■ وجه من جيل التجديد :
اعتبر عبد الإله التهاني في الحلقة الاخيرة من برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية، وهو يقدم ملامح من سيرة الباحث والمؤرخ المرحوم عبد الرحمن المودن، أن الساحة الثقافية والأكاديمية المغربية، كانت قد شهدت بروز جيل من الباحثين، فتحوا أفقا جديدا في الكتابة التاريخية، ومنحوها نفسا وامتدادا، ودخلوا بها إلى مجالات من البحث والتنقيب والفحص الدقيق، سمحت في إضاءة جوانب مهمة من تاريخ المغرب الحديث، في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية، ولاسيما ما يتعلق بتاريخ القبائل والزوايا، وعلاقتها بالدولة المركزية، أو ما يتعلق بالأعراف والتقاليد والنظم الاجتماعية وأنماط العيش، وكذا علاقات المغرب مع محيطه الخارجي، ممثلا في المشرق العربي وأوروبا وإفريقيا".
وفي هذا السياق، أوضح معد ومقدم البرنامج الاذاعي، أن المؤرخ المرحوم عبد الرحمن المودن، يعد "وجها بارزا في
هذا الجيل الجديد من الباحثين، الذين أغنوا حقل الدراسات التاريخية، برؤية جديدة ومغايرة، استفادت كثيرا من العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا"، وأنه آثر يتخصص في دراسة التاريخ، خلافا لرفاقه من أبناء جيله، الذين اختار أغلبهم متابعة دراساتهم العليا في الفلسفة
وعلم الاجتماع.
■ إعادة الاعتبار إلى البحث في تاريخ البادية :
ولان مسقط رأس المرحوم عبد الرحمان المودن، كان بزاوية سيدي عبد الجليل بناحية مدينة تازة، فقد تكون لديه بشكل مبكر، شغف الاهتمام بتاريخ البادية المغربية، وهو الشغف العلمي الذي سينتهي به لاحقا
إلى إنجاز أطروحته الجامعية لنيل ديبلوم الدراسات العليا في التاريخ، وكان موضوعها حول (البوادي المغربية قبل الاستعمار: قبائل إيناون والمخزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر)، حيث قدمها ودافع عنها سنة 1984 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أمام لجنة علمية رفيعة، ضمت أقطاب الدرس التاريخي في الجامعة المغربية، إذ كانت مكونة من الأستاذين الراحلين إبراهيم بوطالب رئيسا، وجيرمان عياش مقررا، والاستاذين أحمد التوفيق والعربي مزين، عضوين في لجنة المناقشة.
واستنادا إلى شهادة للباحث خليل السعداني خليل، أشار معد البرنامج في ورقته، أن المرحوم عبد الرحمن المودن، قد وفر لرسالته الجامعية هذه، أقصى
ما أمكنه من المصادر والوثائق والمراجع، حيث تحمل مشاق التنقل بين العديد من المكتبات ومراكز الأرشيف التاريخي، في عدة دول اوروبية، ولاسيما منها الوثائق الموجودة في وزارات الخارجية لإسبانيا وفرنسا وبلجيكا، ووثائق مركز الدراسات العليا حول إفريقيا وآسيا الحديثة بباريس، إضافة إلى أرشيف مكتب السجل العام في لندن.
■ جيل المخطوطات وهاجس الهوية :
وخلص عبدالاله التهاني إلى القول إن الراحل عبد الرحمن المودن، قد اتجه مبكرا في مساره العلمي إلى البحث في تاريخ البادية المغربية، وليس إلى تاريخ المدن الذي كان قد كتب فيه الشيء الكثير.
وأورد عبدالاله في هذا نفس السياق، تعليقا للباحث الأستاذ محمد حبيدة، تحدث فيه عن هذا التوجه الجديد في الكتابة التاريخية بالمغرب، سجل فيه بأن: "الحديث عن تجربة المؤرخ عبد الرحمن المودن، هو حديث عن جيل بأكمله من المؤرخين المغاربة، الذين انتقلوا بالبحث التاريخي، من المجادلة الوطنية والنقد الإيديولوجي المجرد،
إلى التفكيك المعرفي والنقد التاريخي الموضوعي، بتسليط الضوء على البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمغرب قبل الاستعمار، وأن هذا الجيل هو جيل الورق، جيل الاعتماد على المخطوطات والمطبوعات، جيل توفر على نفس قوي في قراءة الوثائق وتحليلها واستنطاقها، جيل إتقان اللغة العربية واللغات الأوروبية" .
وفي ذات الاطار، أورد معد ومقدم برنامج "مدارات "، شهادة للباحثة الاستاذة رحمة بورقية، اعتبرت فيها أن التيار العلمي الذي ينتسب إليه الراحل عبدالرحمان المودن، "قد أنتج أطروحات حول تاريخ القبائل ، وبعض المدن في المجتمع المغربي وحول مؤسساته ، كالدولة والزوايا والظواهر الثقافية"، معتبرة بأن "هذا التوجه يعكس هاجس الهوية، لجيل من الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كان عليه أن يقوم بقراءة جديدة للقبيلة وللدولة وللزاوية، وغيرها من الظواهر، وأنه في ذات السياق، أنتج هذا الجيل حوارا بينه وبين الأطروحات الاستعمارية، والوقائع التي يقدمها الأرشيف، وما تفصح عنه المعطيات والدراسات الميدانية" .
■ من قبائل إيناون إلى جامعة برينستون :
وعن المحطات البارزة في مسار الباحث الراحل عبد الرحمن المودن، أوضح عبدالاله التهاني، أنه بعد أطروحته حول البوادي المغربية قبل الاستعمار، والتي نشرت سنة 1995 ضمن إصدارات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سيعرف المسار الأكاديمي لهذا الباحث اتجاها جديدا، نحو تنويع مجالات انشغاله، والاهتمام بموضوعات أخرى، تتعلق بعلاقات المغرب التاريخية مع أمم ودول أجنبية، حيث شرع في تحضير أطروحته للدكتوراه، بجامعة برينستون بالولايات المتحدة الأمريكية، وهناك سيقترب من طروحات ومفاهيم أسماء كبيرة في مجال البحث الأكاديمي .كما سيعمل على توسيع مداركه في مناهج البحث على الطريقة الأنجلو- ساكسونية، المطبقة في الجامعات الأمريكية ، مبرزا أنه سيتوج هذا المسار ، بإتمامه سنة 1991، أطروحته الفريدة وقتئذ ، والتي حررها باللغة الإنجليزية في موضوع: "البادشاه والسلطان.: العلاقات المغربية العثمانية بين القرنيين السادس عشر والثامن عشر / مساهمة في دراسة الثقافة الديبلوماسية" .
■ أستاذية متعددة الأبعاد :
وتحدث عبدالاله التهاني عن الحضور المتعدد لأستاذية عبد الرحمان المودن، حيث ذكر أنه فضلا عن محاضراته برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، وفي جامعة الأخوين بإيفران، فإنه عمل أيضا في مؤسسات علمية أجنبية خارج المغرب، حيث تنقل بينها أستاذا زائرا، يلقي محاضراته في مادة التاريخ، ويوسع من دائرة اهتمامه بالمعرفة التاريخية،
حول المغرب وحول محيطه العربي والأوروبي والإفريقي، ومن ذلك دروسه بجامعة نورث كارولينا وجامعة برينستون في الولايات المتحدة الأمريكية، والجامعة الحرة في برلين، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس ، وكلية الاداب والإنسانيات والفنون بتونس ، والمدرسة العليا في نواكشوط ، ومعهد الدوحة للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية ، وهو المعهد الذي قضى به الباحث الراحل الفترة الأخيرة من مساره الاكاديمي، والايام الأخيرة من حياته، إذ توفي بمدينة الدوحة في ثاني غشت من سنة 2020 ، في عز اشتداد أزمة كوفيد 19، ونقل جثمانه ليدفن في فاس، المدينة التي احتضنته مبكرا ، وشهدت أيام دراسته الاعدادية والثانوية .
وفي سياق متصل بمساره العلمي والمهني، ذكر الإعلامي عبد الإله التهاني أن المؤرخ الراحل، كان رئيسا لشعبة التاريخ بشعبة الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، وأنه علاوة على دروسه، ومحاضراته، أشرف على العديد من الرسائل والأطروحات الجامعية بهذه الشعبة، وترأس الجمعية المغربية للبحث التاريخي، بين 2007 و 2011 .
كما أشار إلى أنه قام سنة 1997، بتأسيس وحدة البحث والتكوين حول المغرب والعالم العربي والإسلامي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، حيث كان معه في هذا المشروع العلمي، كل من الباحثين الأساتذة عبدا لاحد السبتي، والمرحوم عثمان بناني، وزهرة طموح، وعبدالحفيظ الطبايلي .
كما استحضر معد ومقدم البرنامج، الفترة التي أشرف فيها المرحوم المودن على إدارة تحرير مجلة "البحث التاريخي"، وكذا مساهماته السابقة منذ 1983، في المجلة العلمية التاريخية "هسبريس تمودا".
■ سنواته المنتجة في المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب:
وتوقف عبدالاله التهاني عند عضوية الأستاذ المودن المنتجة، في أغلب المشاريع العلمية للمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، والذي كان قد التحق به بعد فترة قصيرة من تأسيسه سنة 2006، مشيرا إلى أن جميع من تتبعوا عمله في المعهد، أجمعوا على أن مجهوده كان كبيرا وأساسيا ومميزا.
وفي هذا الصدد، أورد شهادة مؤثرة لزميله الباحث الأستاذ حسن علوي حافظي، من جملة ما قاله فيها : "إن جالسته أفاد، وإن ناظرته أجاد، لا يغاير بالعلم أبدا، همه البحث عن الفائدة ومعرفة القول على صحته، يمشي في أموره كلها برفق و وقار وأدب" ، مضيفا أن الراحل "شغل نفسه بهذه الخصال وانشغل بها، فجمع فيه الخير من جهات كثيرة، وحمدت سيرته بين زملائه بالمعهد الملكي، لم أراه بمكتبه خارج أوقات اجتماعاتنا العلمية والرسمية، إلا محدقا في شاشة حاسوبه ، مطالعا لكتاب إلكتروني، أو بقاعة المكتبة يدقق ويمحص" .
■ رفقة العميد محمد القبلي
في موسوعة " تاريخ المغرب، تحيين وتركيب":
وقدم عبدالاله التهاني إضاءات مركزة حول مساهمة المؤرخ الراحل، في تحرير الموسوعة التاريخية الفريدة والضخمة، التي أنجزها فريق المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، وأصدرها سنة 2012 بعنوان "تاريخ المغرب: تحيين وتركيب"، وذلك بإشراف مديره السابق العميد والاستاذ الكبير محمد القبلي. وفي هذا الصدد، ذكر عبدالاله التهاني أن المرحوم المودن، كان أحد الأعضاء الخمسة القارين في إدارة هيئة تحرير هذه الموسوعة، والتي ضمت كلا من الأساتذة عبد العزيز توري، وحسن حافظي علوي، وبوشعيب إدريسي بويحياوي، ومصطفى حسني إدريسي.
وأضاف بأن الراحل المودن ساهم في تحرير الفصل السابع من موسوعة " تاريخ المغرب، تحيين وتركيب"، رفقة الأستاذين عبدالمجيد قدوري وعبدالرحيم بنحادة والعربي مزين، وهو الفصل المخصص لعدة قضايا ومراحل تاريخية، تتعلق بتعثر ولوج المغرب إلى الأزمنة الحديثة، ومحاولات الإصلاح، وتجربة الحكم السعدي، من حيث الاستنهاض ومعيقاته، ثم عودة مظاهر التأزم، وتحجر البنى المحلية، وما تلى ذلك من نشوء الدولة العلوية وتوطيد حكمها، وصولا إلى تحليل أحداث القرن الثامن عشر بين التأزيم ومحاولات النهوض.
كما أشار إلى مساهمة المرحوم عبدالرحمن المودن، في تحرير الفصل الثامن من نفس هذا الكتاب الضحم، بمعية الأساتذة خالد بن الصغير، وعمر أفا، وعلال الخديمي، ومحمد حبيدة، وأن هذا الفصل اختص بمعالجة مسألة التغلغل الأجنبي والإصلاح المعطوب، وتحجر الوضع المحلي للمغرب، في محيط دولي متغير، ومسلسل الاختراق الأجنبي، ومحاولات الإصلاح ونتائجها، وعشرية القلاقل، التي سبقت فرض نظام الحماية الفرنسية والاسبانية على المغرب .
■ رجل الإجماع في شهادات البرور والعرفان :
وإبرازا وتأكيدا للمكانة التي ظل يتمتع بها المؤرخ الراحل عبد الرحمان المودن لدى زملائه من الباحثين، توقف عبدالاله التهاني عند أهمية وقيمة الشهادات والمقالات التي كتبوها عن سيرته العلمية وخصاله الإنسانية، ومنها تلك التي جمعت في الكتاب التكريمي المخصص له، وهو بعد على قيد الحياة، حيث أشرف على إنجازه الاستاذان عبدا لاحد السبتي وعبدالرحيم بنحادة، وصدر سنة 2012 بعنوان (من إيناون إلى إسطنبول )، وكذا الكتاب التأبيني المؤثر الذي صدر سنة2021 بعنوان (عتبات مؤرخ ) ، بإشراف الأساتذة عبدالجليل ناظم ، وعبدالاحد السبتي، وعبدالرحيم بنحادة، وضم شهادات من باحثين مغاربة وأجانب ، حررت باللغات العربية والانجليزية والفرنسية، اجتمع فيها المحتوى العلمي، ممزوجا بمشاعر الحزن والاسى على رحيل رجل يعد من ألمع الكفاءات الاكاديمية في البحث التاريخي بالمغرب.