بما أن "داعش" لا يستطيع أن يستغني عن النساء، لأسباب بديهية، وليس قادراً على تحويلهن إلى رجال، مسلمين موالين أو أنصار،على طريقته، فإنه يعطي الأولوية للتنكيل بهن، وللتصريح عن هذا التنكيل أمام الملأ بأريحية وحماسة. هو لم ينجز بعد بناء دولته العتيدة، حتى شرع إلى التصويب على النساء أولاً، في تطبيقه لـ "الشريعة الإسلامية"، كما يراها؛ ما يعني، وبقوة سلاحه، إخفاءهن من الفضاء العام، إلزامهن السواد المطلق (النقاب)، منع خروجهن إلا بصحبة "محرم"، فصلهن عن الرجال. وهو يعني أيضاً القضاء على حريتهن بفرض عقوبة الرجم على الزانية، التي لا نعرف كيف يحددونها؛ لكن يمكننا أن نستنج بسهولة فائقة أنه "الزنا" المقصود في مجتمعاتنا نفسها، والذي يمكنه أن لا يتجاوز النظرة، أو الابتسامة... وفوق أن لقياداته كلها عددا من الزوجات، فهو يريد أن يختن كل نساء الأراضي العراقية الشمالية، مستعجل لهذه المهمة، وكل المهمات العقابية التي تنتظر نساءنا، يراها ملحة، ويرى أن بناء دولته لا يستوي من دون وضع النساء في أقفاص من الموت والحرمان والبتر والظلام.
وأمر الختان هذا، الصادر خبره عن إحدى مؤسسات الأمم المتحدة، وليس عن موقع إلكتروني فضائحي، لم تكذبه جهات "داعشية"؛ لم تنْفِه ولا أكّدته. لكن من السهولة بمكان أن نصدقه، أو على الأقل أن نصدق أنه وارد في مشروع "داعش" لتأسيس دولة "الخلافة". فالختان، في أماكن أصولية أخرى، هو من البنود التي دافعت عنها كل الحركات الإسلامية المعاصرة، وطليعتها الإخوان المسلمين المصريين، شديدي "الاعتدال" لو قورنوا بـ "داعش"؛ وإن كان هذا البند غائباً عن برامج "الإخوان" بالوضوح اللازم، ذلك أنهم حريصون على "صورتهم": يعملون على الأرض من أجل ختان يصيب الغالبية العظمى من المصريات، يعارضون بشدة كل التحركات أو القرارات العاملة على إلغائه... إلخ. أما "داعش" فيرى بأنه تجاوز مرحلة "التمكين"، حجة الإسلاميين الآخرين بعدم الاستعجال في تطبيق الشريعة الإسلامية؛ هو سيطر على أراضٍ شاسعة بين العراق وسوريا، ويدير منذ سنة شؤون الرقة السورية، وقد نجح في بسط شريعته عليها منذ توليه السيطرة؛ وها هو دخل في عملية بناء دولته، ولم يعد "التمكين" يعني بالنسبة له غير مرحلة ولّت.
إذن، لماذا؟ لماذا كراهية النساء بالذات قبل الأقليات من الأديان والمذاهب الأخرى، فضلاً عن "المرتدين" من السنّة؟
يعتقد منظرو "داعش"، وبعض المحللين، بأن هذا التنظيم يستوحي كل فكرته وممارساته من الفترة المحمدية، التي شهدت فجر الإسلام. يقولون إن الإسلام في نقائه الأول كان كما يتصورون، والنساء في ذاك العهد كن خاضعات لهذه الشريعة العقابية التي وضعها الله. طبعاً هم بجهلهم للإسلام وتاريخه، لا يعرفون أن هذه الشريعة ليست إلهية، وبأن فقهاء مسلمين قد صاغوها، وليس فقيهات. وأن هذه الشريعة هي ابنة زمن لاحق على الدعوة المحمدية. ولكن ليس هذا هو موضوعنا الآن.
المهم أنه عشية هذه الدعوة المحمدية، كانت الجزيرة العربية تضجّ بأنماط من الزواج أو من العلاقات بين الجنسين، تتراوح بين النمط البطريركي (النسب للأب) والنمط المطريركي (النسب للأم). كونفدرالية قبائل ثمود مثلاً كانت منتشرة في الجزيرة العربية، وكانت، لأسباب تاريخية نجهل معظمها، في طريقها إلى التشتّت والانهيار، وجاءت الدعوة الإسلامية لتلغيها وتتبنى نمطا واحداً، تنوع قليلا مع الفتوحات ودخول شعوب أخرى غير عربية إلى الإسلام، ولكنه بقي عموماً على هيكله العام الذي يقتضي القوامة والامتيازات الجنسية التي يعرفها كلنا.
أما "داعش"، فيواجه اليوم العكس تماما: فهو، رغم مكابرته، ابن هذا العصر الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له، إلا في القبائل البدائية، من صعود صاروخي للنساء إلى كل المجالات التي كان الرجال يحتكرونها حتى الآن. وأهمها مجالي الحقوق السياسية والجنسية، والأولى أكثر تصويبا من الثانية. ولكن النتيجة أن الكوكب الأرضي صار مهدداً من الآن وحتى نهاية القرن بأن يكون محكوماً من النساء. والنساء العربيات لسن بعيدات عن هذا المناخ على الرغم من كل المصائب التي تطالهن؛ فهن معرّضات لقوة أعظم من واقعهن ومصائبهن، تدفعهن نحو المزيد من الوظائف والمواقع؛ هي قليلة مقارنة ببقية نساء العالم، ولكنها خارقة بالنظر إلى سياقاتهن البائسة. ومع ذلك، فإن "داعش" يرى هذا التقدم المتواضع للنساء العربيات من علامات الزمن، يجرد الرجال من ذكورتهم القصوى، وهي أعز ما يملكون، منبع امتيازاتهم السياسية والجنسية. فماذا يفعلون؟ يطردون النساء نحو الداخل، يغطونهن باللون الأسود الشامل، يرجموهن، يحبسونهن في الأقفاص... من أجل أن يتعلمن خفض صوتهن ورأسهن، بل إخفائهما، فيضمن التنظيم بذلك أن لا يلتحقن بالغرب الكافر، فيعتلَين سدة رئاسة ما، إمارة ما، هو أصلا بصدد التحارب حولها مع بقية الرجال من مسلمين وإسلاميين؛ فتكون عقوبة النساء مغالية عما كانت عليه في صدر الإسلام، وهو العصر الذي يريدنا "داعش" أن نصدق بأننا عائدون إليه.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية، بموافقة من الكاتبة)