من المفارقات الصادمة، أن المغرب بقدر ما يضخ الملايير من الاستثمارات العمومية في شريط الشمال، بقدر ما تتوالد هناك الخلايا الإرهابية والذئاب المنفردة، وهذا ما يتطلب إنجاز دراسات أكاديمية معمقة لمعرفة السبب. إذ المنطق يقتضي أن الدولة لما تنفق ملايير الدراهم على مجال ترابي معين، فالمفروض أن يتحول ذاك التراب إلى واحة تشع تسامحا وتعج بالديناميات الإيجابية: اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وليس أن يكون منبتا للتطرف والإرهاب.
وإليكم الدليل.
منذ يناير 2024 إلى متم أكتوبر 2024، فككت الأجهزة الأمنية مجموعة من الخلايا الإرهابية، أسفرت عن اعتقال 23 متهما بالإرهاب في مجموع التراب الوطني، واستحوذت ثلاث عمالات بجهة طنجة تطوان على 8 معتقلين. وهو ما يجعل هذه العمالات الثلاث تحتكر 35% من مجموع المتهمين في قضايا الإرهاب، في حين توزعت النسبة المتبقية من المعتقلين على كافة التراب المغربي.
إذا كانت جهة الشمال تضم 8 أقاليم، فإن الإحصاء بين أن خريطة الإرهاب والإرهابيين تقتصر بالدرجة الأولى على ثلاث عمالات وهي: طنجة، تطوان والفنيدق. علما أن سكان هاته العمالات الثلاث، حسب الإحصاء الأخير لعام 2024، لا يتعدى 2.360.405 نسمة.
وهنا الصدمة: كيف أن ثلاث عمالات لا تمثل سوى 6,4% من مجموع سكان المغرب، لكنها بالمقابل تنتج 35% من الإرهابيين والمعتقلين في خلايا التطرف؟!
هاته العمالات الثلاث (طنجة، تطوان، الفنيدق)، تنتج إرهابيا لكل 295.050 نسمة، بينما باقي عمالات وأقاليم المغرب، لا تنتج إلا متطرفا لكل 2.297.000 نسمة، أي أن أقاليم الشمال المذكورة تنتج الإرهابيين بـ 8 مرات أكثر مقارنة مع باقي التراب الوطني.
فما هو السبب إذن؟
هل هو التهميش من طرف الدولة؟
هذا الطرح مستبعد جدا. إذ إذا أسقطنا الصحراء، نجد أن منطقة الشمال هي الشريط الأكثر دلعا من طرف الدولة. ويكفي أن نستشهد بمؤشر واحد فقط لإبراز الحظوة التي تنعم بها جهة الشمال لدى صناع القرار المركزي، إذ في ظرف 20 سنة، تم ضخ أكثر من 300 مليار درهم كاستثمار عمومي في شريط الشمال، شمل البنى التحتية والمرافق العمومية الاستراتيجية والمناطق الصناعية والخدماتية، فضلا عن المرافق العمومية الأخرى والخدمات الحضرية، بمعدل 15 مليار درهم في السنة، وهو مبلغ لم تحلم به أي منطقة بالمغرب.
هذا الطرح مستبعد جدا. إذ إذا أسقطنا الصحراء، نجد أن منطقة الشمال هي الشريط الأكثر دلعا من طرف الدولة. ويكفي أن نستشهد بمؤشر واحد فقط لإبراز الحظوة التي تنعم بها جهة الشمال لدى صناع القرار المركزي، إذ في ظرف 20 سنة، تم ضخ أكثر من 300 مليار درهم كاستثمار عمومي في شريط الشمال، شمل البنى التحتية والمرافق العمومية الاستراتيجية والمناطق الصناعية والخدماتية، فضلا عن المرافق العمومية الأخرى والخدمات الحضرية، بمعدل 15 مليار درهم في السنة، وهو مبلغ لم تحلم به أي منطقة بالمغرب.
هل الأمر مرتبط بكون الاستثمارات العمومية الباهضة شملت الجدران والقناطر والسكك والموانئ والأنفاق والطرق السريعة، وتناست الإنسان؟
هذا التساؤل بدوره واهٍ، لكون عشرات الأقاليم بالمغرب لم تنعم لا باستثمار يروم الجدران أو يستهدف الإنسان، ومع ذلك لا يتميز ترابها بجينات إرهابية، مقارنة مع الأقاليم الشمالية الثلاثة المذكورة. وحسبنا هنا التوقف عند أفقر الأقاليم بالمغرب والأكثر إهمالا في الاستثمارات العمومية من طرف صناع القرار: (الراشيدية، ورزازات، خنيفرة، شيشاوة، جرادة، أسفي، ميدلت، زاكورة، طاطا، إلخ…)، ومع ذلك لا تفرخ هذه المجالات الترابية خلايا متطرفة وإرهابيين بمثل ما تفرخه مدن الشمال.
هل هو الثقل الديمغرافي؟
وهذا دفع مردود بدوره، إذ لا تشكل الأقاليم الشمالية المذكورة سوى 6,4 % من مجموع سكان المغرب، وبالتالي يفترض أن يقود المنطق أن تكون نسبة الإرهاب والإرهابيين بهذا المقطع الشمالي في حدود 6 أو 7% من المجموع العام، وليس %35.
هل هو الثقل الديمغرافي؟
وهذا دفع مردود بدوره، إذ لا تشكل الأقاليم الشمالية المذكورة سوى 6,4 % من مجموع سكان المغرب، وبالتالي يفترض أن يقود المنطق أن تكون نسبة الإرهاب والإرهابيين بهذا المقطع الشمالي في حدود 6 أو 7% من المجموع العام، وليس %35.
لا، ليس هذا وحسب، بل إن الشبكة الحضرية لعموم مدن الشمال تمتاز بأنوية حضرية أو مدن صغيرة ومتوسطة الحجم لا تتعدى في معظمها 80 ألف نسمة.
هل الأمر مرتبط بكون الأقاليم الشمالية المعنية مجاورة لسبتة المحتلة؟
هذا الطرح ربما يحمل بعض عناصر الجواب، خاصة إذا علمنا أن الشريط الشمالي ككل، الممتد من طنجة إلى السعيدية، يتميز بوجود جيب آخر محتل، ألا وهو «مليلية المحتلة» المجاورة للناظور. علما أن هذين الثغرين هما معبرين أساسيين، تميزا عبر التاريخ، بانتعاش شبكات التهريب والتهجير والمخدرات، والإجرام العابر للقارات.
ونعرف أنه حيثما تنتعش مافيا التهريب والمخدرات، ينتعش معها الإرهاب والإجرام، بدليل ما تعرفه مجتمعات أخرى مثل: دول الساحل جنوب الصحراء وآسيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وجنوب إسبانيا.
وما يعطي وجاهة لهذا الطرح، أن مدينة الناظور (المجاورة لمليلية المحتلة، مثلها مثل الأقاليم الثلاثة المجاورة لسبتة المحتلة)، أصبحت هي الأخرى حاضرة في رادار الخلايا الإرهابية والشبكات الجهادية التي تفككها الأجهزة الأمنية المغربية، علما أن الناظور هي العاصمة المالية الثانية بالمغرب (بعد الدارالبيضاء)، وبدل أن تكون هذه الودائع والثروات المالية المكدسة بالناظور محركا لإقلاع الناظور وجذب بروفيلات اجتماعية عالية التكوين والاتزان والسماحة، نراها تجذب هي الأخرى (على غرار عمالات المضيق وتطوان وطنجة)، بعض العناصر الإرهابية والمتطرفة.
هي إذن مجرد تساؤلات مقلقة، تستمد وجاهتها من فظاعة الأرقام الواردة في البلاغات الرسمية المعممة على هامش تفكيك الخلايا الإرهابية، وتبقى الجامعة المغربية مطالبة بالقيام بواجبها الأكاديمي، قصد إنجاز البحوث العلمية الرصينة لمساعدة المجتمع على فهم أسباب الظاهرة، للمساعدة في وضع سياسة عمومية تسمح بتحويل مدن الشمال من مشتل للإرهاب والإرهابيين، إلى منبت للرياضيين والموسيقيين والأكاديميين والعلماء والباحثين والأطباء والمهندسين وللكوادر التقنية والمالية والإدارية لجر التراب الوطني نحو الأعلى.