تعرفت على صاحب كتاب "الإذاعة (الراديو): النشأة والأدوار والذكريات"، منذ حللت كأستاذ بمدينة المحمدية عام 1994، جمعتنا الندوات واللقاءات الثقافية والفنية والتظاهرات السياسية والنقابية والجمعوية، فاكتشفت أنه رجل معطاء وشهم، محبب لدى الكل ومعروف بلطفه وكياسته وطيبوبته، عبر ما يقارب ثلاثة عقود ظلت علاقتنا بيضاء بلا أي لطخة تشوبها أو تعكر صفوها، ظل الصديق ميلود بكريم عفيفا، مناضلا صامتا، قارئا ذكيا، وله لمسات على الشأن الثقافي والجمعوي بالمدينة وعلى المسار التعليمي والتربوي من خلال مهمته في سلك التربية الوطنية، حتى اكتشفت في بداية هذه الألفية بأنه يملك موهبة صحافية جسورة من خلال إذاعة FM، التي أصبحت اليوم MFM إذاعة خاصة في ملكية كمال لحلو.. من خلال برنامج حواري مثير خلال كل أسبوع، كان يشد إليه انتباه المستمعات والمستمعين لحيوية المواضيع التي كان يختارها الزميل بكريم بحذق ويسهر على إعدادها وإدارتها بجد وتفان ومهنية عالية.
يأخذنا الأستاذ ميلود بكريم في هذا الكتاب في رحلة عبر المكتوب لتحولات الأثير بالمغرب، من الداخل.. فالرجل كُتب له أن يخوض تجربة إعلامية في المجال السمعي بين سنتي 2002 و2005، من خلال إنتاج وتقديم برنامج حواري مدته ساعة ونصف كل يوم سبت صباحا بإذاعة FM بالمعرض الدولي بالدار البيضاء.. تجربة قصيرة في الزمن لكنها عميقة في المعنى، على اعتبار أولا أنها جاءت في عز انفتاح الإعلام المغربي، مرحلة زاخرة امتدت من أواسط التسعينيات حتى النصف الأول من العقد الأول من القرن الجاري، أي في مرحلة كان المغاربة يستعيدون ذاكرتهم التي تبدو كما لو أنها سُرقت منهم أو رفعت بينهم وبينها أستار وحجب من القمع وتراكم الموانع، وفي ذات الآن يتمرسون على تجريب خطواتهم الأولى في مجال حرية التعبير بعد سنين عديدة من الكبت..
هي رحلة عشق، أكثر منها رحلة توثيق تاريخي للمسار الذي عبره التواصل عبر الإذاعة، يقودنا ميلود بكريم بعد سرد تطور كرونولوجي إثر اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية لنقل الصوت لآلاف الكيلومترات منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حتى اليوم، ويحيط قراءه بحنكة الخبير بمعلومات جد قيمة عن كيف تنطلق الرسالة عبر الأثير لتصل بسرعة البرق عبر الراديو إلى مختلف المستمعين المنتشرين عبر العالم..
أول ما يشدنا للكتاب هو صِدْقية كاتبه، فهو راو ثقة غير مجروحة شهادته، معروف بأخلاقه العالية ومهمته التربوية النبيلة، وبأصالة تفكيره، ثاني ما يستقطب الانتباه في كتاب "الإذاعة (الراديو): النشأة والأدوار والذكريات"، هو حجّية المكتوب، على اعتبار أن صاحبه خاض تجربة عيانية حيّة وزاخرة خاضها في قلب إذاعة FM من خلال إنتاج وتقديم برنامج حواري، إنه سرد تجربة شخصية خصبة، فإعداد وتقديم برنامج حواري لمدة ساعة ونصف عبر الأثير بشكل مباشر، هو أشبه ب"زواج ليلة تدبيرو عام"، بما يتطلبه من إعداد الموضوع والبحث عن الضيوف وتحضير الأسئلة وتوفير أجواء الحوار في الاستوديو، والتحكم في مساره لمدة تسعين دقيقة، ليس أمرا سهلا عبر الأثير، خاصة وأن الأمر يتعلق ببرنامج متعدد المواضيع ومتنوع الضيوف من الصحة إلى السياسة، من التعليم إلى الثقافة، من الرياضة إلى الدين... ومفاجآت المشاكل التقنية أو المرتبطة باستفراد ضيف على الكلمة أو خروج متحدث من الجمهور المتصل خارج الموضوع أو غياب مفاجئ للضيف في آخر نفس من تقديم البرنامج الذي كان مباشرا... أما عن خطاب المتدخلين خاصة في المواضيع السياسية فكان الأمر أشبه بالسير في حقل ألغام.. لقد خضت ذات التجربة وفي ذات الإذاعة بعد أن أصبحت خاصة، وأعي المطبات والمزالق والصعوبات التي تعترض معد ومقدم برنامج مباشر على الأثير..
يتضمن هذا الكتاب القيم حكيا موشوما بتجربة إذاعية خصبة، ينير بالنا حول هذه الوسيلة العمياء "Blind Medium"، لقد أعادني كتاب الأستاذ الصديق ميلود بكريم إلى مراحل من طفولتي وجزء من يفاعتي، ومعي باقي أبناء جيلي، حيث لم يكن الراديو يفارق آذاننا، نبحث عبر موجاته عما نشاء من إذاعات، ونتفيأ في أرجائه ما شاء لنا الهوى متسقّطين عبره الأخبار، مستمتعين بالموسيقى، متتبعين حلقات المسلسلات الإذاعية التي كانت تأتي بعد نشرة الزوال، وعبره حفظنا الأغاني الخالدة الوطنية والعربية والدولية، لقد كانت بيننا والمذياع ما أسماه الكاتب "ألفة وصداقة" عميقة.. ينعش الكتاب ذاكرتنا الجماعية كجيل بنوع من النوستالجيا، ذاكرة ارتباطنا بأمواج الأثير وتعلقنا بجهاز الراديو ذي السحر الجليل، وكيف نجح هؤلاء المبدعون من صحافيين وممثلين ومغنين في نقل الحكايات والأغاني والمسرحيات والربورتاجات ومختلف الأحداث والأخبار بشكل حي، وفي جعلنا نحيى الحكايات والتمثيليات والأغاني والحوارات والسهرات الفنية وكافة البرامج الإذاعية كأنها منقولة حية على ذبذبات الأثير، دمها على خدها، تجري في نفس اللحظة التي نستمع إليها بشغف وحماس.. حتى لو كانت مسجلة، بسبب فورية النص الإذاعي.
كان الراديو جهازنا المفضل، في البدء كان لنا مذياع عائلي واحد، لكن بحكم تعدد الرغبات في ذات البيت بيني وبين إخوتي، صار لكل واحد منا مذياعه، وكانت لنا حكايات مبدعة مع كيفية شحن البطاريات من عضها إلى غليها في الماء إلى حكّها بفروة شعرنا لاستدامة مفعولها أو تجميع الميت منها في أنبوب أبدعنا في تمرير أسلاك خارجية وربطها بالبطارية..
لقد أحدث اكتشاف الراديو ثورة كبرى في عالم الاتصال في زمن الحرب كما في السلم، في عرض البحر كما في الجو والبر، وأثر على كل مناحي حياة البشر، حيث تقاسم الناس عبر أثيره المعلومات والأعمال الإبداعية من مسرح وموسيقى وشعر وبرامج حوارية ونقل مباريات رياضية حيّة من سباق أو كرة بمختلف ألوانها.... واستعمل للتجييش وللحماسة الوطنية ولتواصل الدولة مع مواطنيها وللتنشئة الاجتماعية والتوعية الصحية.
يعرج بنا بكريم عبر مساره الشخصي في إذاعة FM حين كان يعد ويذيع برنامجا حواريا أسبوعيا يسهر على إعداد حلقاته بحب وباجتهاد صحافي لا تخطئه الأذن لمن اتبع برنامجه عبر اأاثير.. بدءا من اختيار الموضوع المناسب، "الذي يستجيب لمجموعة من المعايير، كارتباطه بمناسبة وطنية أو دينية أو عالمية، من أجل استقطاب شريحة واسعة من المستمعات والمستمعين، وصلاحيته لتغطية الحيز الزمني للبرنامج، التفكير في الضيوف المناسبين للموضوع، الشروع في إعداد جذاذة تتضمن عنوان الموضوع ومحاوره والحيز الزمني المخصص لتدخل كل ضيف مع استحضار توازن التدخلات وتوزيع الزمن بدقة على التدخلات والفواصل الموسيقية وفترة الإشهار مع تفادي بقاء زمن ميت من عمر البرنامج، امتلاك القدرة والمهارة لتكييف وتنسيق المكالمات الهاتفية الواردة من المستمعين/ات مع تدخلات الضيوف وبداهة حاضرة لاحتواء المواقف الطارئة، وقدرات تواصلية جيدة".
يحضر في هذا الكتاب حس تربوي بيداغوجي قوي ناتج عن خبرة صاحبه العميقة في التعليم كما في إشرافه على إعداد وتأطير برنامج حواري شهير على أمواج الأثير، إنه ينقل بصدق تجربة باذخة شخصية لكنها تعكس مسارا مهما من تطور إعلامنا الوطني السمعي خاصة.