هذه السيدة رحمها الله التي غادرت دنيا الأحياء هذا الأسبوع، إسمها فاطنة الأصبهاني الناصري، والدة زوجتي، فهي حماتي، قصة حياتها فيها الكثير من الدروس والعبر والمحن.
كنت دوما، أتساءل من اين كانت تأتي بطاقة ذلك الصبر والهدوء اللذين ميزا سيرتها، حتى وهي طريحة الفراش لأكثر من سنة، نائمة على ذات الجنب، كانت لازمتها حين تسألها عن حالها (هي التي بقيت ذاكرتها متقدة حتى آخر نفس)، هي "الحمد لله"، فلم يكن أبدا في قاموسها منطق الشكوى. وكنت دوما أتساءل مع نفسي: ترى لو قدر وكنت في مثل وضعها، هل سأكون صبورا مثلها؟، ويرعبني الجواب أنني لن أكون.
هذه السيدة، تنحدر من الزاوية الناصرية بمنطقة النواصر، جوار مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء، كان والدها فقيها عالما، من ذوي الأملاك الفلاحية الكبيرة، بوشعيب الأصبهاني الناصري. سيرته التي بقيت وراءه أنه كان شريفا عفيفا وحنونا جدا على أقاربه وعلى كل عابر سبيل.
شاء القدر، أن يموت الفقيه بوشعيب باكرا ويترك بناته الأربع، صغيرات بعد، زغب الحواصل، ما بين 7 و 3 سنوات، بدون أخ ذكر. فكان أن استغل فرع من الأعمام عدم وجود إبن ذكر يعصب على شقيقاته ضمن أحكام الإرث (غير المنصفة في حالات إنسانية مماثلة)، كي يضعوا اليد عبر تطويع القانون على عشرات الهكتارات من الأرض، فانقلبت حياة الطفلة فاطنة الأصبهاني الناصري وشقيقاتها ووالدتهن من الدعة والاستقرار إلى مجهول العوز والفقر والعمل في بيوت الآخرين، بدون إمكانية للتعليم والدراسة. كان لهم بيت وسقف وخدم ومخازن زرع، فأصبحن ضيوفا عند الغير من أقارب والدتهن بدرب البلدية بالدارالبيضاء. وستتضاعف المأساة حين ستموت والدتهن خمس سنوات بعد ذلك، ففتح المجهول بابه الأسود أمامهن.
كانت رحمها، كثيرا ما تخرج صحيفة إرثها المختومة وتطلعني عليها، حيث أكتشف أن جزء من أراضي والدها قد تمت توسعة مطار محمد الخامس بها، ضمن أحكام المنفعة العامة. وحين كان يشتط بي غضب التضامن مع محنتها تلك وأدخل في كلام نقد لفرع الأعمام الذين ما خافوا الله فيهن، كانت هي تقول لي: لا لا، لا فائدة من الدعاء عليهم، سامحهم الله. فقد كانت تصدر عن طيبة بلا ضفاف، وكانت تقول دوما ها نحن عشنا وكبرنا وانجبنا الأولاد وربيناهم ودرسوا، هذا نجاحي الأكبر. واليوم أدرك بعد رحيلها أنها لم تسجن نفسها قط في جغرافية الندم والنواح.
ستفقد زوجها ثم ابنها البكر وهو في الأربعين من عمره، وبقيت صلبة كما كانت دوما، منتصرة للأمل في الحياة، بايمان قدري أن تلك رغبة الخالق. فكان ذلك درسا آخر في سيرة حياتها.
ستسعد دوما بجزء آخر من سلالتها الناصرية، من فروع اعمام وخالات آخرين، شكلوا لها ولعائلتها الصغيرة السند ومعنى توازن الإنتماء للدم، فيهم الطبيب الجراح والمحامي والأستاذ الجامعي والصيدلي والتاجر والفلاح.
كانت لها أيضا قرابة تفخر بها كثيرا هي القرابة مع وزير العدل الأسبق المرحوم الأستاذ محمد الناصري (والده إبن عم والدها) ويشتركون في أنهم من الفرع الناصري الغماري لزاوية النواصر. وكثيرا ما كان الأخ والصديق الفلسطيني واصف منصور رحمه الله، الوزير المفوض بسفارة فلسطين بالرباط، يشاغبني حين ألتقيه رفقة زوجتي أمينة لبشيريت، حيث يقول لي أمامها: "أيها الامازيغي، حالك معي حين ألتقي زوجتك مثل حال التيمم حين حضور الماء. فهي ناصرية غمارية من اصهاري فهي مقدمة عليك عندي (ههههه)". ذلك لأن زوجته رحمه الله، هي الأستاذة القاضية الباتول الناصري شقيقة الأستاذ محمد الناصري رحمه الله.
تقدم لي دوما سيرة حياة هذه السيدة، العنوان على أن لا شئ دائم في الحياة، وأن الشرور أقوى في حالات كثيرة، وأنه لا شئ يدوم، لا جاه ولا فقر وعوز. مثلما تقدم سيرتها العنوان على ظلم ثقافة سلوكية للارث حين لا يكون للبنات أخ ذكر يعصب عليهن، فكثيرا ما تنتهب السلالة الباقية حقوق الحماية والرعاية للبنات. وكم هذا مقرف بكل معاني قيم حقوق الإنسان.
شئ آخر، يخصني في علاقتي مع هذه السيدة، فهي لم تكن أبدا حماة بالمعنى السلبي المشهور للحماة، بل ظلت دوما منتصرة لي أمام ابنتها زوجتي، وظلت دوما تبحث لنا عن اسباب المساعدة. ولم يحدث أبدا أن أساءت لي أو خلقت سببا للتوتر بيني وبين ابنتها، فقد ظلت دوما عفيفة، قليلة الكلام بل صموت في أغلب الوقت، بعزة نفس عالية، ومروءة بلا ضفاف.
كانت لها أيضا علاقة تواطؤات جميلة جدا مع أحفادها، فهي موطن أسرار كثيرة لهم، وهي أيضا مصدر الكثير من سبل تحقيق مطامعهم الصغيرة البريئة في العائلة.
لي اليقين أن السيدة فاطنة الأصبهاني الناصري تنام قريرة العين، لأنها ظلت فاضلة في الحياة وستظل كذلك في الممات.
كنت دوما، أتساءل من اين كانت تأتي بطاقة ذلك الصبر والهدوء اللذين ميزا سيرتها، حتى وهي طريحة الفراش لأكثر من سنة، نائمة على ذات الجنب، كانت لازمتها حين تسألها عن حالها (هي التي بقيت ذاكرتها متقدة حتى آخر نفس)، هي "الحمد لله"، فلم يكن أبدا في قاموسها منطق الشكوى. وكنت دوما أتساءل مع نفسي: ترى لو قدر وكنت في مثل وضعها، هل سأكون صبورا مثلها؟، ويرعبني الجواب أنني لن أكون.
هذه السيدة، تنحدر من الزاوية الناصرية بمنطقة النواصر، جوار مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء، كان والدها فقيها عالما، من ذوي الأملاك الفلاحية الكبيرة، بوشعيب الأصبهاني الناصري. سيرته التي بقيت وراءه أنه كان شريفا عفيفا وحنونا جدا على أقاربه وعلى كل عابر سبيل.
شاء القدر، أن يموت الفقيه بوشعيب باكرا ويترك بناته الأربع، صغيرات بعد، زغب الحواصل، ما بين 7 و 3 سنوات، بدون أخ ذكر. فكان أن استغل فرع من الأعمام عدم وجود إبن ذكر يعصب على شقيقاته ضمن أحكام الإرث (غير المنصفة في حالات إنسانية مماثلة)، كي يضعوا اليد عبر تطويع القانون على عشرات الهكتارات من الأرض، فانقلبت حياة الطفلة فاطنة الأصبهاني الناصري وشقيقاتها ووالدتهن من الدعة والاستقرار إلى مجهول العوز والفقر والعمل في بيوت الآخرين، بدون إمكانية للتعليم والدراسة. كان لهم بيت وسقف وخدم ومخازن زرع، فأصبحن ضيوفا عند الغير من أقارب والدتهن بدرب البلدية بالدارالبيضاء. وستتضاعف المأساة حين ستموت والدتهن خمس سنوات بعد ذلك، ففتح المجهول بابه الأسود أمامهن.
كانت رحمها، كثيرا ما تخرج صحيفة إرثها المختومة وتطلعني عليها، حيث أكتشف أن جزء من أراضي والدها قد تمت توسعة مطار محمد الخامس بها، ضمن أحكام المنفعة العامة. وحين كان يشتط بي غضب التضامن مع محنتها تلك وأدخل في كلام نقد لفرع الأعمام الذين ما خافوا الله فيهن، كانت هي تقول لي: لا لا، لا فائدة من الدعاء عليهم، سامحهم الله. فقد كانت تصدر عن طيبة بلا ضفاف، وكانت تقول دوما ها نحن عشنا وكبرنا وانجبنا الأولاد وربيناهم ودرسوا، هذا نجاحي الأكبر. واليوم أدرك بعد رحيلها أنها لم تسجن نفسها قط في جغرافية الندم والنواح.
ستفقد زوجها ثم ابنها البكر وهو في الأربعين من عمره، وبقيت صلبة كما كانت دوما، منتصرة للأمل في الحياة، بايمان قدري أن تلك رغبة الخالق. فكان ذلك درسا آخر في سيرة حياتها.
ستسعد دوما بجزء آخر من سلالتها الناصرية، من فروع اعمام وخالات آخرين، شكلوا لها ولعائلتها الصغيرة السند ومعنى توازن الإنتماء للدم، فيهم الطبيب الجراح والمحامي والأستاذ الجامعي والصيدلي والتاجر والفلاح.
كانت لها أيضا قرابة تفخر بها كثيرا هي القرابة مع وزير العدل الأسبق المرحوم الأستاذ محمد الناصري (والده إبن عم والدها) ويشتركون في أنهم من الفرع الناصري الغماري لزاوية النواصر. وكثيرا ما كان الأخ والصديق الفلسطيني واصف منصور رحمه الله، الوزير المفوض بسفارة فلسطين بالرباط، يشاغبني حين ألتقيه رفقة زوجتي أمينة لبشيريت، حيث يقول لي أمامها: "أيها الامازيغي، حالك معي حين ألتقي زوجتك مثل حال التيمم حين حضور الماء. فهي ناصرية غمارية من اصهاري فهي مقدمة عليك عندي (ههههه)". ذلك لأن زوجته رحمه الله، هي الأستاذة القاضية الباتول الناصري شقيقة الأستاذ محمد الناصري رحمه الله.
تقدم لي دوما سيرة حياة هذه السيدة، العنوان على أن لا شئ دائم في الحياة، وأن الشرور أقوى في حالات كثيرة، وأنه لا شئ يدوم، لا جاه ولا فقر وعوز. مثلما تقدم سيرتها العنوان على ظلم ثقافة سلوكية للارث حين لا يكون للبنات أخ ذكر يعصب عليهن، فكثيرا ما تنتهب السلالة الباقية حقوق الحماية والرعاية للبنات. وكم هذا مقرف بكل معاني قيم حقوق الإنسان.
شئ آخر، يخصني في علاقتي مع هذه السيدة، فهي لم تكن أبدا حماة بالمعنى السلبي المشهور للحماة، بل ظلت دوما منتصرة لي أمام ابنتها زوجتي، وظلت دوما تبحث لنا عن اسباب المساعدة. ولم يحدث أبدا أن أساءت لي أو خلقت سببا للتوتر بيني وبين ابنتها، فقد ظلت دوما عفيفة، قليلة الكلام بل صموت في أغلب الوقت، بعزة نفس عالية، ومروءة بلا ضفاف.
كانت لها أيضا علاقة تواطؤات جميلة جدا مع أحفادها، فهي موطن أسرار كثيرة لهم، وهي أيضا مصدر الكثير من سبل تحقيق مطامعهم الصغيرة البريئة في العائلة.
لي اليقين أن السيدة فاطنة الأصبهاني الناصري تنام قريرة العين، لأنها ظلت فاضلة في الحياة وستظل كذلك في الممات.