المكان الذي أقف فيه والتقطت فيه بضع صور، يعد أحد أعظم أوراش الهندسة المدنية في العالم، ويتعلق الأمر بالقناة المائية المعروفة "بقناة ميدي" (Le canal de Midi) بمدينة Toulouse التي تربط نهر La Garonne بالبحر المتوسط على مسافة 240 كيلومتر.
قصة هذه القناة المائية ترتبط بالحلم الذي ظل يراود كل حكام فرنسا في عصر النهضة دون أن يفلح شخص في إبداع الحلول القابلة للتحقيق. إذ بالنظر إلى الفورة الاقتصادية بفرنسا في القرن 15 و16، كان ساسة فرنسا ونبلاؤها يتطلعون لإيجاد منفذ بحري يربط بين وسط جنوب البلاد والبحر المتوسط للذهاب نحو شرق المتوسط أو آسيا بدون العبور عبر ممر جبل طارق الذي كان يكلفهم الوقت والمال لغلاء التنقل عبره. لكن المشكلة كانت تكمن في غياب نهر يربط بين منطقة Midi والبحر المتوسط. فالنهر الكبير الوحيد الموجود بالمنطقة هو نهر La Garonne، الذي توجد منابعه بالحدود الإسبانية، ويخترق وسط جنوب فرنسا على طول 529 كيلومتر، لكنه يتجه غربا عبر تولوز تم بوردو، قبل أن يصب في خليج Cascogne بالمحيط الأطلسي.
من هنا تولد الحلم القاضي بتحويل مجرى الماء من نهر La Garonne بتولوز إلى شرق فرنسا بالبحر المتوسط، بإحداث قناة مائية تسمح للسفن بنقل الأشخاص والسلع المختلفة. لكن الأسئلة من قبيل: كيف وبأي تقنية وبأي كلفة ومن سيمول المشروع وكم ستدوم الأشغال، حالت دون بلورة الفكرة.
في القرن 17، وتحديدا في سنة 1665 سيترافع رجل أعمال فرنسي اسمه Pierre Paul Riquet(وهو جابي ضرائب بجنوب فرنسا، راكم ثروته من استخلاص ضريبة الملح لفائدة الملك)، من أجل إنجاز القناة المائية، خاصة وأن Riquet كان خبيرا بالجبال وبتضاريسها، بحكم تنقلاته الكثيرة لتحصيل الضرائب.
ولتحقيق هذا الحلم استعان Riquet بخبرة صديقه المهندس Francois Andreossy المختص في هندسة المياه. وصاغ Riquet مشروعا عرضه على الرجل القوي في فرنسا آنذاك، ألا وهو الوزير Jean-Baptiste Colbert، الذي كان يتكلف بالمالية لدى "لويس 14" ملك فرنسا آنذاك . هذا الأخير أذهله المشروع، فأقنع الملك بوجوب خلق لجنة لدراسة جدوى إنجاز القناة، خاصة وأن الكلفة لن تتحملها خزينة فرنسا بل سيمول المشروع رجل الأعمال Riquet.
في 1666، وقع "لويس 14"،ملك فرنسا، على القرار الذي يرخص بإنجاز قناة تربط تولوز بالبحر المتوسط، وسميت ب"القناة الملكية"، قبل أن يتم تغيير اسمها بعد الثورة الفرنسية عام 1789باسم "Canal de Midi".
على قنطرة قناة Brienne
القناة المائية Midi، تطلب إنجازها 15 سنة. وتم تسخير 12.000 من اليد العاملة في الحفر بعمق متران وعرض يتراوح بين 15 و18 مترا على طول 240 كلم، مع إنجاز العديد من السدود والأحواض بأعالي الجبال والهضاب لتجميع المياه وإطلاقها لرفع صبيب الماء بالقناة، فضلا عن العديد من محطات الضخ والأبواب لحصر المياه والتحكم في انسيابها وفق الوضع الطوبوغرافي على امتداد مجرى القناة من تولوز إلى بحيرة Thau قرب مدينة "سيت" Séte على الضفة المتوسطية.
ولكسب ولاء العمال وضمان تفانيهم في إنجاز الورش، كان رجل الأعمال Riquet يؤمن للمستخدمين ( 12.000 فردا)، تعويضا عن المرض والعطل وتعويضا عن أيام العمل أثناء توقف الأشغال بسبب تقلبات الطقس، وهو ما ساعد على تسريع وتيرة الإنجاز.
إلا أن Riquet لم يكتب له أن يفرح ويحتفي بافتتاح قناته المائية، إذ وافته المنية يوم 1 أكتوبر 1680، أي قبل الانتهاء من الافتتاح النهائي لقناة MIDI في أبريل 1681.
وبعد أن لعبت هذه القناة المائية دورا مهما في نقل السلع والأفراد على امتداد ثلاثة قرون وما يزيد، تحولت الآن إلى أحد أبرز المعالم السياحية بجنوب فرنسا ككل. ومما زاد من جاذبية Canal de Midi لدى السياح في العالم، أن اليونيسكو صنفت القناة كثراث للإنسانية عام 1996. لدرجة أن "قناة ميدي" تحقق لوحدها اليوم 30% من مجموع رقم معاملات التنقل السياحي بمجموع أنهر وبحيرات فرنسا. إذ في كل سنة يعبر هذه القناة المائية 1.5 مليون سائح.
على قنطرة Jumeaux
ويتطلب عبور القناة بواسطة سفن النزهة الصغيرة الحجم، من Toulouse إلى مدينة Séte بالبحر المتوسط سبعة أيام، وهو ما لم تسمح لي به ميزانيتي الزمنية بسبب قصر مدة إقامتي بتولوز ، بشكل خلق غصة في حلقي.
لكن عزائي أني سرقت سويعة التهام طبق سمك لذيذ بأحد السفن /المطاعم المنتشرة على ضفاف "قناة ميدي" قرب ميناء Saint-Sauveur.
لكن عزائي أني سرقت سويعة التهام طبق سمك لذيذ بأحد السفن /المطاعم المنتشرة على ضفاف "قناة ميدي" قرب ميناء Saint-Sauveur.
وبقدر ما ترحمت على روح Pierre Paul Riquet، مقابل هذا الإنجاز الهندسي الهائل، أرفع أكف الضراعة لله عز وجل ليرزق المغرب بسلالة من طينة Paul Riquet، للقيام بثورة هندسية في الأوراش الكبرى mega projets، من قبيل إنجاز قنوات مائية بالمغرب، ليس للتنزه والسياحة( ولو أن هذا حق مشروع)، بل بالأساس لجلب الماء من سواحل المحيط الأطلسي والبحر المتوسط ( بعد تحلية مياه البحر) أو من محطات تدوير المياه العادمة، لإرواء واحات المغرب الشرقي وإنقاذ أزيد من 4 ملايين نخلة من التلف والزوال، وبالتالي إنقاذ 15% من تراب المغرب من القتل الرمزي وإنقاذ 2 مليون مغربي يقطن بهذه الواحات منذ آلاف السنين.