الخميس 6 فبراير 2025
كتاب الرأي

محمد أنور الشرقاوي:  في حضرة موائد الكيف وأحلام الطفولة 

محمد أنور الشرقاوي:  في حضرة موائد الكيف وأحلام الطفولة  الدكتور محمد أنور الشرقاوي
"عزيزي ذو الشارب الرفيع"، كان هناك، مسندًا مرفقه على طاولة مترنحة، في تلك الدار الكائنة بشارع (جنين)، الحي الأسطوري "الكزا"، امتدادًا شعبي لشارع محمد الخامس.
في منزل "عزيزي عبد الرزاق" و"خالتي زبيدة" رحمهم الله، كانت تُعقد جلسات لا تنتهي للعب الورق.
الطاولة، شاهدة صامتة على حكايات محملة بالدخان، وبجانبها في فوضى منظّمة: كسرات من قالب السكر التي هرست بيد المهراز، ونعناع، وحبات شاي في أوانٍ نحاسية تحمل بصمة الزمن.
"عزيزي"، مرتديًا سروال "قندريسة" الذي أكلته الساعات الطويلة، يجلس ممسكًا بسبسيه، ذلك الغليون الصغير الذي كان أشبه برمز الحكمة، ينتقل بين أيادي الرجال.
لعبة الورق "التوتي" كانت تُحيي المكان، كأنها عالم صغير صاخب، مسرح للحظات من البهجة العابرة والتوتر الكامن.
 النكات تختلط بصيحات الحماس، وأحيانًا تتحول الصيحات إلى عواصف من الغضب.
الأصدقاء، الذين جمعتهم ضبابية الدخان ومتعة اللعب، كانوا يتحولون إلى خصوم لدودين، يتبادلون الشتائم بسبب ورقة واحدة لعبت في غير محلها.
 
أما إبريق الشاي، في هذا العالم المتقلب، فلم يكن دائمًا يحمل ذلك الشاي الذهبي العذب الذي يترقبه الجميع.
أحيانًا، كان يتصبب منه خمر مرّ، تم اقتناؤه خلسة من عند البقال، الذي كانت رفوفه تخفي أسرارًا كثيرة.
وبالقرب من "الحانوت"، كانت هناك باب خشبية عادية، يكاد يُغفلها العابر، لكن تاريخها كان يُهمس به في الخفاء.
ثلاث طرقات على الخشب البالي، تفتح الباب بالكاد، لتكشف عن صفقة صامتة: "قبطة" من الكيف، ملفوفة بعناية كأنها كنز مسروق.
تُحمل تلك "القبطة" خلسة إلى المنزل، تُغسل، تُجفف، ثم تُقطع في طقوس دقيقة، لتصبح المادة الأساسية لتلك الليالي، حيث ينافس الكيف الأحلام والخيبات.
وفي عالم الرجال المليء بالدخان والصراعات العابرة، كان هناك عالم آخر للنساء، عالم مفعم بالألوان والبهجة.
 بقفاطيهن ودفاءهن الحريرية، كنّ يحتسين الشاي الحلو ويلتقطن قطع "الغريبة" التي تذوب دلالا في الفم. 
كانت الأحاديث مليئة بالضحكات والهمسات، وغالبًا ما تتناول تلك الأسطورة المثيرة: "المريني"، ذلك الرجل الذي قيل عنه إنه بجماله الخارق كان يجعل النساء يتركن أزواجهن بنظرة واحدة.
"شافت المريني طلقت راجلها" — حكاية تتناقلها الأجيال، خرافة عن شهوة تقتحم رتابة الحياة اليومية.
أما نحن الأطفال، في عالم الكبار المليء بالأسرار، كنا نحمل أحلامنا البسيطة.
في ذلك المساء، بدرهم وعشرين سنتيمًا، صعدنا إلى النجوم.
فيلمان، أحدهما مصري والآخر هندي، أخذا عقولنا بعيدًا عن أحاديث الكبار والنساء. 
وكان عشق الشاشة يترافق مع وليمة واقعية: ربع خبزة محشو بالمعقودة، تقطر منه صلصة حارة.
لقمة واحدة كانت كافية لتُشعرنا بأننا ملوك العالم.
"أليس كذلك، وافي، ابن خالتي خديجة؟" سألت بنبرة حالمة، باحثًا عن نظرة توافق منه.
لكنه لم يجب. ربما كان لا يزال هناك، في ظلام قاعة السينما، تائهًا بين الصور التي تضيء الشاشة والأحلام التي خلفتها وراءها كالأشباح.
نم بسلام يا عزيزي عبد العزيز، والد وافي،  المسكون بجمال والعضلات المفتولة  لكيرك دوغلاس وبيرت لانكستر، أيقوناته الأبدية.