ما يجري في قطاع غزة، منذ سابع يوليوز 2014، مونولوغ تجريه إسرائيل مع ذاتها.
هي وحدها تقرر الأهداف وسقف المفاوضات، وإعلان الهدنة والحرب، وتاريخ المفاوضات ومداهمة القطاع والانسحاب...
يجري كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم المرتهن بإرادة أمريكا المتضامنة حد التماهي مع إسرائيل، وبتخاذل النظام الرسمي العربي الذي جعلنا نعتقد أن ما يسمى "الربيع العربي" لم يغير أي شيء في خريف هذا العالم. كما هو مرتهن بمحدودية تحرك الشعوب، ومجتمعاتها المدنية وشوارعها الصاخبة.
أما نتائج هذا المونولوغ فقد عشناها بالملموس وبالتفاصيل: إمعان في تدمير الأمكنة وفي تلويث الهواء والبحر والأنفاس، وفي قتل الأطفال ضدا على كل المواثيق الذي يدعى المنظم الدولي أنه ابتكرها لحماية الإنسان بتراثه المادي وغير المادي. والأكثر من ذلك: إمعان في تكفير العالم بإمكانية العيش في سلام مع دولة صهيونية متطرفة تؤمن بالفكرة الإسرائيلية القديمة التي لا ترى بناء ممكنا لذاتها سوى بتدمير ذوات الآخرين. ومن ثم استحالة نجاح أية خطط للتسوية والمفاوضات والهدنات...
الغريب أن العالم الذي يدعي أنه انتصر على الفاشية والنازية، وعلى الديكتاتوريات لا يزال أسير بؤرة مرابطة في الشرق الأوسط لا تزال تؤمن بلغة الدم لحل تعقيدات التاريخ والجغرافيا، والتباسات الأساطير.
الغريب التراجيدي أننا أحيانا نطمئن إلى خطابات السلام، في حين يسمح هذا العالم المتوحش بإمكانية الحياة لأشكال فكر متوحش دموي عنصري قاتل.
ألا يعطي هذا السماح أكثر من إمكانية لانتعاش القاعدة و"داعش"، وكل أنواع الأفكار التدميرية الأخرى؟
كيف يمكن اليوم أن نسمح بانتشار فكر على بلاد الرافدين يكفر المسيحيين، والسنة المعتدلين، وغير المتدينين بدعوى استعادتنا إلى العصر الموهوم لخلافة الدولة الإسلامية؟
إن الأصولية الدموية واحدة. في أرض غزة، وبلاد الرافدين، وفي ليبيا واليمن وفي كل بلاد العالم الذي اعتقدنا أنه شفي من داء التوحش.
لسنا محظوظين إذ نجد أنفسنا نعيش في عالم يتجرد من إنسانيته، ومن قيمه الكونية ليصطف وراء فقهاء الظلام، الإسرائليين و"داعش" والقاعدة، وكل الأصوليين التكفيريين الذين نصطلي بنارهم كل آن، في حرب يومية على الفكر والفن والحياة.
وحده شعب غزة وأطفاله في الصدارة،
وحده شعب الرافدين وأطفاله في الصدارة...
وحدها الشعوب القريبة البعيدة تؤدي ضريبة عالم موغل في الظلام.
محمد بهجاجي، كاتب مسرحي