الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

سعيد يقطين: أخلاقيات المعرفة والتفكير الخاطئ

سعيد يقطين: أخلاقيات المعرفة والتفكير الخاطئ سعيد يقطين
يطلع علينا يوميا في وسائل التواصل الاجتماعي بعض أشباه المثقفين باكتشافاتهم المذهلة عن الدين والتاريخ الإسلاميين واللغة العربية، لترويج أن ما يزعمونه حقائق مطلقة ظلت مخفية طيلة قرون، حتى جاؤوا ليكشفوها للعالمين.

وبعيدا عن السجال غير المجدي مع هؤلاء وأمثالهم، مغاربة وعربا وغربيين، أختزل كل نشاطاتهم بكلمة واحدة: غياب أخلاقيات المعرفة. وتبعا لذلك فهم بلا أخلاق، مثلهم في ذلك مثل كل من ينطلق من إحساس مقرف بهوية متعالية على الزمان والمكان والإنسان. ويمكنني إعطاء مثال لهؤلاء بالصهيوني الذي يعتبر الفلسطينيين حيوانات بشرية، لا بد من إبادتهم، ويدعي أنه أكثر أخلاقية من غيره. وباليمين المتطرف في الغرب الذي يدعو الآخر المختلف أن يغادر، والعرقي المتعصب الذي يرى أنه الأول في كل شيء، فلغته أم اللغات جميعها، والإنسان الأول نبت في أرضه، ولم يأت من مكان آخر، وجيناته شاملة لكل من يعيش في البقعة الأرضية التي كتبها الله دون غيره، والمتطرف الديني، سنيا كان أو شيعيا، الذي يعتبر الآخر كافرا أو يزيديا يجب سحقه. إن القاسم المشترك بين هؤلاء ليس فقط الافتخار بالهوية، ولكن أيضا ادعاء المظلومية، فهم مستهدفون، والآخر يريد بهم شرا، ويزاحمهم أوطانهم، وهم يشعرون بالضَّعة أمامه، لأهواء ولمآرب كثيرة باتت فاضحة، واضحة للعيان.

جعل إدغار موران الجزء السادس من كتابه حول «النظرية» للبحث في الأخلاقيات، وخصص فصلا للعلاقة بين أخلاقيات المعرفة، ومعرفة الأخلاق. وبجعله كتابه هذا آخر مشروعه، يؤكد أن المعرفة بلا أخلاق، والأخلاق بلا علم لا قيمة لأي من أحدهما دون الآخر. ويبني إطارا تصوريا يبين من خلاله، رغم الاختلاف بين المعرفة والواجب، كيف يُبنى التفكير الخاطئ على إنكار السياق، والزمن، وعدم الإيمان بالائتلاف والاختلاف في نطاق العلاقة المتبادلة بينهما. ويبدو لي أن خطابات من أشرت إليهم من متطرفين وعرقيين، لا تخرج عن هذا النمط من التفكير.

سأركز هنا على نقطتين تتعلق أولاهما بالعرقية الأمازيغية، والثانية باللغة العربية والإسلام، إذ عليهما مدارات خطابات التفكير الخاطئ. اكتشف هؤلاء آخر الأبحاث الأركيولوجية في المغرب، والمتعلقة بأقدم حلي استعملها المغربي في التاريخ، فراحوا يفتخرون بأن الأمازيغي جد البشرية، والأمازيغية أم اللغات، وبعضهم اكتشف الكثير من الكلمات الأمازيغية في القرآن الكريم؟ وبنوا على ذلك من خلال تحليل الحمض النووي، أن المغاربة ليسوا عربا، وأن لا علاقة لهم بالمشرق، وعليهم أن يفتخروا بأمازيغيتهم. هذه هي الأطروحة التي يروجون لها بلا توقف، وبلا هوادة. يكمن التفكير الخاطئ هنا في أن إنسانية الإنسان تتحقق من خلال جيناته، حتى وهو غير مسؤول عنها. وفي هذا عزل للمُقوِّم الجيني عن غيره من مقومات إنسانيته الحقيقية، وإلغاء لسياق تطوره التاريخي، وتفاعله مع غيره من الشعوب.

إن إنسانية الإنسان حسب أخلاقيات التفكير السليم في الإسلام ترى أن الإنسان لا يقاس بماله، ولا بنسبه، وإنما بعمله الذي يستفيد منه الآخرون. وعندما سب أبو ذر بلالا بأمه السوداء قال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): إنك امرؤ فيك جاهلية. فحاول أبو ذر، وقد ارتقى أخلاقيا، أن حاول تقبيل رجل بلال الذي رفض. هذه هي الأخلاق السامية التي جاء بها الإسلام الذي لم يفرق بين الناس حسب أعراقهم، ولهذا اعتنقه الأمازيغ الأحرار فعلا، لا تبجحا، ودافعوا عنه. وإذا تنكر لها الكثير من المسلمين، فالغربيون الآن يدخلون في الإسلام أفواجا بلا غزو، ولا وعظ. من يفتخر بهويته العرقية، وإن ادعى العلم، والعقلانية، لا يمكنه أن يؤمن بالائتلاف ضمن الاختلاف. وتلك هي العنصرية. يعتبر روجي مارتيللي: «الهوية هي الحرب»، ويؤكد أن اليمين المتطرف في أوروبا في انتعاش الآن بتجاوزه عتبة التهميش، وأنه يستمد وجوده من جذور الفاشيستية التاريخية. ويربطها بالتحولات التي تعرفها أوروبا عامة، وقطيعتها مع الثورة الفرنسية. لا فرق بين اليمين المتطرف والعرقية، والصهيونية، وعلى المستويات كافة.

إن الصفاء العرقي نسبي حتى لدى القبائل التي عاشت آلاف القرون معزولة عن غيرها. فماذا يمكننا أن نقول عن هذه المنطقة التي اتصل كل تاريخها بالشعوب التي دخلت إليها، والتي تركت فيها علامات تدل على مرورها. لكن السؤال الذي يجيبون عنهم بطريقتهم هو: لماذا هيمنت اللغة العربية الكتابية، والدوارج المغربية، والإسلام في هذه المنطقة الشاسعة طيلة أربعة عشر قرنا؟ حدث عن البحر ولا عجب؟ أكاذيب، وتحليلات لا تاريخية ولا واقعية.
 
وليدافعوا يهجمون بادعاء أن كلمة «أمازيغية» صارت مزعجة، وينكرون انزعاجهم المطلق والصريح، بل وقرفهم من ذكر «عربي»، و»مسلم».

صار كل ما أنتجه المغاربة والأندلسيون منذ دخول الإسلام أمازيغيا، ولا حظ فيه لما هو عربي؟ ترى ماذا كان سيكون يوسف بن تاشفين، مثلا، لولا الإسلام والعربية؟ يدَّعون أن الأمازيغ هم الذين خدموا الإسلام، وهم العلماء؟ فلماذا لم يخدموا الأمازيغية، ويكتبوا العلوم بلغاتهم، ويفرضوا دياناتهم على إسبانيا، قبل العرب؟ يجيبون: المخزن، والحركة الوطنية، والتعريب. وماذا يقولون عن الجزائر وتونس وليبيا الأمازيغية؟ ولماذا هيمنت فيها اللغة العربية والدوارج والإسلام، وسيبقيان إلى ما بعد الآن؟ التاريخ يصنع الجغرافيا والحضارة لتتفاعل الشعوب وتتآلف. أما العرقية فأخلاقياتها الإقصاء، والنعرة القبلية، والتفكير الخاطئ.