إن تحليل تطور وضعية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال ربع قرن الأخير، المطابق لمرحلة العهد الجديد الذي انطلق مع اعتلاء صاحب الجلالة عرشَ أسلافه، يتطلب منا معالجة الوضعية العامة للاتحاد الاشتراكي خلال هذه الفترة (المحور الأول)، قبل عرض بعض من تصوراته حول بعض مجالات تدبير الشأن العام ببلادنا (المحور الثاني).
المحور الأول: الوضعية العامة للاتحاد الاشتراكي خلال 25 سنة الأخيرة
إن تحليل هذه الوضعية، ينبغي أن ينطلق من وضعية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال العهد الجديد، بعد وفاة المرحوم الحسن الثاني وتولية الملك محمد السادس (أولا)، ثم مساهمته بخصوص مراجعة دستور 2011 (ثانيا).
أولا: وضعية الاتحاد الاشتراكي مع العهد الجديد انطلاقا من سنة 1999
من المهم هنا، الإشارة إلى أنه ينبغي تدقيق المراحل التي مرت منها بلادنا بعد وفاة المرحوم الحسن الثاني. لقد دخلت البلاد عهدا جديدا وسياقات جديدة. فمن ناحية أولى، فإن التناوب التوافقي مكَّن حزب الاتحاد الاشتراكي من قيادة الحكومة، انطلاقا من سنة 1998، بعد أن ظل بعيدا عن تدبير الشأن العام منذ الإطاحة بحكومة المرحوم عبد الله إبراهيم سنة 1960، ومن ناحية ثانية فإنه بعد تفويت العرش، الذي تم بسلاسة، في عهد المرحوم عبد الرحمن يوسفي، جَدَّدَ الملكُ الثقةَ فيه لتشكيل حكومته الثانية خلال شتنبر 2000.
من المهم هنا، الإشارة إلى أنه ينبغي تدقيق المراحل التي مرت منها بلادنا بعد وفاة المرحوم الحسن الثاني. لقد دخلت البلاد عهدا جديدا وسياقات جديدة. فمن ناحية أولى، فإن التناوب التوافقي مكَّن حزب الاتحاد الاشتراكي من قيادة الحكومة، انطلاقا من سنة 1998، بعد أن ظل بعيدا عن تدبير الشأن العام منذ الإطاحة بحكومة المرحوم عبد الله إبراهيم سنة 1960، ومن ناحية ثانية فإنه بعد تفويت العرش، الذي تم بسلاسة، في عهد المرحوم عبد الرحمن يوسفي، جَدَّدَ الملكُ الثقةَ فيه لتشكيل حكومته الثانية خلال شتنبر 2000.
كما أن الاتحاد الاشتراكي وجد نفسه في وضعيات جديدة، أوجد لها الحل المناسب من خلال تقديم مصلحة الوطن على مصلحة الحزب. فقد استمر في المشاركة في حكومات ما بعد المرحوم عبد الرحمن يوسفي، سواء عند تعيين حكومة إدريس جطو (مستقل) أو عباس الفاسي (استقلالي)، ولم يتغير موقفه من المشاركة إلا بناء على اعتبارات فكرية وسياسية عند فوز حزب العدالة والتنمية في استحقاقات 2012.
وقد كانت هذه المناسبة أول فرصة ينتقل فيها حزب القوات الشعبية من معارضة السياسة العامة للدولة إلى معارضة السياسات العمومية للحكومة، وهو ما أحدث تغيرا كبيرا في تصور الحزب للشأن العام، وتصور الفئات المثقفة والشعبية لدور الاتحاد الاشتراكي.
إن هذا التحول، الذي فرضته الظروف العامة، على إثر مساهمة الحزب في تدبير الشأن العام، فرض بدوره تغيرات على المستوى الداخلي. وهكذا تعرض الحزب لسلسلة من الانسحابات أو الانشقاقات، انطلاقا من المؤتمر الوطني السادس لسنة 2001، إما بشكل دائم كما كان الأمر مع تيار "الوفاء للديمقراطية"، أو بشكل مؤقت مع كل من "الحزب الاشتراكي" و"الحزب العمالي" اللذيْنِ عادا للحزب سنة 2013. ورغم أن المؤتمر الوطني 9 للحزب قد عرف أيضا ظهور تيار "الانفتاح والديمقراطية" بقيادة المرحوم أحمد الزايدي، رئيس الفريق البرلماني بمجلس النواب آنذاك، إلا أنه مع وفاته سنة 2014، لم يتمكن أنصاره من تأسيس حزب مستقل، كان يُراد له اسم "البديل الديمقراطي" سنة 2015.
ورغم كل ذلك، فقد عاش الحزب، خلال هذه الفترة، ست (6) مؤتمرات وطنية: المؤتمر الوطني السادس (2001)، والسابع (2005)، والثامن (2008)، والتاسع (2012)، والعاشر (2017)، والحادي عشر (2022)، وعبر مختلف هذ المؤتمرات الوطنية، انتقلت الكتابة الأولى تباعا، من عبد الرحمن يوسفي، لكل من محمد اليازغي (2003)، عبد الواحد الراضي (2008)، إدريس لشكر انطلاقا من المؤتمر التاسع في سبتمبر 2012.
وعلى سبيل المقارنة، فإنه قبل هذا التاريخ، ومنذ تاريخ تأسيس الحزب سنة 1959، عقد الحزب المؤتمر الوطني الثاني (1962)، والمؤتمر الوطني الاستثنائي (1975)، ثم المؤتمر الوطني الثالث (1978)، والرابع (1984)، والخامس (1989). ويتعلق الأمر بثلاث عقود، عاش فيها الاتحاد الاشتراكي تجربة القيادة الجماعية، التي لعب فيها الدور الأساس كل من المهدي بنبركة، عبد الرحمن يوسفي، عمر بنجلون، وعبد الرحيم بوعبيد، حسب كل مرحلة.
إلا أنه مع المؤتمر الاستثنائي سنة 1975، أصبحت مسؤولية الكتابة الأولى لعبد الرحيم بوعبيد، لغاية ما وافته المنية يوم 8 يناير 1992، حيث سيخلفه عبد الرحمن يوسفي ابتداءً من ماي 1992 لغاية 2003.
ثانيا: مساهمة الاتحاد الاشتراكي في مراجعة دستور 2011
استمرارا على نهجه السابق، بخصوص الإصلاحات السياسية والدستورية، انطلاقا من دستور 1962 وصولا إلى دستور 1996 الذي حقق جزءً من مطالب الحزب وبشكل سَهل اعتماد التناوب التوافقي، بادر الاتحاد الاشتراكي، رغم تخلي حلفاءه عن مطلب الإصلاح الدستوري، لأول مرة، ولوحده، برفع مذكرة تتضمن تصوره لمراجعة شاملة للدستور سنة 2009.
لذلك، وخلال سنة 2011، كان في صلب الأحداث. فبعد الخطاب الملكي 9 مارس، قدم الحزب تصوره ومقترحاته لمراجعة الدستور بتاريخ 28 مارس، أي فقط بعد 19 يوما، مما يدل على أنه كان جاهزا للمساهمة في هذا الورش.
وتتمثل الخطوط العريضة للمقترحات الاتحادية في أن التصور كان قائما على نوعين من المقترحات، النوع الأول يهم المبادئ العامة التي يقوم عليها تصور الإتحاد الأشتراكي، ثم نوعٌ ثانٍ يهم المؤسسات الدستورية من زاوية تنظيمها واختصاصاتها والعلاقة فيما بينها.
ومن المهم جدا بهذا الخصوص، التذكير على أن مذكرة الاتحاد الاشتراكي سجلت بشكل صريح مبادئ أساسية ينبغي اعتبارها أساس قيام دولة الحق والقانون والمؤسسات. لقد طالب حزب القوات الشعبية بالتنصيص على ما يلي: سمو الدستور، احترام التعددية الثقافية، دسترة الوضع اللغوي بالمغرب بإضافة الأمازيغية، ترسيخ مبدأ سمو الالتزامات والمعاهدات الدولية، ضمان المساواة للجميع أمام القانون، إقرار مبدأ قرينة البراءة، إقرار المساواة بين المرأة والرجل، التنصيص على المسؤولية العمومية لاتخاذ كل التدابير الكفيلة بتفعيل المساواة بين الجنسين، إحداث الجلس الأعلى لحقوق النساء، ضمان تمثيلية مغاربة الخارج في البرلمان، الحق في المعلومة، توسيع وظائف الأحزاب السياسية، دسترة مبادئ الحكامة الأمنية، الحق في البيئة السليمة، ... إلى غير ذلك مما يُعتبر من جوهر الفكر الاشتراكي الديمقراطي.
أما على صعيد المؤسسات الدستورية، فإنه يُمكن القول إجمالا، أن جل تصورات الاتحاد الاشتراكي تم اعتمادها، على صعيد كل من الملك والحكومة والبرلمان والسلطة القضائية، ثم ما يتعلق بالمجلس الدستوري، والمجلس الأعلى للحسابات، والجماعات الترابية.
وقد تم اختتام المذكرة بالتأكيد على التصور العام والمبدئي، من خلال اعتبار أن منطلق التصور الاتحادي، هو، قناعته الراسخة بأن "الوثيقة الدستورية، لا بد أن تكون أداة لترسيخ قيم الحرية والتقدم والمساواة والعدالة، ولا بد أن تكون ضمانا لتحقيق المصلحة العامة"، مع التأكيد على أن فصل السلط وتقوية الحكومة والبرلمان، "يحتم إرساء قواعد عمل مؤسسي قائم على التوازن والانسجام والتعاون والحوار داخل مكونات السلطة السياسية في بلادنا، وفي ما بينها، كل منها ضمن اختصاصاتها الدستورية"، من أجل "استقرار بلادنا ومصداقية وفعالية مؤسساتها انسجاما مع روح الخطاب الملكي لــــ 9 مارس 2011".
المحور الثاني: تصورات الاتحاد الاشتراكي لبعض مجالات تدبير الشأن العام
إن تتبع تصورات وبرامج ومقترحات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لبعض مجالات تدبير الشأن العام، يفرض علينا معالجة تحليله للوضع السياسي ببلادنا بعد دستور 2011 (أولا)، ثم تصوره لإصلاح سير المؤسسات الدستورية وتأطيرها الدستوري (ثانيا)، وموقفه من ورش الحماية الاجتماعية وعلاقته بالدولة الاجتماعية (ثالثا).
أولا: تصور الاتحاد الاشتراكي للوضع السياسي ببلادنا بعد دستور 2011
لقد قام الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بتقييم شامل لمرحلة ما بعد دستور 2011.، حيث أنه اعتبر أن العشرية الأولى لما بعد الدستور، كان من الممكن أن تُشكل قفزة سياسية، اقتصادية واجتماعية جديدة، نتيجة الحماس الاجتماعي الذي تلا حركة 20 فبراير والمواكبة الواسعة للمراجعة الشاملة للدستور وتحضير القوانين التنظيمية ذات الصلة بالاستحقاقات الانتخابية. إلا أنه تبين أن الحزب "الفائز" آنذاك، كشف عن عجزه على مسايرة الحمولة الديمقراطية للدستور الجديد.
لقد سجل الاتحاد الاشتراكي العديد من مظاهر عجز حزب العدالة والتنمية عن تحمل المسؤولية الكاملة، وقد تمثل ذلك مثلا في التنازل عن عدد من الاختصاصات الدستورية، سواء من خلال النصوص التشريعية أو من خلال الممارسة، ثم تجسد من خلال طريقة مُعالجة القضايا الكبرى للبلاد. لقد فشل الحزب فشلا ذريعا في محاربة الفساد، وفي القيام بإصلاحات إيجابية، بحيث انخرط في سلسلة من "الإصلاحات" كانت كلها محط جدال، من قبيل صندوق المقاصة، أو نظام التقاعد، أو التوظيف عن طريق التعاقد... إضافة لفشله في تدبير الشأن المحلي رغم احتلاله مركز الصدارة في الانتخابات الجماعية وتحقيقه لفوز كاسح في جل المدن الكبيرة والمتوسطة.
ورغم مشاركة الاتحاد الاشتراكي في الحكومة الثانية لعبد الإله بنكيران، فإنه لم يتم تحقيق النتائج المرجوة منها نتيجة السياسة الحزبية الضيقة التي تم اعتمادها من قبل الحزب قائد التجربة.
ومع استحقاقات 2021، دخلت البلاد منعطفا جديدا يتمثل في إدخال نوع من النمطية في المشهد السياسي من خلال تحالف حزبي ثلاثي هيمن على الحكومة ومجلسي البرلمان، وجل المجالس الترابية والغرف المهنية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تم ترسيخ سياسة حرمان المعارضة البرلمانية من ممارسة حقوقها الدستورية، لدرجة أن الوضع أخذ صفة "التغول".
ثانيا: تصور الاتحاد الاشتراكي لإصلاح سير المؤسسات الدستورية وتأطيرها الدستوري
يعمل الاتحاد الاشتراكي على خلق دينامية مستمرة. فقد بحث خلال المؤتمر الوطني الحادي عشر في مدى تأطير دستور 2011 للحياة السياسية بشكل فعال، ومدى إمكانية مُعالجة بعض الثغرات التي أبانت عنها الممارسة. ولعب الحزب دورا مهما في التوجيه لورش الإصلاحات السياسية، وبالتالي لا يُمكنه أن يبقى حبيس اللحظة، بل عليه أن يقوم بأعمال استباقية.
ولذا، يعتبر حزب القوات الشعبية أن مرحلة تطبيق المقتضيات الدستورية وإصدار القوانين التنظيمية والعادية اللازمة لحُسن تطبيق الدستور، لم تكن في مستوى الأحداث، حيث أن الحكومات المحافظة لم تتمكن من تفعيل المقتضيات المتقدمة للدستور.
لهذا، فإنه والحالة هذه، لا يُمكن للاتحاد الاشتراكي إلا أن يبقى مستمرا في الدفاع عن مبدأ المؤسسات الدستورية القوية، وأن يقوم بمتابعة الأوضاع بالشكل الذي يسمح بتسجيل الثغرات الدستورية التي ينبغي معالجتها بعد كل هذه المدة، وأساسا من ذلك الدفاع عن المؤسسة التشريعية قصد رفع هيمنة الممارسات الحكومية الهادفة للتقليص من مجال اختصاصاتها، وإحداث التوازن اللازم بين الأغلبية والمعارضة، وإعادة النظر في المنظومة التشريعية لكل النصوص ذات الصلة بمؤسسات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، وباقي هيئات ومؤسسات الحكامة، قصد تحويلها إلى مؤسسات داعمة للعمل الحكومة في وضعها لسياساتها العمومية، من خلال تقديم الخبرة بأطر يتم اختيارها بناء على كفاءتها، وليس على انتماءاتها السياسية أو النقابية أو الجمعوية، وتعميق المقاربة التشاركية والتوافقية التي تم اعتمادها لصدور الدستور نفسه، عوض الارتكاز على القوة العددية.
ثالثا: ورش الحماية الاجتماعية وعلاقته بالدولة الاجتماعية
يعتبر الاتحاد الاشتراكي أن انتشار استعمال مفهوم الحماية الاجتماعية وترويجه من قبل قوى ليس لها علاقة بالاشتراكية الديمقراطية، مسألة تدل على صحة وجهة نظره. فبلوغ مجتمع الكرامة والمساواة والتنمية الشاملة، يتطلب ضمان التماسك المجتمعي وترسيخ المبادئ الكبرى للاشتراكية الديمقراطية، وذلك باتخاذ مجموعة تدابير ينبغي أن تتحمل الدولة مسؤولية إنجازها قصد تقليص الفوارق الاجتماعية والوقوف بجانب الفئات المعوزة والفقيرة والمهمشة باعتماد سياسة مُندمجة تهم القطاعات الاجتماعية الأساسية.
إن منظور الاتحاد الاشتراكي، يستهدف إقامة صرح الدولة الاجتماعية، لأنه يروم تأسيس قطب اجتماعي يرتقي ببلادنا إلى مرتبة أعلى في مجال الإدماج الاجتماعي. ويتعلق الأمر بسياسة مُندمجة تتولاها الدولة في خمس مجالات أساسية تهم كلا من التربية والتكوين، الصحة، التشغيل، السكن اللائق، وتوفير البنيات والخدمات المرفقية الرئيسية، كما ورد في الورقة السياسية التوجيهية للمؤتمر الحادي عشر.
ويعتبر الاتحاد الاشتراكي أن هذا القطب المندمج، لا يُمكن أن يقوده إلا صاحب الجلالة، باعتباره وحده المحايد في المشهد السياسي والحزبي وفي الخلافات حول البرامج الانتخابية وركائز السياسات العمومية. ولهذا السبب، فإن تركيز الاتحاد الاشتراكي على "محورية الدولة" يتنافى مع ما تقوم به السياسات العمومية المتعاقبة والتي تستهدف بشكل أو بآخر، التنازلَ على القطاعات الاجتماعية الأساسية، خاصة في التعليم والصحة.
لقد أبانت التجربة خلال جائحة كورونا على أن المجتمع المغربي لم يجد أمامه إلا القطاعات العمومية، التي مكنت الأفراد من حقهم في الحياة، وحق أبناءهم في التمدرس، وهو ما يُثبت صحة مواقف الحزب من خلال المراهنة على التعليم والصحة العمومييْن لتحقيق تطلعات الشعب المغربي، بما يتطلبه ذلك من إصلاحات.
كما أن صدور نص قانوني لتأطير الحماية الاجتماعية، يُعتبر مكسبا اجتماعيا جاء بناء على تعليمات ملكية، وينبغي على أية حكومة، في إطار سياساتها العمومية، أن تعمل على تنسيق كل تدخلاتها الاجتماعية المتفرقة بين مختلف الإدارات العمومية والمؤسسات والمقاولات العمومية والجماعات الترابية، قصد خلق قطب اجتماعي قوي بحكامة رشيدة وفعالة، وخاصة مستقلة، تفاديا لأي استغلال سياسوي أو انتخابي.
بنيونس المرزوقي/ أستاذ باحث بكلية الحقوق وجدة