يتحرك المغاربة المطرودون من الجزائر، ذهابا وإيابا، مع إحدى "الفظاعات" التي لا يمكن نسيانها. حادث غير مألوف في التاريخ يثقل كاهلهم منذ 48 سنة، حين استعمل الرئيس الجزائري الهواري بومدين الخلط والخداع من أجل الانتقام من المسيرة الخضراء، وذلك بطرد آلاف المغاربة (45 ألف أسرة مغربية)، الذين شاءت لهم لقمه العيش وضرورات الدم والجوار، أن يحولوا الجزائر إلى وطن. ولهذا، فإن شهاداتهم ليست مجرد قصص مروية تكشف «حقيقة» طغيان عصابة الجزائر وقذارة حكام قصر المرادية المضبوطة بشكل لا رجعة فيه على إيقاع الإساءة إلى المغرب. بل إنها، في العمق، نقطة ارتباط مع اختبار الإنصاف دون أي ارتهان بالقراءة السياسية لما وقع.
إن شهادات هؤلاء الضحايا تؤكد أنهم ظلوا يحتفظون بقابلية نضالية لا تشيخ لتحقيق الإنصاف من الغدر الذي غمرهم دون أي ذنب اقترفوه سوى أنهم مغاربة يعتزون بانتمائهم إلى بلادهم، وكانوا يثقون في مبدأ «الخبز والملح» الذي اقتسموه مع إخوانهم الجزائريين، وفي أن هذه البلاد التي «جاهد» بعضهم من أجل استقلالها، والبعض الآخر كان مستعدا للاقتتال من أجل كرامتها، بل سقط آخرون شهداء برصاص المستعمر الفرنسي في جبالها ووديانها، لا تقل في شيء عن أرضهم الأم التي تركوها خلفهم. هؤلاء المغاربة دقوا أوتادهم هناك، نسجوا قرابات وزيجات ومصاهرات مع الجزائريين والجزائريات، وعقدوا صداقات والتزامات، وحرثوا أراض فلاحية، واشتروا عقارات، وولجوا مدارس وجامعات، وراكموا مدخرات وثروات في المصارف الجزائرية، ولم يكن يدور في خلدهم أن الرئيس «محمد ابراهيم بوخروبة» «بومدين» الموجوع بأحقاده على المغرب وعلى الملك المرحوم الحسن الثاني، سيختار الجزء الأضعف من الحلقة ليحقق انتقام الجبناء، ظنا منه أن هذا «العار» لن يلاحقه أو يلاحق دولة العصابة كل هذه السنين.
غير أن تلك الشهادات الحارقة، مع ذلك، ليست سلسلة مترابطة تمسك بالشيء نفسه فقط ، أي الرغبة في ملاحقة الدولة الجزائرية وإرغامها على الاعتذار والتعويض عن الضرر وإعادة الممتلكات المهجورة «أو قيمتها» إلى أصحابها المغاربة المطرودين، بل إنها أيضا غابة من الجراح التي تكاد تغطي الأرض كلها، خاصة أن الضحايا يشكلون، الآن، «دياسبورا» توجد في كل مكان، في أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط. وهو ما يضع هذه الدياسبورا أمام خيار «تدويل المحبة» ومقاضاة دولة العصابة أمام المحاكم الدولية، والكشف عن وجهها الإجرامي البشع في المنتديات الحقوقية الدولية، شرقا وغربا.
وإذا كانت مرويات الضحايا المغاربة ما زالت تلهث في صدورهم، وترفض أن تتدفق في المجرى الثابت للنسيان، ولو مر ألف عام، فإن أصحابها الذين يتحركون في كل اتجاه تعبوا من أن تظل تُلقى كل هذه السنين أمام جمهور من الأشجار الموقرة، كما لو أن هذه الجريمة المكتملة الأركان التي وقعت عليهم بدون جمهور حقيقي، وليس لها مشاهدون دائمون يطالبون الدولة المغربية بتبني الملف وبالقصاص والتحرك من أجل إرجاع الحق إلى أصحابه. ذلك أن الجريمة التي ارتكبها عسكر الجزائر في الثامن من دجنبر 1975 ضد المغاربة المقيمين بشكل قانوني، ليست «جريمة عادية» قد تسقط بالتقادم، بل إنها جريمة دولة ضد دولة أخرى، وتسمى في القانون الدولي بـ «التهجير القسري»، أي «الإخلاء غير القانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها شرعا، ويندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية».
وتبعا لذلك، من المخجل أن تتحول هذه الشهادات، رغم قوتها، إلى حالة هامشية في معادلة الصراع مع الجزائر التي تستعمل كل الضربات لعرقلة المسار التنموي والوحدوي والديمقراطية التي انخرط فيه المغرب، بما فيها الجنوح إلى الإرشاء الدولي وتسليح الانفصاليين والاعتداء المباشر والترافع من أجل إظهار المغرب كدولة استبداد واحتلال وراعية للمخدرات والإرهاب والدعارة.
صحيح أن تلك الشهادات بدأت تعري الوجه الخفي والمغمور لفظاعات الطغمة العسكرية الجزائرية، لكنها لم ترق بعد إلى أن تصبح مشكلة العصر بالنسبة للدولة الجزائرية، مع أنها قضية تتوفر على كل أسباب الانتشار.
فالجريمة مسجلة ومؤرشفة ويوجد بصددها بنك معلومات، وتستند إلى وسائل إثبات من وثائق ومستندات وأشرطة وصور وشهادات مكتوبة وأخرى صوتية، وكلها تجرم الدولة الجزائرية وكل من تورط باسمها.
فالجريمة مسجلة ومؤرشفة ويوجد بصددها بنك معلومات، وتستند إلى وسائل إثبات من وثائق ومستندات وأشرطة وصور وشهادات مكتوبة وأخرى صوتية، وكلها تجرم الدولة الجزائرية وكل من تورط باسمها.
إن الضحايا، بمن فيهم «التجمع الدولي لدعم العائلات ذات الأصل المغربي المطرودة من الجزائر»، يطالبون، عبر شهاداتهم التي تستحضر كل عناصر الترافع، كل الهيئات والمنظمات الوطنية والدولية والقوى الحية للتحرك من أجل إنشاء لوبي ضاغط لإرغام «دولة الكراغلة» على الاعتراف بمسؤولياتها الواضحة في المأساة التي عاشوها، تحويل «ذكرى الطرد» «التهجير القسري» إلى مناسبة للبكاء وإلقاء الخطب، بل إلى قضية وطنية بالغة الأهمية في دحر التنطع الجزائري وكشف فساده ودمويته أمام المنتظم الدولي.
إن ما يرويه هؤلاء المطرودون في شهاداتهم لأسبوعية «الوطن الآن» وموقع «أنفاس بريس»، لا يقف عند حدود الشهادة، بل إنه ينخرط، في العمق، في الكشف عن ملف مطلبي متكامل على المستويين الوطني والدولي، مثل الدعوة إلى الإسراع بتفعيل مطلب إحداث لجنة نيابية لتقصي الحقائق حول هذا الملف، وإبرام اتفاقيات شراكة وتعاون مع الجمعيات الحقوقية المغربية بخصوص الترافع بشأن هذه القضية دوليا، وإنشاء ملف حقوقي متعدد الأبعاد لضمان حق الضحايا المغاربة في جبر الضرر المعنوي والمادي، فضلا عن تجميع المعطيات التي بحوزة مختلف الإدارات والمصالح العمومية أو لدى الهيئات أو الأشخاص الذاتيين والمعنويين، وذلك للمساهمة في حفظ ذاكرة الضحايا المباشرين وغير المباشرين.
هناك وعي أكيد لدى الضحايا بأن «مقام الشهادة» لا يكفي لرفع التحدي، وأن الظروف المحيطة بالملف، على المستوى السياسي، وخاصة التردد الذي يكتنف أصحاب القرار وطنيا، لا تسمح بتشكيل لوبي ضاغط بوسعه إرغام الجزائر على الاعتراف بفظاعاتها، وخاصة في عقر دارها.
هناك وعي أكيد لدى الضحايا بأن «مقام الشهادة» لا يكفي لرفع التحدي، وأن الظروف المحيطة بالملف، على المستوى السياسي، وخاصة التردد الذي يكتنف أصحاب القرار وطنيا، لا تسمح بتشكيل لوبي ضاغط بوسعه إرغام الجزائر على الاعتراف بفظاعاتها، وخاصة في عقر دارها.
ولهذا، فإن الضحايا مستمرون في إنضاج ظروف إشراك الدولة، بدءا بالبرلمان والأحزاب والمجتمع المدني، من أجل الدفع بكل المؤسسات المعنية، وخاصة الحكومة، مواكبة هذا الملف مواكبة حقيقية، والخروج عن الصمت غير المبرر بفضح الانتهاكات التي ارتكبها النظام العسكري الجزائري في حق آلاف المغاربة الذين «أهينوا» في عيد الأضحى وجردوا من ممتلكاتهم وفصلوا عن عائلاتهم، والابتعاد قدر المستطاع عن حسابات التوازن الإقليمي التي لا تزيد الكابران شنقريحة وتابعه تبون إلا تصلبا وضغينة.
وتبعا لكل ذلك، فإن شهادات ضحايا النظام الجزائري طاقة كبيرة لا ينبغي أن تتبدد في ما هو طارئ أو سياسي، بل ينبغي أن تعالج حقوقيا، وأن يعود الحق إلى أصحابه بالتعويض وجبر الضرر.
تفاصيل أوفى تجدونها في أسبوعية" الوطن الآن"