على هامش برنامج "عطلة من أجل السلام" الذي يستفيد منه أطفال المحتجزين بمخيمات تندوف، ارتفعت أصوات صحراويين باتهام زعماء عصابة «البوليساريو» بتنصير أطفالهم وبيعهم للأجانب، وتعريض طفولتهم عن عمد وسبق إصرار لإجهاضات عقدية مؤلمة..
فقد دأبت جمعيات أوروبية، في الأصياف، على استقبال فتيان وفتيات من مخيمات تندوف، تتراوح أعمارهم بين 8 و12 عامًا. والهدف المعلن من العطلة التي تستغرق، في المعدل، شهرين هو إنشاء «روابط قوية» بين العائلات البيولوجية للأطفال والعائلات الحاضنة، في أفق التبني الشامل، أو على الأقل بناء جسور بين الحاضن والمحضون في أفق التأثير عليه وحيازته وجدانيا وثقافيا. غير أن لهذه العملية هدفا مضمرا، لا يتصل فقط باستمالة الأوروبيين للتعاطف مع الأطروحة الانفصالية، بل يرتبط بهدف أكبر يرتبط بتنصير هؤلاء الأطفال وإبعادهم عن عائلاتهم المسلمة بطرق احتيالية.
فخلال هذا الأسبوع، وبتواطؤ بات مكشوفا من زعماء البوليساريو، انطلقت عملية توجيه أطفال المخيمات إلى عدد من الدول الأوروبية «إسبانيا، فرنسا، بلجيكا، ألمانيا..إلخ»، حيث يخضعون هناك لمجموعة من المراحل تحت مسميات مختلفة: أنشطة ترفيهية، زيارات استكشافية، رحلات ثقافية، حملات علاجية. غير أن كل ذلك يندرج في إطار لعبة التمويه التي تجيدها بعض الجمعيات التبشيرية هناك ببناء برامج تهدف إلى غسل أدمغة أطفال مخيمات تندوف واقتلاعهم من جذورهم، وتنصيرهم، لسهولة الأمر بسبب حداثة سنهم، ثم المرور الى عملية توزيعهم على العائلات الأجنبية التي تنتظر في طوابير سنوية للظفر بأحد الاطفال القادمين من مخيمات تندوف، وهي عملية معقدة تتدخل فيها أطراف متعددة وتديرها قيادة البوليساريو عبر أذرعها ومؤسساتها؛ تنطلق، أولا، من الانتقاء الدقيق للمرشحين لـ «العطلة»، أي هؤلاء الأطفال الذين ينتمون إلى أقليات قبلية مهمشة أو أطفال يتامى لن يتجشم أحد مشقة السؤال عنهم أو الدخول في مواجهة مع الزعماء حولهم أو الاحتجاج على عدم إرجاعهم. ذلك أن زعماء البوليساريو يدركون أنهم «يتاجرون» في البشر، كما يدركون أن العائدات المادية يمكنها أن تكون أكبر إذا استغلوا العملية الصيفية لبيع «التأشيرات» لبعض الأسر النافذة في المخيمات، لتسهيل تسفير أبنائهم الى أوروبا، والتحاقهم ببعض أقاربهم للدراسة والعيش بعيدا. بل تمكين أشخاص من الهجرة إلى أوروبا تحت مسمى أطر أو مرافقين بمقابل مالي مهم، وهي عملية مضمونة وسهلة، نظرا لحجم التسهيلات المقدمة من طرف الدول الأوروبية المستضيفة.
ومن صور تنصير أطفال البوليساريو ما نشرته جمعية "رفاق متضامنون"، وهي جمعية فرنسية داعمة للانفصاليين، إذ عممت صورا تظهر هؤلاء الأطفال وهم يشاركون في قداس ديني مسيحي في إحدى الكنائس، حيث أرفقت الصور التي التقطت بهذه المناسبة بالعبارة التالية: «هذا الصباح، تمت دعوة الأطفال من طرف الأب داميان بيندو (..) لقد تمكنوا من رؤية كيف يقام القداس المسيحي».
وعلق منتدى «فورساتين»، الذي ينشط أعضاؤه داخل مخيمات تندوف بشكل سري، على هذه الصور قائلا: «الصور تظهر أطفالا صحراويين وهم في ضيافة إحدى الكنائس يستمعون لدروس ويتعرفون على طقوس دينية، ويخضعون للتعميد من طرف قساوستها، في ضرب تام لتعاليم الدين الإسلامي، في غياب تام لذويهم ومرافقيهم».
ولا يمانع زعماء البوليساريو في تعرض الأطفال «المُهَجَّرين» للمؤثر التبشيري، خاصة أنهم يدرجون العملية في حشد الدعم وإيجاد مصادر التمويل والمساعدات الإنسانية، حيث وجدوا في الجماعات المسيحية والمنظمات التبشيرية حليفا جاهزا لتقديم يد المساعدة من أجل ضرب مصالح المغرب وزعامته الروحية في المنطقة. والدليل على ذلك أن البوليساريو تحتضن سنويا ملتقى «حوار الأديان من اجل السلام» الذي أصبح مقصدا أثيرا لمئات المبشرين المسيحين من أوروبا والولايات المتحدة، إذ تحول هذا الملتقى إلى قاعدة خلفية للانطلاق نحو مجموعة من الدول الإفريقية.
وتعتمد الجمعيات التبشيرية، لتمويل برامجها، على جمع التبرعات داخل الكنائس: العشور و«الهدايا» و«التبرعات». حيث يعتبر التبشير الموجه إلى أطفال البوليساريو، وغيرهم من الأطفال الأفارقة، استراتيجية طويلة الأمد تجمع بين استقدام هؤلاء الأطفال تحت غطاء «الترفيه»، وتوفير برامج تربوية تبشيرية، فضلا عن التدريب على المهارات وأشكال التعليم الديني المسيحي بشكل أو بآخر.
ويتخذ التبشير الموجه إلى هؤلاء الأطفال، حسب دراسة قامت بها ماري ناتالي لوبلان وبوريس كونيغ، تحت عنوان «تنصير الأطفال من قبل المنظمات التبشيرية غير الحكومية»، شكل أنشطة يومية للصلاة، ودورات متعمقة في الكتاب المقدس. في حالة بعض المدارس الإنجيلية ومراكز التدريب الديني، يتم تحديد الأنشطة اليومية على مدار الساعة، إذ تمنع جميع الزيارات للطفل، لتسهيل غرس نظام الحياة المسيحية والمجتمعية في نفوس هؤلاء الأطفال، إذ يتم تنظيم العديد من جلسات الصلاة والعبادة يوميًا، وتُعطى دروس متعمقة في الكتاب المقدس في المساء، كما تمنع القوانين الداخلية حيازة المؤلفات غير المسيحية والنقود والهواتف. أما في حالة المدارس الكاثوليكية، التي تضم عموماً نسبة من التلاميذ غير الكاثوليك، فيوضح المديرون أنهم يفضلون ترك الأمر للوالدين في السماح أو عدم السماح لأبنائهم بالمشاركة في دروس الكتاب المقدس. غير أن الأمر، بخصوص أطفال البوليساريو، لا يتعلق بالوالدين، بل بمرافقين «عسكريين» و«أطر تربوية» على علاقة مباشرة بزعماء البوليساريو، وهو ما يسهل على المدرسين التبشيريين تحريض الأطفال على وضع التعاليم المسيحية موضع التنفيذ.
وقد شجع نجاح الجمعيات التبشيرية في السنوات الفارطة على تبني استراتيجية أخرى تتمثل في إقناع الآباء والأمهات «في حالة مرافقتهم للأطفال»، بالاطمئنان إلى برامجها، من خلال أعمال إنسانية إضافية، مثل التبرع بالمواد الغذائية «السكر، الزيت، الحليب، الطحين»، أو من خلال وضع برامج لمحو الأمية مفتوحة للجميع، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى التبشير التدريجي للآباء والأمهات والأطفال.
وكشفت الباحثتان ماري ناتالي لوبلان وبوريس كونيغ أنه رغم الاختلافات في النهج المتبع بين الجمعيات التبشيرية، هناك قواسم مشتركة من حيث الاستراتيجيات والأنشطة. ومن الأمثلة على ذلك استخدام برامج العطل الصيفية لفائدة الفئات الفقيرة، وتقديم الهدايا، وتطوير «خطط التبشير من خلال الألعاب والتبرعات»، فضلا عن المساعدة المادية أو الاجتماعية للفئات الأكثر حرمانًا.
وتستهدف الجمعيات التبشيرية في أوروبا، وأمريكا أيضا، أطفال البوليساريو، لنقلهم خارج بيئتهم المذهبية. ذلك أن «المفاهيم المختلفة للتنمية» التي تتبناها المنظمات التبشيرية ترى أنه لا يمكن اختزال التنمية في هدف الازدهار الاقتصادي، بل تتشابك مع اعتبارات ذات طبيعة روحية ودينية. ولهذا تقوم هذه المنظمات، ولا سيما الإنجيليين، بتكييف منطق المساعدات الإنسانية لإعادة صياغتها في سياق نسخة دينية روحية للتنمية لا يمكن تنزيلها إلا عبر إطلاق حملات التبشير واستهداف الأطفال لتنصيرهم.
لقد سبق لمجموعة من الفعاليات الحقوقية أن دعت المنتظم الدولي إلى التدخل لوقف «برنامج عطل في سلام»، لكونه يشكل مدخلا لانتهاك حقوق الأطفال واستغلالهم في الترويج للطرح الانفصالي وتسول المساعدات الإنسانية التي تخطئ وجهتها نحو مخازن الزعماء الانفصاليين وكابرانات الجيش الجزائري، في ضرب صارخ لمبادئ القانون الدولي التي تؤطر التعامل مع الأطفال، خاصة أن هذا البرنامج يساهم إلى حد بعيد في إخراج هؤلاء الأطفال من بئيتهم الثقافية. وهذا ما عبرت عنه، أيضا، مجموعة من العائلات التي ترفض رفضا قاطعا زعزعة عقيدة أبنائها وبناتها الذين يتم تنصيرهم بكل احترافية تحت غطاء الحق في الترفيه والسلام.
فهل بإمكان المنتظم الدولي وحقوقيي العالم والمهتمين بحقوق الطفل والمنتمين إلى جبهة رفض الاتجار في البشر إخضاع جمعيات التبشير وزعماء البوليساريو لـ «تحقيق أخلاقي» يتمثل في التحقق الكامل من المعلومات المقدمة عن تنصير أطفال البوليساري؟ هل يمكن التحقق من الأهداف غير المعلنة لهذه الجمعيات التبشيرية؟ هل يمكن إيقاف موجة التبشير بالمخيمات القائم على رؤية إثنوغرافية استعمارية؟
إن وضع الأطفال والطفولة في مخيمات تندوف في خطر، كما أن التعارض بين الحق والاستثناء لا يسمح لنا بفهم الطريقة التي انتشرت بها أخلاقيات حقوق الطفل وأعيد تبنيها من قبل المنظمات التبشيرية، لأن "التنمية البشرية المتكاملة لا تقوم على «ابتكار صراع ديني» في المخيمات قدر قيامها على إنهاء واقع الاحتجاز ومحاكمة لصوص المساعدات الإنسانية وزعماؤ الاتجار في البشر.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن "