداني :القنصلية الأمريكية بالداخلة والمبادرة الأطلسية.. نحو مقاربة لبناء قطب إقليمي في سياق التنافس الدولي على إفريقيا

حمداني :القنصلية الأمريكية بالداخلة والمبادرة الأطلسية.. نحو مقاربة لبناء قطب إقليمي في سياق التنافس الدولي على إفريقيا مولاي بوبكر حمداني

يشهد النظام الدولي المعاصر تحولات جوهرية في بنية العلاقات الدولية وتوازناتها الاستراتيجية، ويأتي التنافس الأمريكي-الصيني في مقدمة العوامل المؤثرة في تشكيل هذه التحولات وتوجيه مساراتها المستقبلية، وقد برزت هذه الديناميكية التنافسية بشكل خاص خلال الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب السابقة والتي من الأكيد انها ستتواصل في ولايته الجديدة، حيث شهدت العلاقات الثنائية بين القوتين العظميين توتراً متصاعداً على المستويين الاقتصادي والسياسي، وتجلى هذا التوتر في سلسلة من الإجراءات والسياسات المتبادلة، التي شملت فرض رسوم جمركية وقيود تجارية، فضلاً عن تصاعد التنافس في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والنفوذ الإقليمي، وفي خضم هذا السياق المعقد، برزت القارة الإفريقية كساحة رئيسية للتنافس الاستراتيجي بين واشنطن وبكين، اذ تسعى كل منهما إلى توسيع نفوذها وتعزيز مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في القارة، وقد انعكست هذه التطورات بشكل مباشر على المنطقة المغاربية، وتحديداً على المملكة المغربية، التي تحظى بموقع استراتيجي مهم في السياسة الخارجية الأمريكية.

 

 

فضلًا عن هذه التحولات الاستراتيجية، شكل الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء نقطة تحول محورية في العلاقات الثنائية بين واشنطن والرباط، ويستند هذا التحول إلى رؤية استراتيجية جامعة تتجاوز البعد السياسي المباشر لتشمل أبعاداً اقتصادية وأمنية متعددة، فمن جانب يمثل هذا الاعتراف تأكيداً على الدور المحوري للمغرب كشريك استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، وحليف رئيسي في مواجهة التحديات الأمنية والتنموية في القارة الإفريقية، ومن جانب آخر يعكس قرار إنشاء قنصلية بمهام اقتصادية في مدينة الداخلة التزاماً أمريكياً بدعم التنمية الاقتصادية في الأقاليم الجنوبية للمملكة، وتعزيزا للاستثمارات الأمريكية في المنطقة، كما يأتي في سياق استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في إفريقيا، وتقوية الروابط الاقتصادية والسياسية مع الشركاء الإقليميين الرئيسيين، وقد عزز هذا التحول من المكانة الاستراتيجية للمغرب كبوابة للاستثمارات الأمريكية في إفريقيا، ومركز إقليمي للتعاون الاقتصادي والتنموي.

 

عطفًا على ذلك في الجانب الاقتصادي، مثلت اتفاقية التجارة "المرحلة الأولى" "phase one" بين الولايات المتحدة والصين محاولة لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين القوتين وإدارة التنافس بينهما، وتتضمن الاتفاقية التزامات محددة من الجانب الصيني لزيادة وارداته من السلع والخدمات الأمريكية، وتعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية، وفتح الأسواق المالية الصينية أمام الشركات الأمريكية، غير أن تنفيذ هذه الالتزامات واجه تحديات متعددة، منها تداعيات جائحة كوفيد-19، واستمرار الخلافات حول قضايا هيكلية مثل الدعم الحكومي للشركات الصينية والممارسات التجارية غير العادلة، سوف ينعكس بلا شك على آفاق "المرحلة الثانية" من المفاوضات التجارية، التي يُتوقع أن تتناول قضايا أكثر تعقيداً مثل الأمن السيبراني والتكنولوجيا المتقدمة والجيل الخامس للاتصالات والطاقات المتجددة والمنافسة في الأسواق الثالثة، وخاصة في القارة الإفريقية، وفي ظل هذه التحديات، تبرز أهمية تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الشركاء الإقليميين الاستراتيجيين مثل المغرب، كجزء من استراتيجية أمريكية عامة لمواجهة النفوذ الاقتصادي الصيني المتنامي بإفريقيا.

 

بناءً على ما تقدم تفتح هذه التطورات آفاقاً استراتيجية واعدة أمام المملكة المغربية لتعزيز موقعها كشريك استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، فالدعم الأمريكي للسيادة المغربية، مقروناً بالتعاون الاقتصادي المتنامي، يوفر فرصاً مهمة لتعزيز التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية، كما يمكن للمغرب الاستفادة من موقعه الاستراتيجي كبوابة لإفريقيا لتعزيز دوره كمركز إقليمي للتجارة والاستثمار، ويتطلب تحقيق هذه الأهداف وضع خطط تراعي التوازنات الدقيقة في العلاقات الدولية، وتستثمر الفرص المتاحة في سياق التنافس الأمريكي-الصيني بما يخدم المصالح الوطنية المغربية، وتبقى قدرة المغرب على توظيف هذه الديناميكيات لصالحه رهينة بتطور المشهد الدولي والإقليمي، وبمدى نجاحه في تعزيز مكانته كشريك موثوق وفاعل في المنطقة.

 

وفي ذات السياق يشكل التنافس الأمريكي-الصيني على القارة الأفريقية أحد أبرز ملامح التحولات في النظام الدولي المعاصر، حيث تكتسب المنطقة الأطلسية أهمية متزايدة في هذا المضمار، حيث تمثل نقطة التقاء حيوية بين القارتين الأفريقية والأمريكية، وقد برز الدور المحوري للمملكة المغربية في هذا المشهد الجيوستراتيجي من خلال مبادرتين رئيسيتين: إنشاء ميناء الداخلة الأطلسي، والإعلان عن المبادرة الملكية لتسهيل ولوج الدول الأفريقية غير الساحلية إلى المحيط الأطلسي، وتمثل هاتان المبادرتان رؤية استراتيجية متكاملة تستجيب للتحديات التنموية في القارة الأفريقية، وتعزز الدور المغربي كجسر للتواصل والتعاون بين ضفتي الأطلسي، وقد كان القرار الأمريكي بفتح قنصلية اقتصادية في مدينة الداخلة بمثابة تأكيد على الأهمية الاستراتيجية لهذا الموقع، وليعزز الشراكة الأمريكية-المغربية في تنمية المنطقة.

 

وتماشيا مع ما تم ذكره يكتسب ميناء الداخلة الأطلسي أهمية استثنائية في هذا السياق، حيث يمثل مشروعاً استراتيجياً متعدد الأبعاد، فمن الناحية الاقتصادية، يوفر الميناء منصة لوجستية متطورة تربط بين أفريقيا وأوروبا والأمريكتين، مما يعزز التجارة البينية ويخلق فرصاً استثمارية واعدة، ومن الناحية الجيوسياسية، يشكل الميناء نقطة ارتكاز استراتيجية في المنطقة الأطلسية، تعزز النفوذ المغربي وتدعم دوره كقوة إقليمية فاعلة، وقد تم تصميم الميناء وفق معايير دولية متقدمة، مع التركيز على الاستدامة البيئية والكفاءة التشغيلية، مما يجعله نموذجاً للتنمية المستدامة في المنطقة، ويتكامل هذا المشروع مع المنطقة الصناعية المجاورة، التي ستوفر فرص عمل وتجذب استثمارات في قطاعات متنوعة مثل الصناعات الغذائية والطاقات المتجددة.

 

ولعل من المفيد التأكيد على أن المبادرة الملكية الأطلسية أتت لتضيف بُعداً جديداً للدور المغربي في المنطقة، فهذه المبادرة تستهدف تمكين الدول الأفريقية غير الساحلية من الاستفادة من الموقع الاستراتيجي للمغرب على المحيط الأطلسي، وذلك من خلال توفير بنية تحتية متكاملة وخدمات لوجستية متطورة، وتعكس هذه المبادرة تصورا عميقا يتجاوز المصالح الاقتصادية المباشرة ليشمل تعزيز التكامل الإقليمي وتحقيق التنمية في القارة الأفريقية، وقد لقيت المبادرة ترحيباً دولياً واسعاً، خاصة من الولايات المتحدة التي ترى فيها فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة ومواجهة التغلغل الصيني المتزايد.

 

وسيجسد تنفيذ الولايات المتحدة أيضا لقرارها فتح قنصلية اقتصادية في الداخلة خطوة مهمة في سياق هذه التطورات، فهذه المبادرة لا تقتصر أهميتها على البعد السياسي المتمثل في دعم السيادة المغربية، بل تمتد لتشمل أبعاداً اقتصادية واستراتيجية متعددة، فالقنصلية ستعمل كمركز لتعزيز الاستثمارات الأمريكية في المنطقة، وتسهيل التبادل التجاري، ودعم المشاريع التنموية، كما ستوفر منصة للتعاون الاقتصادي مع الدول الأفريقية، مستفيدة من الموقع الاستراتيجي للداخلة وبنيتها التحتية المتطورة، وستعكس هذه الخطوة رؤية أمريكية واضحة لأهمية المنطقة في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في أفريقيا.

 

وفي ظل هذه التطورات، يبرز الدور المحوري للمغرب كشريك استراتيجي موثوق في المنطقة، فالمملكة، من خلال مشاريعها التنموية الطموحة ومبادراتها الإقليمية، تقدم نموذجاً للتنمية والتعاون الإقليمي، وعلى المستوى اﻹجرائي توفر الشراكة الأمريكية-المغربية إطاراً مؤسسياً متيناً لتعزيز هذا الدور وتحقيق المصالح المشتركة، ويمكن للمغرب، من خلال موقعه الاستراتيجي وعلاقاته المتميزة مع الدول الأفريقية، أن يلعب دوراً محورياً في تشكيل مستقبل المنطقة وتعزيز التعاون الدولي، وتبقى قدرة المملكة على توظيف هذه المزايا رهينة بتطور المشهد الدولي والإقليمي، وبمدى نجاحها في الموازنة بين المصالح المتنافسة للقوى العالمية.

 

وتأسيسا على ما سبق يمكن استخلاص مجموعة من النتائج المهمة من خلال تحليل التنافس الأمريكي-الصيني في إفريقيا وتداعياته على المغرب:

 

نتائج استراتيجية:

- تزايد الأهمية الجيوستراتيجية للمغرب في المنظور الأمريكي كشريك موثوق في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في القارة الأفريقية.

- نجاح الدبلوماسية المغربية في توظيف التنافس الدولي لصالح قضاياها الاستراتيجية، وخاصة قضية الوحدة الترابية.

- تحول الداخلة إلى مركز استراتيجي إقليمي يعزز الدور المغربي كبوابة اقتصادية لأفريقيا.

 

نتائج اقتصادية:

- ترسيخ مكانة المغرب كمنصة استثمارية جاذبة للاستثمارات الأمريكية ومن دول أمريكا اللاتينية في المنطقة.

- تعزيز البنية التحتية في الأقاليم الجنوبية من خلال مشروع ميناء الداخلة الأطلسي.

- فتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي مع الدول الأفريقية غير الساحلية.

 

نتائج تنموية:

- تحول الأقاليم الجنوبية إلى نموذج للتنمية والتكامل الإقليمي.

- تعزيز دور المغرب في التنمية الاقتصادية للدول الأفريقية من خلال المبادرة الملكية الأطلسية.

- خلق فرص عمل وتنمية اقتصادية مستدامة في المنطقة.

ثانياً: توصيات استشرافية:

في ضوء النتائج السابقة، يمكن تقديم التوصيات التالية:

 

توصيات على المستوى الاستراتيجي:

- تسريع تنفيذ المشاريع الاستراتيجية في الداخلة لتعزيز جاذبيتها للاستثمارات الدولية.

- تطوير استراتيجية متكاملة للتعامل مع التنافس الأمريكي-الصيني بما يخدم المصالح الوطنية المغربية.

- تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الدول الأفريقية لضمان نجاح المبادرة الملكية الأطلسية.

 

توصيات على المستوى الاقتصادي:

- إنشاء منظومة متكاملة لتسهيل الاستثمارات الأمريكية في المنطقة.

- تطوير البنية التحتية اللوجستية لربط الداخلة بالأسواق الأفريقية.

- تنويع القطاعات الاقتصادية المستهدفة للاستثمار في المنطقة.

 

توصيات على المستوى التنموي:

- تعزيز برامج التكوين والتأهيل لتلبية احتياجات المشاريع التنموية الجديدة.

- تطوير آليات التعاون مع الدول الأفريقية غير الساحلية.

- دعم المبادرات المحلية للتنمية المستدامة في الأقاليم الجنوبية.

 

توصيات على المستوى المؤسسي:

- إنشاء هيئة متخصصة لمتابعة تنفيذ المشاريع الاستراتيجية في الداخلة.

- تطوير إطار قانوني محفز للاستثمارات الأجنبية في المنطقة.

- تعزيز التنسيق بين مختلف المتدخلين في تنفيذ المشاريع التنموية.

 

5. توصيات خاصة بالتكامل الإقليمي الأطلسي:

- إنشاء تجمع اقتصادي إقليمي أطلسي على وجه المثال: مجموعة إيكاس"المجموعة الاقتصادية لدول الواجهة الأطلسية" " Economic Community of Atlantic Coast States" (ECACS) يضم:

* الدول الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي

* الدول الأفريقية غير الساحلية المستفيدة من المبادرة الملكية الأطلسية

* المغرب كدولة محورية ومنسق للتجمع

- أهداف التجمع الاقتصادي المقترح:

* تنسيق السياسات الاقتصادية والتجارية بين الدول الأعضاء

* تسهيل حركة التجارة والاستثمار في المنطقة الأطلسية

* تطوير البنية التحتية المشتركة وربط شبكات النقل

* إنشاء منطقة تجارة حرة تعزز التبادل التجاري البيني

* تنسيق السياسات الجمركية والضريبية لتشجيع الاستثمار

* تطوير آليات مشتركة للتمويل والتنمية

- الآليات المؤسسية المقترحة:

* مجلس وزاري للتنسيق السياسي والاقتصادي

* أمانة عامة دائمة مقرها الداخلة

* لجان فنية متخصصة في مجالات التجارة والاستثمار والبنية التحتية

* صندوق للتنمية المشتركة لتمويل المشاريع الإقليمية

* مركز للدراسات الاستراتيجية والاقتصادية

- مبادرات مقترحة للتجمع:

* إنشاء منطقة صناعية مشتركة في الداخلة

* تطوير شبكة موانئ متكاملة على الواجهة الأطلسية

* إطلاق برامج مشتركة للطاقات المتجددة

* تأسيس بورصة إقليمية للسلع والخدمات

* تطوير منظومة للربط اللوجستي بين الدول الأعضاء

- آليات التنفيذ والمتابعة:

* إعداد خارطة طريق مرحلية لتنفيذ مبادرات التجمع

* تشكيل لجنة عليا لمتابعة التنفيذ والتنسيق

* عقد قمم دورية لرؤساء الدول والحكومات

* إنشاء نظام معلومات مشترك لدعم اتخاذ القرار

* تطوير مؤشرات أداء لقياس التقدم المحرز

- التعاون مع الشركاء الدوليين:

* تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية

* التنسيق مع المؤسسات المالية الدولية

* جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للمنطقة

* تطوير برامج للتعاون الفني والتقني

* بناء شراكات استراتيجية مع التجمعات الإقليمية الأخرى

 

هذا التجمع الاقتصادي المقترح من شأنه تعزيز التكامل الإقليمي وتحقيق التنمية المستدامة في المنطقة الأطلسية، كما سيعزز الدور المحوري للمغرب كقوة إقليمية فاعلة ويدعم المبادرة الملكية الأطلسية، ويمكن لهذا التجمع أن يشكل نموذجاً للتعاون الإقليمي في إطار التنافس الأمريكي-الصيني على القارة الأفريقية.

 

رؤية استشرافية:

وفي مجمل القول فإن المغرب يمتلك فرصة تاريخية لتعزيز مكانته كقوة إقليمية فاعلة من خلال استثمار موقعه الاستراتيجي وعلاقاته المتميزة مع مختلف الشركاء الدوليين، ويتطلب نجاح هذه الرؤية التزاماً مستمراً بتنفيذ المشاريع التنموية الكبرى، وتطوير استراتيجيات مرنة للتعامل مع التحولات في البيئة الدولية والتنافس المحتدم بين القوى الكبرى على القارة الافريقية، كما يستدعي الأمر تعزيز القدرات الوطنية لضمان استدامة هذا الدور الريادي وتحقيق السيادة الشاملة للمملكة في مختلف المجالات.

 

 

الدكتور مولاي بوبكر حمداني رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية