الأحد 24 نوفمبر 2024
فن وثقافة

عاشق ينبش في أغنية "امْحَمَّدْ يَا وْلِيدِي" ويكشف عن شخصية "امْحَمَّدْ" الحقيقية التي أبدعت في غنائها مجموعة مسناوة

عاشق ينبش في أغنية "امْحَمَّدْ يَا وْلِيدِي" ويكشف عن شخصية "امْحَمَّدْ" الحقيقية التي أبدعت في غنائها مجموعة مسناوة يونس عاشق

إن القيمة الحقيقية للموسيقى والغناء التقليدي، تعكسها قيمة مخزون الذاكرة الشعبية المغربية التي وثّقت بمختلف أجناس الإبداع الأدبي والفني، عدة أحداث شهدتها بلادنا في فترات تاريخية وسمت بالدفاع عن الوطن بفضل شخصيات ورجالات المقاومة الذين استرخصوا أرواحهم، وقدموا الغالي والنفيس من أجل الموقف الوطني الشجاع.

في هذا السياق تقدم جريدة "أنفاس بريس" للقراء بحثا ونبشا جميلا في موروثنا الغنائي الشعبي يحسب لمجموعة مسناوة التراثية الرائدة، والمتعلق بالقطعة الغنائية الموسومة بـ "امْحَمَّدْ يَا وْلِيدِي" والذي قام به الرَّامِي والفارس يونس عاشق في سبيل أن يرسم الشخصية الحقيقية لبطل هذه القصة الواقعية التي يحفظها الشعب المغربي عن ظهر قلب، نظرا لمضمونها ومحتواها الرائع على مستوى الكلمات واللحن الجميل، والعزف المتميز، والإيقاع الأخاذ، والأصوات الغنائية الساحرة.

مجموعة مسناوة الرائدة تنتصر للأغاني الوطنية الملتزمة

تعتبر أغنية "امْحَمَّدْ يَا وْلِيدِي" من القطع الخالدة، والبداية الفعلية لمجموعة مسناوة التراثية، لتتخذ بعدها طريقة وأسلوب العزف والإيقاع والغناء فيها نمطا استمرت عليه لعدة سنوات. كان هذا العمل الفني بداية اشتغال الزجال مُحَمَّدْ بَطْمَةْ مع المجموعة التراثية الشعبية مسناوة، ليصير بعدها عرّابا لها، ومخلّدا لعدة قطع أخرى كـ "عَوْدِي لَزْرَﮜْ" وقطعة "حَمَّادْي". ورغم أن الأغنية المذكورة هي أشهر أغانيهم، فإننا نجد أن أغلب عشّاق ومحبّي مجموعة مسناوة الشعبية لا يعرفون قصتها وعمن تتحدث.

تُستهّل القطعة الغنائية بذكر شخصية "امْحَمَّدْ" على لسان أمّه، ووصف مكانته الكبيرة في القبيلة بقولها:

"خَيَمْتُو قُطْنِيَّةْ وَفْرَانُو يْشَالِي

بَلْغْتُو زِيوَانِي، تَمْشِي بِلَمْعَانِي

رُزْتُو حَيَاتِي، مَنْ عَشْرِينْ قَالَةْ

وَكَانْ امْحَمَّدْ قَايَدْ لَعْزَارْةْ

وَكَانْ امْحَمَّدْ مْحَارَبْ النّْصَارَى

وَرَاهْ شَادْ الشَّمْعَةْ بِنْهَارْ فِالرْجَالْ يَخْتَارْ"

ثم تنطلق الأم بعد ذلك، في نعيه ووصف خراب بيته، وذكر إشاعة موته بقولها:

فَكَّرْ يْدِيرْ مْزِيَّةْ، رَجْعَاتْلُو بِالْكِيَّةْ

امْحَمَّدْ ﮜَالُو مَاتْ

لَقْبَايَلْ ﮜَاعْ تْجَمْعَاتْ

وَعْلَى نْبِينَا صَلَّاتْ

وَاشْ دَارْ امْحَمَّدْ حْتَى يْمُوتْ مَغْدُورْ

خَيْمْتُو مَهْدُومَةْ وَجْمَالُو تحَنَّنْ

تَابْعَاهْ نَّوَّحْ وَاللهْ لَا عْـﮜَبْتِي

بعد ذلك تبدأ المجموعة بتغيير المقام الموسيقي والإيقاع، كانفراج في الأزمة، ونفي خبر الموت، وطمأنة الأم على لسان "امْحَمَّدْ" برجوعه في يوم من الأيام ومعه "حَايْكْ" نسجته ابنة شيخ القبيلة التي هرب إليها.

إلى هنا نشاهد مشهدا سرياليا لمقاوم ذو مكانة عالية في قومه، أراد التخلّص من قبضة المستعمر، فهدم بيته، وانتشر خبر موته بين القبائل. لكن هل تعلمون أن هذه القصة واقعية؟ وتجسد فعلا شخصية أحد أبرز المقاومين المغاربة؟ والذي كان اسمه أيضا "امْحَمَّدْ؟

 

من يكون "امْحَمَّدْ" وما قصته الحقيقية؟

بطل القصة يدعى "امْحَمَّدْ بَنْ الْمَعْطِي التْرِيعِي" ولد سنة 1856ميلادية، بِدُوَّارْ أَوْلَادْ بُومُغْزَلْ بِفَخْذَةْ التْرِيعَاتْ ـ نقطة توجد قصبته المشهورة ـ وهي تحديدا إحدى الْفَخَذَاتْ المكونة لقبيلة الحوزية الواقعة جنوب مدينة أزمور.

 

السلطان الحسن الأول يقلد امْحَمَّدْ بَنْ الْمَعْطِي التْرِيعِي مهام قائد

تقلّد امْحَمَّدْ بَنْ الْمَعْطِي التْرِيعِي القيّادة بقرار من السلطان المولى الحسن الأول، خلفا لأخيه على قبيلة الحوزية. وبعد احتلال فرنسا للدار البيضاء سنة 1907، أراد المستعمر تأمين الطريق الرّابطة بين الدار البيضاء وبين الجديدة، وعلى إثر ذلك، استمالت أعيان قبيلة الشياظمة ـ الشياظمة نواحي البير الجديد وليست قبيلة الشياظمة المعروفة جنوب آسفي - وكان على رأسهم القايد بُوشْعَيْبْ بَنْ التْهَامِي الَمْعِيزِي، حيث أعلنوا الولاء لفرنسا وأعلنوا خضوعهم لها في شخص الجنرال "داماد DAmade ".

 

لهذا السبب هاجمت فرنسا مدينة أزمور

في هذا السياق، هاجم القائد امحمد المعطي التريعي بمعية باشا الجديدة وقائد محلة السلطان عبد الحفيظ قبيلة الشياظمة، حيث قتل على إثر هذا الهجوم قائدها بوشعيب بن التهامي. وبناء عليه قامت فرنسا بمهاجمة مدينة أزمور، التي كانت بداخلها قوات القائد امْحَمَّدْ التْرِيعِي والْمَحْلَّة الحفيظية. وحقنا لدماء المدنيين ومخافة أن تدك فرنسا البيوت فوق رؤوس أهلها بمدافع البوارج الحربية، قرر امْحَمَّدْ التْرِيعِي أن يغادر المدينة نحو قصبته بـ "التْرِيعَاتْ".

ورغم استعادته لمدينة أزمور من أيدي قوات الاحتلال فيما بعد بمعية القائد بُوشْعَيْبَ بَنْ دَغَّةْ، فإن الأوضاع لم تسمح له بالمكوث بقواته بها، وعلى إثر اعتراف القوات الفرنسية بالسلطان عبد الحفيظ كسلطان للمغرب، والتزامه لها بعدة التزامات، قام المخزن المغربي بمضايقة القائد امْحَمَّدْ التْرِيعِي، وأمره بالالتزام بالأوامر، وعدم مضايقة القوات الفرنسية.

 

القوات الاستعمارية الفرنسية تطارد القائد امحمد التريعي

بعدما أصبح التْرِيعِي مهدّدا من قبل فرنسا، وغير محمي من قبل المخزن المغربي، بدأ بالبحث عن حماية أجنبية، فبعد رفض ألمانيا حمايته بموجب اتفاقيات لها مع فرنسا، أصبح محميا من قبل إسبانيا. وبناء على بعض البنود في معاهدة الحماية سنة 1912، أقدم المخزن على عزل القائد امْحَمَّدْ التْرِيعِي من القيادة، ومتابعته كمجرم حرب بداية من شهر غشت من العام 1912، وتزامنا مع بداية حملة الجنرال شارل مانجان العسكرية التي سيقوم بها في دكالة المعادية للقوات الفرنسية، حيث كانت من بين المهام التي أسندت إلى الجنرال Charles Mangin، القبض على امْحَمَّدْ التْرِيعِي، وكانت من بين التّهم التي أتهم بها: "الشطط في استعمال السلطة، والتمرد ضد المخزن، والنهب والسرقة.."، ولما علم بمؤامرة استدعاءه رفقة أعيان المنطقة لاستقبال الجنرال مانجان ومن ثم القبض عليه، رفض الإستدعاء، ولجأ إلى بيت أحد أصدقاءه بمدينة الجديدة.

 

خطة الإفلات من قبضة المستعمر الفرنسي

بعد أيام حاصرت القوات الفرنسية بيت صديقه مطالبة إياه بتسليم نفسه، لكن تدخل القنصل الإسباني حال دون اقتحام الجنود، على اعتبار أن القائد التْرِيعِي محميا من دولة إسبانيا، وفي خضم المشادات الكلامية بين القنصل الإسباني وبين القوات الفرنسية، تسللت بعض العناصر الموالية للقائد التْرِيعِي إلى البيت وبدأوا بإطلاق النار على القوات الفرنسية، مما نتج عنه اضطراب كبير في الحي الذي يوجد فيه البيت المذكور، مما سهل على التْرِيعِي التسلل والهروب خارج المدينة، بعد تمكنه من قتل بعض من رجال القوات الفرنسية ومقدم أثناء مطاردتهم له.

 

الجنرال مانجان Charles Mangin يشرف على هدم قصبة التْرِيعِي

وفي اليوم التالي، أشرف الجنرال مانجان Charles Mangin هدم قصبة امْحَمَّدْ التْرِيعِي لسدّ الباب عليه إن فكّر بالعودة إليها والإحتماء بها. وبعد الإحتماء جنوب الجديدة بقبيلة أَوْلَادْ بُوعْزِيزْ ببيت أحد أصدقاءه الذي يدعى "وَلْدْ بْرَيْكَةْ"، هرب إلى قبيلة الرحامنة، ومن تمت إلى الأطلس المتوسط، حيث التحق بقوات القائد مُوحَا وَسْعِيدْ، واستأنف مقاومة وقتال القوات الفرنسية من جديد، ولم يعرف مصيره بعد ذلك إلى يومنا هذا.