في أغلب مقالاتنا بجريدة "أنفاس بريس" ومتابعتنا لفن التبوريدة وفن العيطة عبر ربوع الوطن، كنا نؤكد على أن "التبوريدة توأم العيطة" وأن هناك رباط وثيق يجمع بين كنوزهما التاريخية، ولا يمكن تجاوزه بحكم ولادتهما من رحم حضارتنا وموروثنا الثقافي الشعبي الضارب بجدوره في عمق التاريخ المغربي، كيف لا وأن طقوس لباس وزينة المرأة الأمازيغية استلهم منه فرسان المغرب زينة خيولهم وجيادهم البهية والجميلة.
لنقف وقفة التشبيه ونتساءل عن كيفية وضع حلي المرأة المغربية من الرأس إلى القدمين، وعن أزيائها ولباسها التقليدي، ألا يشبه زينة الفرس والجواد أثناء تَسَنِيحِهِ، وتجهيزه وامتطاء صهوته؟ ألا تتقاسم قلادة الفرس قلادة المرأة وهي تزين جيدها وعنقها؟ ألا يشبه حزام المرأة حزام الفرس والحصان وهو يستعد بكل نخوة لدك محرك التبوريدة بسنابكه وحوافره؟
ومن المعلوم أن الفرسان ومربوا الخيل يحتفلون بأفراسهم وبمولودها وقالوا فيها قولا مأثورا كثيرا منه "عليكم بإناث الخيل فإن في ظهورها عز وبطونها كنز". وقولهم: "ثلاثة أنواع من الخدمة لا تغيب عن المرء، خدمته لبيته، وخدمته لفرسه، وخدمته لضيفه". لذلك فقد ظّلت الخيل مرتبطة بمعاني "الكرم والمروءة والشجاعة والوفاء والقوة، حيث على صهواتها تحقق العدل والأمن والأمان والاستقرار"
وعلاقة بهذا الموروث الثقافي الشعبي وفي سياق حلقات "عْيُوطْ وَمْكَاحَلْ" الذي قدمته القناة الأولى خلال شهر رمضان والذي حاول الخروج من نمطيته، في أفق فتح نقاش عمومي، رزين وموضوعي حول ثقافة ركوب الخيل، تقدم لكم جريدة "أنفاس بريس" عصارة الحوار الذي قام به الفنان عاجل مع الشيخ فرحان حجيب.
ـ السؤال الذي أطر به الفنان عاجل حواره مع الفنان حجيب تمحور حول ماهية مكانة الخيل عند المغاربة وما هي علاقة إيقاع سنابك الخيل بفن العيطة؟
أوضح حجيب في البداية بأن كل من يعرف الخيل وله علاقة بها، يصف هذه المكانة والعلاقة بمفهوم الخير، بل أن الدّار / البيت أو "الْخَيْمَةْ" التي يوجد فيها الخيل يوجد فيها الخير. بمعنى حسب رأينا أن "الدّار" لا تنقصها "الْبَرَكَةْ"، انطلاقا مما ذكر عن الخيل في الأحاديث النبوية التي تحت على إكرامها وعدم إذلالها وإطعامها والإعتناء بتربيتها: "من ارتبط فرسا في سبيل الله ثم عالج علفه فله بكل حبة حسينة" ـ حديث ـ
وعن الإحساس بين الإنسان والحصان، قال: لا يدرك ذلك سوى "مُولْ الْعَوْدْ" بمعنى أن علاقة الفارس بحصانه فهي علاقة ربانية، (ليس لدينا فيها أي تحليل ولا تفسير(. حسب قوله. وأضاف موضحا بأن "الله خلق علاقة حُب غريبة بين الفارس وجواده" لذلك فالفارس مالك الحصان هو الوحيد الذي يفهم لغة الخيل حين تجوع وتريد أن تأكل، أو حين تعطش وتريد الماء، أو إن أرادت أن تتمشى وتركض وتلهو وتلعب، وكذلك حين يتكلم الفارس مع حصانه يفهمه ويستوعب إشارته. واستطرد موضحا بقوله: نحن كشيوخ الغناء والموسيقى التقليدية لا تربطنا بالخيل سوى فن العيطة وعناوينها، والأغاني الشعبية ذات الصلة، والتي تتغنى بسنابك الخيل ولعلعة البارود، ووصف جمال الخيول وألوانها وصفاتها وشجاعتها وعلاقتها بالفارس والمقدم/العلام.
لكن في الحقيقة هناك شيوخ يتقنون فن العيطة، (هذا رأي المحرر (وفي نفس الوقت هم ممارسين لفن التبوريدة "رْكُوبْ الْخَيْلْ" وينتمون لـ "سَرْبَاتْ" التبوريدة، بمعنى أنهم يجمعون بين طقوس وعادات فن التبوريدة وبين العزف والإيقاع والغناء. والأمثلة عديدة ويمكن الاقتصار هنا والآن على اسم واحد كنموذج وهو الشيخ حسن السرغيني الملقب بـ "مُولْ الْعَوْدْ" وهو بالمناسبة عضو ضمن علفة المقدم شرف البحراوي من منطقة أسفي "مُولْ الْبَرْﮜِي" والذي تتلمذ على يد مجموعة أولاد بنعكيدة والشيخة الطباعة المرحومة فاطنة بنت الحسين.
أما بخصوص علاقة العيطة بالتبوريدة، يقول حجيب، بأن العيطة نظمت وتم تركيبها على صهوة الخيول، بل يمكن القول أن العيطة قد تأسست انطلاقا من إيقاع حافر الحصان "ورجله" التي اعتمد على قالبها لصناعة آلة "الطَّعْرِيجَةْ" على شكل قدم الحصان وحافره. وأضاف بأن رقصات الخيول وهي تتمايل وتختال في مشيتها عند ساعة صفر الانطلاقة وسط المحرك، قد ساهمت في تحديد هياكل إيقاع العيطة، رغم صعوبتها المركبة والمعقدة.
ويصف ذلك عند انطلاقة العلفة بقيادة علام الخيل، بداية من "رَاسْ الْمَحْرَكْ" حيث تتحرك معها مشاعر الجمهور بمجرد سماع نواقيس موسيقى إيقاع حوافر الخيل وما يصاحبها من رنين تحدثه أجزاء "عَدَّةْ" الرْكُوبْ، التي تسحر العقول والألباب، والتي يشبهها مثل سنفونية روحية على إيقاع صوفي، تعزفها سنابك الخيل وولع الفرسان "الَبَّارْدِيَّةْ" بالإحتكاك بين السروج المرصعة بالجداول الحريرية، والرْكَابَاتْ التي تحتك أيضا مع كل ما هو معدني يزين لجام الحصان ومستلزمات الزينة.
وأثناء المرور للدرجة الموالية من سرعة ركض الخيول بأمر من علام السّربة عن طريق "النَّدْهَةْ" يتغير الإيقاع الموسيقي ويشتد رنين الميزان الطربي دون آلات موسيقية وإيقاعية باستثناء صوت "الحافر" وصوت المعادن التي تزين سلاح الجواد. وهكذا ينخرط الجمهور العاشق لتراثه ويتحول إلى مشارك في تأليف القطعة الموسيقية بالهتافات والصلاة على النبي، والزغاريد ولعلعة البارود على "ﮜْصَاصْ" الخيل أو في عنان السماء أو في اتجاه الأرض حسب خصوصية "الْعَلْفَةْ" وانتمائها للطريقة التي ينتسب إليها المقدم والفرسان.
انطلاقا من هذا الوصف يدخل الفنان الشيخ حجيب في حديثه مع الفنان عاجل/المحاور في حلقة "عْيُوطْ وْمْكَاحَلْ" إلى تشبيه علام الخيل بالشيخة "الطَّبَّاعَةْ" التي تقود رباعة الشيخ الكمنجي قائد المجموعة الموسيقية، بحيث أنها هي المسؤولة عن "طَبْعْ" القطعة الغنائية المختارة من نصوص فن العيطة، وبعد المرور من سرد شذرات غناء العيطة و "الْبَرَاوِيلْ" المصاحبة، يتم الانتقال إلى خاتمة الغناء بسرعة الإيقاع الذي يشبه فعلا إيقاع سنابك الخيل في الرّكض، وترفع الشيخات آلاتهن الإيقاعية "الطْعَارَجْ" فوق رؤوسهن وكأنهن يتشبّهن بالفرسان أثناء رفع "لَمْكَاحَلْ" إلى عنان السماء، وفي هذه اللحظة تكون طلقة البارود، ويحدث معها أيضا "قُفْلّْ العيطة "الطَّمَّةْ" حيث تختم الشيخة بقولها: "هَذِي سَاعَةْ مْبَّارْكَةْ فَاشْ تْلَاقِينَا".
في سياق متصل استحضر الشيخ حجيب في حديثه عن الذاكرة الشعبية، طقس فني تراثي قديم ينتمي إلى جيل صُنّاع الفرجة، حيث كانت تقوم به رْبَاعَةْ الشْيُوخْ والشِّيخَاتْ قبل اختراع الراديو والتلفزيون ويتعلق الأمر بمفهوم "الْغَيْبَةْ" التي كانت تعتبر سفرا ورحلة فنية وخصوصا خلال فصل الصيف، تتجول من خلاله المجموعات الغنائية بمختلف أنماطها عبر ربوع البادية المغربية وهوامش بعض المدن والحواضر مثل مجموعات (عيساوة أو حمادشة أو ﮜناوة أو فن الحلقة أو مجموعات الشيخات أو عبيدات الرمى.. (
كانت رباعة الشيخات برآسة شيخ العيطة الكمنجي يغيبون في رحلة فنية قد تطول عدة أيام وأسابيع وشهور، متنقلين من قبيلة إلى أخرى ومن دوار لآخر، وكان السفر يتم على متن عربة مجرورة بدابة قد تكون "بَغْلا" أو "حمارا" أو "حصانا" أو "فرسا"، ولتجاوز عناء الطريق ينطلق الإبداع الفني التلقائي من خلال الاستئناس بإيقاع مشية الدابة التي تجر العربة، وتنسج عليه شذرات شعرية وليدة الرحلة تصف طريق السفر، وكل ما يتعلق بمشاكل الحياة والإنسان وأفراحه وأحزانه، ومن مدح وأذكار، واستلهام جمال الطبيعة.
لإقناع المحاور في حلقة "عْيُوطْ وُمْكَاحَلْ" تطرق الشيخ حجيب لمختبر المنسج الذي أبدعت فيه المرأة القروية أجمل الأغاني على إيقاع ضربات "الْمُشْطْ" وهي تحيك أروع النسيج من منتوج الزربية والحيك والجلباب والبرنس، وكيف استطاعت أن تؤلف أجمل أغاني "الْبَلْدِي الْـﮜْبُورِي" مثل النمط الغنائي النسائي بمناطق دكالة والشياظمة وعبدة وأحمر والرحامنة.
وأكد الفنان حجيب على أن جميع العيوط المغربية بكل أصنافها وأنماطها، سواء كانت عيطة عبدية أو بيضاوية أو حوزية أو زعرية، فقد تضمنت نصوصها الشعرية، وتطرقت في غنائها إلى الخيل، بل أن هناك نصوصا عَيْطِيَّةْ مطلع عنوانها الكبير هو الخيل، وتَسْتَهِلُّ غنائها عن الخيول والفرسان مثل عيوط "تْكَبَّتْ الْخَيْلْ" أو "مَّالِينْ الْخَيْلْ" أو "رْكُوبْ الْخَيْلْ" حيث يستحضر هنا مكانة مقدم العلفة بقول: "تْكَبَّتْ الْخَيْلْ عْلَى الْخَيْلْ آآآآ وْدِيرُوا شْرِيفِي عَلَّامْ".
إن مكانة وقيمة الخيل في الثقافة الشعبية المغربية، ومحبتها الكبيرة لدى الشعب المغربي عامة وفرسان التبوريدة خاصة، جعلت الشيخ حجيب يستحضر "شذرة" من غناء العيطة الشعبية تتأسف على ما وصلت إليه الخيول من إدلال في بعض الأحيان، حيث أنشد قائلا: "وَبَابَا الْعَوْدْ الِّلي كَانْ عَلَّامْ... تَّالَاتْ بِيهْ لِيَّامْ ..آآآ وَلَّا فِي الْكَرُّوصَةْ خَدَّامْ".
كيف لا يمكن أن تجد مفهوم وصفة الخيل وجمالها وعزتها وشجاعتها حاضرة في الثقافة الشعبية المغربية، وهي التي تجمع الناس حولها في مناسبات الأفراح، وأعراس الختان والزواج، وأثناء عرس ختم القرآن وفي المواسم والحفلات والأعياد الوطنية، والمهرجانات الثقافية والتراثية، بل أن الخيل لها ارتباط وثيق بالبيعة السلطانية منذ القدم إلى اليوم.
في سياق التشبيه الجميل لطلعة وأناقة ووقفة الشيخة الطَّبَّاعَةْ الصْنَيْعِيَّةْ ولْمْعَلْمَةْ، بطلعة وبهاء ووقفة حصان التبوريدة وسط محرك الخيل والخير، استحضر الشيخ حجيب أيقونة فن العيطة الشيخة فاطنة بنت الحسين والشيخة الحامونية والشيخة الغالية...خلال وقفتهن مثل أشجار النخيل "لَمْجَرْدَةْ"، وشدو أصواتهن التي تشبه صهيل الخيل. "عَايْشَةْ وَخَدُّوجْ. هُمَا بْجُوجْ بْحَالْ الْخَيْلَ بِالسْرُوجْ".
ومن أجمل ما أورد الفنان حجيب في حوار "عْيُوطْ وُمْكَاحَلْ" الذي فتح من خلاله الفنان عاجل النقاش الحقيقي في موضوع علاقة العيطة بالتبوريدة، حديثه عن تكاليف "عَوْدْ التْبَوْرِيدَةْ" على مستوى العناية والرعاية والاهتمام بإقامته ومأكله ومشربه وصحته، ومستلزمات زينته ذات الصلة بفنون الصناعة التقليدية من "عَدَّةْ" بما فيها خيمة العلام المفتوحة على مصراعيها في وجه الوفود والزوار وضيوف القبيلة، إلى السروج، والألبسة التقليدية المختلفة الأنماط والخصوصيات، والمكاحل، ودلائل الخيرات، والخناجر وسيوف، وصولا إلى يوم التباهي بالخيل في محرك التبوريدة، والتي تكلف الشيء الكثير من المصاريف التي لا تعد ولا تحصى.
ثقافة الخيل الراسخة بين كل فئات الشعب المغربي على مستوى التبوريدة ـ حسب الشيخ حجيب ـ لا يقبل جمهورها الشغوف بموروثها الثقافي والعالم بأسرارها، الإنتقادات السلبية التي يوجهها البعض لـ "مْوَالِينْ الْخَيْلْ" خلال إقامة مواسمها الفرجوية على اعتبار أن "الْبَارُودْ تِيسِيرْ مِنَ اللهْ" ـ كما يقول الْحَبْحَابَةْ ـ في هذا السياق يحكي بقوله: "كانت سربات الخيل تقدم عروضها الفرجوية للجمهور، وكان أحد الأشخاص كلما اختلت موازين طلقات البارود يردد قائلا: "خَسْرُوهَا ثم يضرب كفّا على كفّ" مما دفع أحد العارفين بثقافة الخيل للتصدي لهذا المتطفل على فرجة التبوريدة حيث قال له: "تعالى يا وليدي إلى هنا واسمع جيدا، لا تتكلف بعلفه ولا مشربه ولا زينته تكلف فقط بتلجيمه أثناء تغيير صفائحه".
وعن جمال الخيول التي ذكرها الله في الكتاب المبين، كأحسن مخلوق على وجه الأرض، أكد الفنان حجيب أن مواصفات وصفات أصالتها وجمالها لا يختلف حوله المغاربة قاطبة، لكن ارتقاء درجات جمالها أمام الناظرين لا يكتمل إلا بشرط زينتها حينما يتم وضع السروج المرصعة بالصّم والحرير، على صهواتها وما يرافقها من مستلزمات التبوريدة التي أبدع فيها الصانع والحرفي المغربي، في علاقة بشرط بهاء وزينة فرسان السربة رفقة علام الخيل قائد كتيبة الفرحة وصناعة الفرجة. ولم يجد الشيخ حجيب من شذرة تبصم على حديثه إلا "قُفْلْ" العيطة الذي يقول: "الْعَدَّةْ وُالسْرَاتَةْ وَأيَّامْ الْخَيْلْ /الْخَيْرْ جَاتْ".
ولم يفت فرحان حجيب أن يتحدث في حوار "عْيُوطْ وَمْكَاحَلْ" عن إرث ركوب الخيل أبا عن جد، والذي يرث معه الفرسان/ الأحفاد مفهوم الكرم والجود والنخوة والإيثار والشهامة ونبل الأخلاق، ودلل على قوله بمفهوم الخيمة/لوثاق المفتوح في وجه جميع الزوار والضيوف وعشاق فن التبوريدة. لذلك يؤكد ضيف الفنان عاجل على أنه ليس من السهل أن تكسب حصانا وتكون مربيا للخيل، وليس من السهل أن تكون فارسا مغوارا في محرك الخيل والخير والبارود.
وختم حواره بالحديث عن خشونة غناء فن العيطة قديما حيث أوضح الفنان حجيب بأن مجموعات عبيدات الرمى كانت هي السباقة للغناء، والعزف، على الآلات النفخية والوترية وميازين المقص والطبل البلدي والطعرجية، وأيضا هم من كانوا يقومون بالرقص الموسوم بالدلالات والرموز سواء الرقصات الحربية أو رقصة الحصادة أو الصيدة أو رقصات أخرى لها مدلولها الاجتماعي والثقافي والبيئي، أثناء مرافقتهم للفرسان الرماة، حيث كانوا يرتدون القفطان البلدي ويتحزمون بـ "لَمْضَمَّةْ" ويتأبطون الخناجر والسيوف، أو حمل بنادق للدلالة على الإنتماء للمّة الفرسان، في غياب الصوت النسائي يومئذ لعدة اعتبارات موضوعية وذاتية، وبعد ولوج المرأة لميدان الغناء منحت بخامة صوتها الدافئ والرّطب جمالا ساحرا إضافيا للغناء العيطي والشدو الجميل والطروب، وهي تصهل مثل الفرس الجامح. مستدلا بنظم الشجاعة والإقدام حين قال: "رْكُوبْ الْخَيْلْ يَا الْعَلَّامَةْ. اللهْ يَنْصَرْكُمْ يَا صْحَابْ سِيدِي. رَاهْ فِي مَدْيُونَةْ تْعَاهْدُوا وْلِيدَاتْ الشَّاوِيَّةْ".