جرت العادة في كل أشكال التنافس الشريف ومجالاته أن يكون هناك منتصر ومنهزم، وخاصة في المجال السياسي، حيث يكون التعادل مرفوضاً، مادامت الكفة ملزمةً من تلقاء ذاتها بالميل بشكل او بآخر إلى طرف من أطراف العراك السياسي، بغض النظر عن اضطرار الفائز لكي يتحقق فوزه أن يتحالف مع الغير، ولو كان ذلك الغير هو الشيطان بدناءته وسوء قدره!!
بيد أن الواقع علّمنا أنه في ساحات العراك والتنافس تظهر بين الحين والآخر، وبين التجربة والأخرى، نفوس عليلة يمكن ان تعرف كيف تتعامل مع انتصارتها، مهما كانت صحيحة أو مفبركة، ولكنها لا تجد القدرة على التعامل مع هزائمها، ولذلك يراها المتتبعون وهي في أسوأ أحوالها، تملأ الدنيا ضجيجاً وزعيقاً وتخرق كل القواعد والأعراف، وفي مقدمتها قاعدة التنافس الشريف، الذي يصبح شرفُه والحالة هذه مُفترَى عليه، ويصبح بالتالي أشبه ب"العَكار على الخنونة" كما يقول المثل المغربي الشعبي الساخر!!
مناسبة الخوض في هذه المفارقة البسيكولوجية والسلوكية، ما فعله الفرنسيون المنتمون لخندق ماكرون ومَن معه، حين خروجهم بالأمس، بمجرد الإعلان عن نتائج الدورة الأولى للاستحقاقات التشريعية السابقة لأوانها، والتي شكلت ضربة قوية فوق يافوخ ماكرون بالذات، علماً بأنه هو الذي اختار أن يغامر بمستقبله ومستقبل بلده المهزوز والمتذبذب أساساً بسبب سياستَيْه الداخلية والخارجية البالغتين أقصى درجات السوء والرداءة، سواء على الصعيد الأوروبي، أو على المستوى الإفريقي أو العالمي، حتى أن المتتبعين والملاحظين تعِبوا من محاولاتهم التمييز بين فرنسا/الجمهورية الخامسة، كما يعرفها الجميع، وفرنسا العاجزة عن الاحتفاظ بهذا التوصيف السياسي، والموشكة بفضل حماقات ماكرون على قتل خامسيتها تلك، والارتماء في أحضان شيء آخر لا شكلَ له ولا وجهَ ولا قسمات!!
كنتٌ أقول، إن حزب ماكرون ومُناصروه، بعد أن لم يحصلوا سوى على ثلثي ما حققه تحالف اليمين المتطرف، بحوالي نسبة 20 إلى 30, أو ما شابه، خرجوا إلى الشارع العام في مظاهرات صاخبة كسروا فيها، وأحرقوا، وتدافعوا بشكل مستفز مع قوات السلطة العمومية، التي مازالوا هم المشرفين عليها إلى غاية ظهور نتائج الدورة الثانية بعد حوالي أسبوع، فقدّموا بذلك الدليل على أنهم ليسوا أحسن فهماً وسلوكاً وخُلُقاً من اليمين الموسوم بتطرفه المفرط، الذي لم يجدوا ما يعيبونه عليه سوى انتصاره الصغير عليهم، ولكنه انتصار مُدَوٍّ بكل تأكيد، وكل ذلك لا لشيء، سوى لأنهم لا يعرفون، كما سبقت الإشارة، كيف يكونون منهزمين راشدين، وراسبين متّزنين قادرين على فلسفة رسوبهم ليصنعوا منه نجاحات أخرى قد تتحقق لهم في أمداء ربما يكتشفون أنها أقصر مما كانوا يتوقعون.
غير أنه لكي تتكرس هذه المعادلة السهلة الممتنعة بين أيديهم وفي صفوفهم، كان عليهم أن يتعلّموا كيف يحوّلون الهزائم إلى دروس وعِبَرٍ، وإلى وسيلة لإغناء التجربةِ، ومِن ثَمَّ إلى انتصارات لاحقة قد لا تكون منظورة في المدى القريب، ولكنها تكون آتيةً لا محالة.
هذه فعلاً، هي الدروس التي ينبغي لكل متنافس في أي مجال من المجالات أن يستوعبها ويجعل منها حلقة يعلّقها في حلمة أذنه، لولا أن فرنسا ماكرون صارت، بعد انقضاء عُهدته الأولى وانطلاق عهدته الثانية والراهنة، أكثر كسلاً وتبلّدا مما كانت عليه في عهد سابقَيْه هولاند وساركوزي، اللذان كان لهما شرف إعطاء الانطلاقة لهذا التدحرج المُريعِ والسريع نحو الأعماق!!
خلاصته، أن ينسحب المرء من التنافس والعراك في شرف، أفضل وأليق من الإصرار على المشاركة وهو يحمل في جيناته مكوّنات الهزيمة ومسبِّباتها، ثم لا يجد حرجاً بعد انهزامه في إقامة الدنيا دون إقعادها، فيعبر والحالة هذه عن عجزه وقلة حيلته، وعن فقدانه لشروط المشاركة الشريفة في أي تَدافُع مهما كانت ساحاتُه!!
لا يأخذْكم العجب والدهشة يا حضرات... إنها فرنسا ماكرون، التي تشبهه في عنجهيته الفارغة إلى حد التماثُل والتطابق... ومن أراد الدليل على حصافة هذا الحكم، فليَنظرْ ملياً إلى أحوال ابنتها البارة عند حدودنا الشرقية!!!