الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عائشة العلوي: شذرات اقتصادية.. البلدان النامية والصراع على العوالم الافتراضية

عائشة العلوي: شذرات اقتصادية.. البلدان النامية والصراع على العوالم الافتراضية عائشة العلوي
وفقًا لبيانات استطلاع الرأي للمستهلكين العالمي الذي أجرته مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) في عام 2023، أظهرت النتائج أن وعي المستهلكين بالذكاء الاصطناعي أعلى من المتوقع في جميع البلدان. على سبيل المثال، سمع أكثر من 90% من المستهلكين في الهند والإمارات العربية المتحدة عن ChatGPT، بينما تجاوز الوعي 80% في الصين والمملكة العربية السعودية. كما بينت النتائج أن الهند احتلت المرتبة الأولى بنسبة 45% من المستخدمين الذين يتعاملون مع ChatGPT، تلتها المغرب (38%)، ثم الإمارات العربية المتحدة (34%)، والأرجنتين والبرازيل وإندونيسيا (32%)، وجنوب أفريقيا (31%)، والفلبين (28%)، وكوريا الجنوبية (26%)، وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية (23%)، وأستراليا والمكسيك والمملكة المتحدة (22%)، واليابان (19%)، والصين وفرنسا وألمانيا والمملكة العربية السعودية (18%).
 
من خلال هذه النتائج، يُلاحظ وجود ارتباط بين الدول ذات السكان الشباب والتي تتمتع بمستوى عالٍ من الدراية التكنولوجية واستخدام الذكاء الاصطناعي. ويلاحظ أيضا أن هناك استخدامًا كبيرًا لـ ChatGPT في الهند والفلبين لأغراض محددة مثل اعتباره أداة تقنية للمساعدة في البحث أو كمساعد شخصي افتراضي. بينما يُستخدم بشكل رئيسي كأداة لَعب أو تَسلية في الولايات المتحدة وألمانيا، وفقًا لنتائج الاستطلاع الذي أجرته منظمة BCG.
 
من ناحية أخرى، يُتوقع أن يحدث الذكاء الاصطناعي تحولًا جذريًا في الاقتصاد العالمي، وفقًا لما ذكرته مديرة صندوق النقد الدولي السيدة كريستالينا غورغييفا في عام 2024، حيث يُحتمل أن يتأثر حوالي 40% من الوظائف عالميًا بالذكاء الاصطناعي، حيث سيُستبدل بعضها وستتغير أخرى.
 
هذا التحول سيكون له تأثير عميق على البُنى الاجتماعية والاقتصادية، وهو نتيجة حتمية لمسار تطور الحضارة الإنسانية العالمية. حيث يتأثر الاقتصاد والاجتماع بشكل كبير بكل اكتشاف واختراع؛ ومع ذلك، هذه المرة قد يكون التأثير جذريًا وعميقًا وعنيفاً، نظرًا لأن الإنسان قد اخترع أداة اجتماعية تقنية ستترك بصمة كبيرة على البنية الاقتصادية والاجتماعية لكل الأنظمة الحالية والمستقبلية. إضافةً إلى تأثيره على البُنى الاقتصادية للدول، يُحدث الذكاء الاصطناعي تغييرات جوهرية في السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية. قد يزيد الذكاء الاصطناعي من النزعة الفردية والصراعات العنيفة سواء بين الأفراد أو الدول، إذا ما استمرت سيطرة بعض الشركات، أو بالتحديد بعض الأفراد، عليها.
 
لقد أكدت عدة دراسات أن الثورة التكنولوجية التي يقودها الذكاء الاصطناعي تمتلك القدرة على زيادة الإنتاجية، وتعزيز النمو الاقتصادي، ورفع مستويات الدخل على الصعيدين الوطني والعالمي. ومع ذلك، قد تؤدي أيضًا إلى استبدال العديد من الوظائف وتقليص عددها، وتعميق الفوارق الاجتماعية، وتعزيز التمييز واللامساواة بين الأفراد والفئات الاجتماعية، وزيادة الفجوات في الدخل والثروة بين الدول وبين الأفراد.
 
يثير الذكاء الاصطناعي مشاعر متباينة بين الحماس والقلق، ويطرح تساؤلات مهمة حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية على مستوى العالم. وبسبب تعقيد تأثيراته على الاقتصادات والنظم الاجتماعية والثقافية للدول، يصعب التنبؤ بالتأثير الصافي له. ومع ذلك، لا يمكن تجاهله، بل يجب الاستفادة من مزاياه مع العمل على تقليل مخاطره. لذا، من الضروري استغلال الإمكانات الهائلة التي يتيحها بشكل آمن وبما يخدم مصلحة البشرية.
 
ينبغي إذن إجراء تحليل دقيق لنتائج استطلاع الرأي الذي أجرته منظمة BCG، ليس فقط من منظور استهلاكي، بل أيضًا من منظور سيادي وأمني. ورغم أن نتائج الاستطلاع منطقية نظرًا لانفتاح الشباب على كل ما هو جديد، إلا أن السؤال الجوهري المطروح أمام مسؤولي الدول النامية هو: هل هناك رؤية واضحة واستراتيجية لبناء بنية تحتية وبيانات وطنية لاستقبال الذكاء الاصطناعي من أجل الحفاظ على سيادتها الثقافية والاقتصادية والسياسية وضمان أمنها القومي؟ أم ستظل هذه الدول مجرد مستهلكة ومستقبلة للاكتشافات العلمية والتقنية دون القدرة على التأثير فيها والتفاعل الإيجابي والاحترازي معها؟ هل هذه الدول قادرة على المشاركة في هذا التطور الهائل والسريع في الحضارة الإنسانية والاقتصاد العالمي والثورة التكنولوجية، أم ستبقى تحت رحمة وتبعية الشركات المسيطرة والأفراد المتحكمين؟
 
لقد انتقل جزء من الصراع بين الدول المهيمنة على النظام العالمي من السيطرة على الأسواق الواقعية إلى الصراع على الأسواق الافتراضية، بهدف امتلاك قدرة أكبر على السيطرة على الأداة الاجتماعية التقنية، التي تمتلك القوة والفعالية اللازمة لاختراق كل مؤسسة والوصول إلى عقل ووجدان كل فرد. إذا كانت الثورة الصناعية قد سرعت بشكل كبير التغير الثقافي والاجتماعي للعديد من الدول، بما في ذلك تلك التي لم تشارك فيها، وألقت بالعديد منها في براثن الاستعمار والتبعية التي ما زالت تعاني من آثارها حتى اليوم؛ فإن الذكاء الاصطناعي كأداة اجتماعية تقنية سيحدث تغييرات أكثر سرعة وعمقًا في النظم الاجتماعية للدول النامية، مما يهدد أمنها القومي واستقرارها السياسي. لذا، يجب على هذه الدول الإسراع في تطوير ذكاء اصطناعي يلبي أهدافها الاستراتيجية، والاستفادة من طاقات شبابها في التغيير والبناء من أجل أوطان آمنة ومستقرة. أما ترك العوالم الافتراضية (Metaverse) تحت سيطرة الشركات الكبرى أو القوى المسيطرة، فقد يؤدي إلى دمار ثقافي ولغوي واقتصادي، وربما تهديد سياسي وأمني.
 
على الدول النامية، ومنها المغرب، السعي لتحقيق وجود في العوالم الافتراضية. يجب أن تدرك هذه الدول أن جميع الأسواق متداخلة، بما في ذلك سوق الذكاء الاصطناعي. وإذا كان الشباب يستخدمون هذه التكنولوجيا كأداة للعلم والمعرفة والإرشاد، فهذا أمر إيجابي ولا ينبغي أن يُثير القلق. لكن المخاوف تكمن في ترك هذه الأداة تحت تأثير مجموعات أو شركات "أجنبية" تُظهر أن المعرفة موجودة فقط في نطاقات معينة مرتبطة ببعض الدول والثقافات، بينما بقية المعارف والحضارات والهويات تُصوَّر على أنها بعيدة عن الحضارة ومليئة بالتخلف والانحطاط، مما يهدد هويتنا وتاريخنا وثقافتنا، ويمحي صلة المواطن بأرضه وحضارته. إذا كانت الثورة الصناعية قد أنتجت فردًا استهلاكيًا وأنانيًا، فإن الذكاء الاصطناعي قد يشوه الإنسان ليصبح كائنًا غير منتمٍ لأي هوية أو ثقافة ولا يحمل أي قيم إنسانية، مما يجعله عاجزًا عن التفكير النقدي البنّاء ومنفصلًا عن ذاته وأسرته ووطنه.
 
على الدول النامية أن تسعى إلى تكوين تحالفات جديدة للتعايش والتنافس السلمي بعيدًا عن التحالفات القديمة التي أصبحت أكثر دموية وتهدف إلى الدمار الشامل. وإذا كان الصراع ضروريًا للاستمرار والتطور، فإن الاستعداد الحالي والصبر الاستراتيجي هما الأسلحة الأساسية للدفاع عن السيادة في جميع العوالم، سواء الافتراضية أو غيرها. لذلك، المغرب مُطالب، كباقي البلدان النامية، بالاستثمار في بنية تحتية لتطوير أداة اجتماعية تقنية قادرة على خلق سوق افتراضية تنافسية، خاصة وأنه يمتلك طاقات شبابية مبدعة وذكية، بالإضافة إلى استثماراته الكبيرة في البنية التحتية وجهوده لفتح أسواق عالمية جديدة وتنويع اقتصاده. الذكاء الاصطناعي هو جزء من اقتصادات المستقبل، وتقليل مخاطره لا يتطلب فقط قوانين وتشريعات، بل يتطلب أيضًا الانخراط الفعلي في الثورة الرقمية والتكنولوجية.
دة.عائشة العلوي، خبيرة اقتصادية