Wednesday 4 June 2025
كتاب الرأي

آمال بنبراهيم: المغرب مركز الفعل الدولي، لا لأنه فرض ذاته.. بل لأنه أقنع بمنطقه بريطانيا

آمال بنبراهيم: المغرب مركز الفعل الدولي، لا لأنه فرض ذاته.. بل لأنه أقنع بمنطقه بريطانيا آمال بنبراهيم
الاعتراف البريطاني الرسمي بمبادرة الحكم الذاتي المغربية جاء اليوم كتوقيع على فصل جديد في التوازنات الدولية، وكأن التاريخ يعيد التقاءه بجغرافيته الأصلية.

اعتراف بريطانيا جاء ليجعل ميزان المواقف داخل مجلس الأمن  يميل بشكل ملحوظ لصالح المغرب، إذ إن 60% من الأعضاء الدائمين يدعمون مبادرة الحكم الذاتي. هذا التطور يقرّب الملف من حالة توافق دولي شبه كامل، ويمهّد لإخراجه من دائرة المناقشات النمطية في اللجنة الرابعة، نحو أفق تسوية نهائية تتأسس على الواقعية والمصداقية.

ليست لندن  في هذه اللحظة مجرّد عاصمة غربية تتحرك دبلوماسيًا، بل هي، من خلال هذا الموقف، تُعيد فتح نافذة رمزية على علاقة ضاربة في القدم بين مملكتين جمعتهما تجارة البحار، وعقلانية المصالح، ونُبل الحذر السياسي.

إن البيان المشترك بين المغرب  والمملكة_المتحدة ليس مجرد وثيقة، بل تجديد لعهد من التقدير المتبادل في عالم لم يعد يحتمل سوى منطق الندية والمصداقية.

وإذا كان التاريخ قد أضفى على هذه العلاقة عمقًا استثنائيًا، فإن السياق الدولي يمنحها اليوم بُعدًا استراتيجيًا متجدّدًا. فبحسب الواقعية السياسية، لا يتحرك الفاعلون الدوليون إلا بدافع المصالح. وفي هذا الإطار، لم يعد المغرب طرفًا هامشيًا، بل فاعلاً استراتيجيًا مستقرًا، صاحب نفوذ متنامٍ في إفريقيا، وموقع محوري في شبكة التجارة العالمية. من هذا المنظور، يبدو الموقف البريطاني تعبيرًا عن ضرورة استراتيجية أكثر من كونه مجاملة دبلوماسية.

غير أن الحسابات الواقعية لا تكفي وحدها. فالدبلوماسية المغربية تنهل أيضًا من أدوات "القوة الناعمة" : الإقناع بالصمت، التأثير بالرمز، والتقدم عبر الثبات. 

المبادرة المغربية لم تُفرض، بل اقتُرحت كحل متوازن وعقلاني، وظلّت صامدة أمام تقلبات المشهد الدولي لأنها وُلدت من قناعة سيادية راسخة.

وفهم المواقف الدولية لا يقوم فقط على منطق المصالح، بل أيضًا على تمثلات الهوية، كما تُبرز النظرية البنائية. بريطانيا، حين تدعم اليوم الحكم الذاتي ، لا ترى في المغرب مجرد دولة في نزاع حدودي، بل فاعلاً حضاريًا يعيد تشكيل صورته داخل محيط مضطرب، وقادرًا على الربط بين أوروبا، إفريقيا، والشرق الأوسط. بهذا، يتجاوز الاعتراف البريطاني حدود الجغرافيا السياسية، ليُعيد تعريف المغرب داخل الوعي الغربي كشريك استراتيجي نادر.
وفي تفاصيل البيان المشترك، تتجلّى طبقات أخرى من التعاون، تعكس مفهوم "الاعتماد المتبادل المعقد" حسب كيوهان وناي: شراكات في التعليم والطاقة، تعاون في المناخ و الصحة، وتكامل في القضايا الثقافية والحقوقية. لم تعد العلاقات محكومة بمنطق الدولة وحدها، بل بمنطق الشبكات والمؤسسات العابرة للحدود.

تُعيد هذه التحولات أيضًا المغرب إلى موقعه الطبيعي كبوابة جنوبية لأوروبا، وممر استراتيجي نحو إفريقيا. من هنا، يحمل دعم بريطانيا لمبادرة الحكم الذاتي بعدًا يتجاوز #السياسة إلى إعادة تمركز الرؤية الدولية باتجاه الجنوب، نحو الرباط تحديدًا.

لقد نجح المغرب، عبر التراكم العقلاني والدبلوماسية الهادئة، في تحويل قضيته الوطنية إلى نموذج في النضج السياسي. والاعتراف البريطاني ليس إلا انعكاسًا لهذا النجاح، وتموضعًا جديدًا في هندسة القوة الدولية، على أساس التوازن بين السيادة والانفتاح، بين الشرعية والمصلحة.

وفي عالم يتآكل فيه منطق الهيمنة، ويُعاد فيه تعريف السلطة بأدوات جديدة، يؤكد المغرب أنه فاعل لا يُملى عليه، بل يُقترح الاستماع إليه. فالتقدير الدولي لم يعد يُمنح بالصوت العالي، بل يُنتزع بالقوة الرمزية والمصداقية السياسية.
الحدث ليس مجرد إعلان سياسي، بل ميلاد لغة جديدة في التعاطي مع القضايا المصيرية: لغة تُدير الظهر للصراع الصفري، وتُصالح بين السيادة والانتماء، بين الواقعية والشرعية الدولية.

وبين التأويلات النظرية، تظل المقاربة الواقعية تفسر الموقف البريطاني برغبة في شراكة استراتيجية بعد البريكست، مع طرف مستقر ومؤثر في إفريقيا. لكن هذا التحليل، رغم وجاهته، يظل قاصرًا عن إدراك البُعد الرمزي العميق الذي نسجه المغرب عبر بناء الثقة وصورة الدولة الوازنة.

المغرب لم يعتمد على الإيديولوجيا ولا على الشعارات، بل قدّم نموذجًا تفاوضيًا رشيدًا، مستندًا إلى شرعية وطنية وعقلانية سياسية. وهكذا، أعاد تعريف ذاته كفاعل مركزي جنوب المتوسط، لا كرقم في نزاع مغاربي.
التعاون بين الرباط ولندن في مجالات متعددة يعكس تشابكًا معقدًا للمصالح، ويندرج ضمن نمط جديد من العلاقات الدولية حيث تتحوّل الدولة من فاعل منعزل إلى عقدة في شبكة مصالح ممتدة.

في سياق رمزي أعمق، يُمكن أيضًا قراءة الاعتراف البريطاني كمحاولة لـ"تطهير" العلاقات من الإرث الكولونيالي، وبناء تحالف ندّي على قاعدة احترام متبادل. إنه تحوّل نادر في العلاقات الدولية، حيث تصبح القوة احترامًا، والدعم تعبيرًا عن الثقة.

إن الاعتراف البريطاني بمغربية الصحراء، عبر دعم مبادرة الحكم الذاتي، ليس لحظة عابرة، بل علامة على تحوّل جيواستراتيجي عميق، وتتويج لعقود من الحضور المغربي المتزن في الفضاء الدولي، وتكريس لحق الرباط في أن تكون طرفًا مقرّرًا في مصيرها.

خلاصة القول،  المغرب يعلن أنه لم يعد يتحدث من الهوامش، بل من مركز الفعل الدولي، لا لأنه فرض ذاته، بل لأنه أقنع بمنطقه، واحترم تاريخه، واستثمر بذكاء في مستقبله.
 
آمال بنبراهيم، أستاذة جامعية في القانون الدولي