الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: الكلام المباح

عبد الرفيع حمضي: الكلام المباح عبد الرفيع حمضي
حتى قبل انتشار وشيوع مواقع التواصل الاجتماعي، والانتقال من العيش في الواقع إلى الحلم في العالم الافتراضي، كان المغاربة دائما من الشعوب السهلة الولوج، والتي تحب التعارف والحكي بسرعة وبدون تحفظ بعد السلام عليكم والرد بمثلها  فقط. فيكفي أن تلتقي مع شخص بالقطار ويبادرك بالحديث الذي ينطلق من حالة الطقس وقلة الأمطار وغلاء المعيشة والزيادة في البوطا  ليعرج  إلى الاسرة ومدونتها، والأبناء وامتحاناتهم . وإذا كانت الرحلة طويلة  والوجهة المقصودة مدينة بالهامش وليست (مسلمين الرباط ) فالضيافة بالمنزل لا مفر منها. ويزداد هذا الطبع تضخيما بخاصية نتقاسمها جميعا  إلا من رحم ربك وهي الكلام بصوت مرتفع في الأماكن العامة. فإن ساقتك ظروفك لمكان عام مقهى-مطعم- سينما -مسرح  قطار محكمة سجن إدارة، وحتى مستشفى، وكان بجانبك مجموعة من الأشخاص فسوف يسمعونك بدون إرادتك وبضجيج مفتعل حكايات وحكايات عن بايدن –وتبون – وثمن الدلاح. وزوجة المدير ليتفرق الجميع على أخبار غزة ولعنة الساسة والسياسيين والناس أجمعين كما علمنا أحمد بوكماخ في الكتاب المدرسي بالابتدائي وهو يروي لنا قصة الحلاق الثرثار .
وقد حاولت البحث لفهم الموضوع لكنني لم أتوفق في الحصول على قراءة مقنعة منسجمة تدمج التحليل الاجتماعي والأنثروبولوجي والسيكولوجي للظاهرة، باستثناء أن الأمر يعود في جزء منه إلى شيوع سلوك أهل البادية المغربية حيث  الثقة بين الناس هي أصل كل علاقة مما  يسهل التواصل بين أفراد العشيرة الواحدة  وبالتالي فرغم الانتقال إلى المدينة بحجمها وتعددها فالكثير من المغاربة حافظوا على طابعهم القروي . كما أن الصوت المرتفع يمنح لصاحبه شعور بالقوة وامتلاك الحقيقة ويقطع عليه خيط التفكير المزعج.
ومن ذلك صورة الأب وهو يخاطب أبناءه أو المعلم وهويأمر تلامذته.
فهؤلاء المغاربة هم نفسهم عندما ينضمون داخل مؤسسات رسمية وتلبسهم ويلبسونها سواء كانت وزارات-إدارات عمومية أو مدنية أحزاب ونقابة وجمعيات .إلا ويمسكون عن الكلام والحديث مع عموم الناس، ويتحول حديثهم إلى مبتغى بعيد المنال سواء مع زبناءهم أو مرتفقيهم أو حتى من انتخبوهم ويستمدون السلطة منهم. وهذا الأمر كان من الممكن أن تجد له مبررا، يوم كان امتلاك المعلومة سلطة لمالكها حيث كانت مفقودة أصلا ولا يصل إليها إلا المقربون. 
أما في زمن لم يعد فيها رئيس أكبر دولة في العالم  يملك من المعلومات أكثر ما يملكه عامة الناس إلا بأقل من 10%  فالأمر فيه نظر .
ولهذا فالمغرب، الذي يتحرك الآن بقوة في اتجاه المستقبل بتطوير بنياته التحتية في كل المجالات مع تجويد ترسانته التشريعية والقانونية والدستورية والمقبل على محطات أساسية تلوح في أفق 2030 أصبح لزاما على مؤسساته الإدارية بكل أنواعها ومقاولاته العمومية والخاصة وهيئاته المدنية والسياسية والنقابية الانتقال النهائي إلى الضفة الأخرى. ضفة التواصل المهني والمؤسساتي عوض الانغماس في التردد والحيطة والحذر. مما يفقد للتواصل كمهنة وعلم وفن وذوق أي معنى .
مناسبة هذا الكلام ما حدث يوم الإثنين 27 ماي 2024 على متن رحلة للخطوط الملكية المغربية المتوجهة إلى واشنطن. كل الأشياء والترتيبات كانت في مستوى مهني رفيع التسجيل – الجمارك – الشرطة – الانتظار –الاستقبال -التوقيت- انطلقت الطائرة البوينج 787 الضخمة والتي يطلق عليها Dreamliner حمولتها تصل إلى 330 راكب اقتنت عددا منها الخطوط الملكية المغربية.
بعد ساعة من الطيران فوق بحر الظلمات أعلن ربان الطائرة بصوت منخفت  وباقتضاب العودة إلى مطار الاقلاع بعد اكتشافه لاحتمال عطب تقني.
كان واقفا بجانبي أحد طاقم الطائرة فارتبك لسماعه إعلان الربان . ساد صمت رهيب داخل المركبة والجميع ينتظر نداء توضيحيا من القائد وهو يحاول أن يدير ظهر الطائرة للمحيط الأطلسي. طال الانتظار ولكم أن تتخيلوا وحدة قياس  الدقيقة والثانية في هذه اللحظات. طاقم الخدمات والركاب في نفس مستوى المعلومة.
ما إن حطت الطائرة بمطار محمد الخامس في مكان معزول ترقبا لكل الاحتمالات وما أن شاهد الركاب حجم سيارات الوقاية المدنية وهي تطلق أضواءها حتى تجمع الركاب وخاصة الأجانب وهم يعبرون عن استيائهم لسكوت المقابر لربان الطائرة اتجاههم واتجاه طاقمه. 
لايمكن لأحد أن يشكك في القدرات التقنية للربابنة المغاربة لكن سوء تدبير لحظات الأزمة وغياب التواصل ليسا أقل أهمية من الخبرة التقنية، فإمساك المعلومة وعدم تقديمها في حينها وبطريقة مهنية يمكن أن يترتب عليها ردود فعل قد تعيق عملية حل الأزمة نفسها .
كم كنت أتمنى ان أقول لكم أن ماوقع هو حدث عرضي لكن مع الأسف الأمر يتعلق بمعطى جيني لا بد من تجاوزه. 
جميل جدا شراء الطائرات وجميل توسيع المطارات وتجديدها لكن الأجمل من هذا وذاك هو  تقدير واحترام ذكاء الزبناء الذين يثقون فيكم وفي منتوجكم واختاروه بإرادتهم .