الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي: المغاربة والراديو.. حذار من هذا التغول المقلق

لحسن العسبي: المغاربة والراديو.. حذار من هذا التغول المقلق لحسن العسبي
في اليوم العالمي للإذاعة (13 فبراير) مهم التوقف عند مسار تطور علاقة المغاربة بالراديو أقله على امتداد قرن من الزمان (1924/ 2024).
 
صحيح أن المغربي في علاقته بالراديو (الإذاعة) كان ابن زمنه العالمي، حيث تفاعل إيجابيا مع الإكتشاف التقني للراديو وانغمس في استهلاكه منذ العشرينات من القرن الماضي خاصة بالمدن الكبرى وببعض المناطق القروية التي تصلها موجات البث البكر حينها. مثلما أنه شكل عنوانا لتفاوت مجتمعي حيث كان التوفر على الراديو واحدا من مجالات الرقي الإجتماعي (كانت تتوفر عليه في البداية فقط العائلات الغنية بالمدن والقياد بالبوادي). على قدر ما سيشكل بابا للتأطير المجتمعي وصناعة الرأي العام منذ نهاية الثلاثينات.
 
لأنه قليل ما انتبه الدرس التاريخي بالمغرب إلى الدور الذي لعبه الراديو في بلورة التوجه القومي العروبي للمغاربة (مدنا وبوادي) من خلال محطات خارجية كبرى تتحدد في إذاعة برلين وإذاعة لندن وإذاعة القاهرة (في ما بعد ستأتي إذاعة "صوت العرب" من بر مصر)، التي كانت جميعها تصدر عن مرجعية مهنية وثقافية مشرقية بالأساس، شامية ومصرية بحكم العنصر البشري المؤهل حينها ثقافيا وتربويا للإنخراط في مجال الإذاعة. حيث كان الراديو وسيلة اختراق سياسية وثقافية وهوياتية بنزوع عروبية غير مسبوق بالعالم العربي، شكل السماع فيها أداة تربوية فاعلة ومؤثرة غيرت من منظومة وعي الفرد العربي والمغربي في علاقته مع ذاته ومع العالم.
 
مهم أيضا تذكير بعضنا البعض أن الراديو والإذاعة كان وسيلة تأطير للوعي في العالم كله، بدليل أن الوسيلة الحاسمة التي اخترقت بها النازية المجتمع الألماني ومكنت هتلر أن يصبح الزعيم الأكبر هناك، هي الراديو. فيوم تحكم هتلر بخطابته في موجات الإذاعة حكم ألمانيا بسرعة البرق وكاد يحكم العالم كله.
 
بالتالي فإن الإذاعة لعبت دورا محوريا في بلورة الوعي القومي العروبي والوعي الوطني للمغربي منذ نهاية الثلاثينات إلى حدود نهاية السبعينات. حيث أصبح الراديو رفيق الأمهات في البيوت ورفيق الآباء في أماكن العمل (الترانزيستور) ورفيق العشاق وشريحة الشباب في الحل والترحال وفي عزلة الغرف. بكل ما ولدته وسيلة التواصل العمومية تلك من تجارب إذاعية بالمغرب كانت الريادة فيها لمدن تطوان وطنجة (إذاعة درسة بتطوان وإذاعة صوت طنجة)، قبل أن تصبح الإذاعة المركزية والوطنية بالرباط وسيلة تواصل عمومية حاسمة ومؤثرة تنافس قوة حضور إذاعة لندن البي بي سي في المشهد الإذاعي الصانع للرأي العام مغربيا.
 
مع اكتشاف البارابول والفضائيات في الثمانينات، تراجع تأثير الراديو والإذاعة في المغرب بشكل صاروخي، بالتوازي مع اكتشاف تقنيات تواصل جديدة خاصة آلات التسجيل الصغيرة (الوولكمان) التي شكلت تقليعة بين جيل شباب الثمانينات والتسعينات وفرت لشرائح واسعة منهم حرية اختيار ذائقتهم الفنية الغنائية والتعبيرية، فأصيب الراديو بنوع من اليتم.
 
كثيرون أجمعوا حينها أن الراديو والإذاعة إلى زوال، قبل أن تكذب تطورات الأمور الجميع مغربيا وعالميا، حيث استعادت الإذاعة حضورها في المشهد التواصلي المغربي منذ بداية الألفية الجديدة خاصة مع منح التراخيص لتجارب إذاعية خاصة أعادت عبر مواضيعها وتخصصاتها (الرياضة، الطبخ، قضايا المحاكم، سؤال الدين، قضايا الجنس والمشاكل النفسية... إلخ)، مصالحة الفرد المغربي مع الراديو في البيوت وفي السيارات وفي الطاكسي وعبر الأنترنيت والبورتابل. إلى الحد الذي يجعل الإحصائيات تؤكد اليوم أن ما يصنع الوعي العام للفرد المغربي هو الإذاعة في المقام الأول، حيث أصبحنا نحقق نسب متابعة عالية بالمقاييس الدولية. ذلك أنه من مجموع ساكنة بالكاد تصل إلى 40 مليون نسمة فإن نسبة مستهلكي المنتوج الإذاعي بالمغرب تتجاوز 27 مليون مستمع، وهو رقم خرافي بكل المقاييس التقنية. أي أن حوالي ثلثي المغاربة (حوالي 68 %) يصنع وعيهم سلوكيا وتكوينيا وثقافيا وسياسيا المذياع (معدل المقياس العالمي هو 45 % من مجموع سكان البلد).
 
إن من المشاريع التي ملزمة المؤسسات المؤطرة للإبداع الإذاعي بالمغرب أن تشتغل عليها بالدراسة والتحليل هو واقع ما تنتجه إذاعاتنا المغربية عمومية وخاصة من خطاب إعلامي ومدى تأثيره في تضبيع أو تنوير الفرد المغربي. وهذا من مهام مؤسسة وازنة مثل "الهاكا" (الفقيرة إنتاجيا في هذا الباب للأسف) وكذا "المجلس الوطني للصحافة" (الغارق في سفاسف الأمور التدبيرية التقنية أكثر من واجب بلورته لتصور وطني لمهنة الإعلام).
 
علينا الإعتراف أن غولا على مستوى الرؤية والوعي تصنعه أمواج الإذاعات المغربية على مستوى شكل الخبر والتحليل الرياضي والخبر والتحليل الديني والوعي المجتمعي السلوكي، يؤدي إلى إنتاج انحرافات تضغط على الجانب الأمني المغربي وتثقل على كاهل المؤسسة الأمنية المغربية لأنها تخلق سلوكيات متطرفة في هذا المجال السلوكي أو ذاك تفرض عليها التدخل.
 
أخشى أن أقول بيأس إننا نلعب بالنار في مجال أمننا العمومي (سلوكيا) حين نغفل عن تأطير وتحليل ومناقشة منتوجنا الإذاعي المغربي. فالتغول طاغ وتجاهله جريمة.