في الوقت الذي صادقت فيه الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، على قرار رقم 2004 يتعلق بالصحراء، والذي أكدت فيه على أولوية الحل السياسي كإطار لتجاوز الخلاف، وثمن ذات القرار المكتسبات التي حققها المغرب في مجال حقوق الانسان، حدث هذا الانتصار الدبلوماسي البرلماني، بعد صراع حاد بين ممثلي البرلمان المغربي وخصوم وحدتنا الترابية، والذي انتهى إلى رفض عدد من التعديلات التي اقترحتها مقررة اللجنة القانونية وحقوق الإنسان والتي كانت تستهدف الدعوة إلى توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل مراقبة أوضاع حقوق الإنسان في الصحراء. وجاءت مصادقة مجلس أوروبا على هذا القرار بناء على التقرير الذي أعدته ليليان باسكوي بعنوان "مساهمة برلمانية من أجل حل نزاع الصحراء" حيث تم التصويت عليه بأغلبية 86 برلماني أوروبي عضو في الجمعية ومعارضة 4 أعضاء وامتناع 9 أعضاء.
في هذا الوقت بالضبط، وفي غياب المغرب، كان يدبج بـ "ملابو "بغينيا بيساو قرار تعيين مبعوث خاص للاتحاد الإفريقي إلى الصحراء المغربية لمراقبة حقوق الإنسان من طرف خصوم وحدتنا الترابية وبرئاسة الجارة الجنوبية موريتانيا للاتحاد الإفريقي وبتحريض ممنهج وقوي من قبل الجارة الجزائر وجنوب إفريقيا ومن يدور في فلكهما من الدول الإفريقية بمناسبة انعقاد القمة 23 للاتحاد الإفريقي. ويبدو أن هذا التحرك الفج من الاتحاد الإفريقي تجاه قضية الصحراء المغربية، يطرح أكثر من تساؤل حول شرعية هذا القرار وإطاره القانوني، ويوضح أكثر أن هذا التنظيم الإفريقي ماض في تحديه لشرعية المغرب في أقاليمه الجنوبية، بيعة وتاريخا وجغرافيا.. وهو الأمر الواقع الذي لم ترد أن تفهمه، بعد، بعض الدول الإفريقية، خصوصا إذا ما استنطقنا هذا الواقع الذي يؤكد أن أغلبية الصحراويين مغاربة ويسكنون بالأقاليم الجنوبية، كما يسكن الكثير منهم في سائر أقاليم المملكة المغربية.. فأين إذن هي شرعية جبهة البوليزاريو التي تحتجز إخواننا المغاربة الصحراويين بمخيمات تندوف بدعم قوي من قبل حكام قصر المرادية؟ وأين المجتمع الدولي مما تمارسه الجزائر صانعة البوليزاريو من تعذيب وقمع للحريات وتقتيل الأبرياء وتطبيق العبودية في الحياة اليومية للمحتجزين المغاربة الصحراويين بمخيمات العار بتندوف؟
لكن ما يستدعي الاستغراب أكثر، هو هذا الصمت المريب للرأي العام الدولي وللإعلام حول دوافع هذا القرار الانفرادي والشاذ الذي لا يعني المغرب في شيء، وهو ما تفسره لامبالاة الجهات الرسمية المغربية بهذا القرار،إلى حد يوم الاثنين 30 يونيو 2014، مادام لم يشارك في صياغته أو تبنيه أو حتى معارضته، لكونه يوجد خارج التنظيم الإفريقي منذ حوالي عقدين من الزمن، منذ أن تم زرع جرثومة البوليزاريو بداخل هذه المنظمة الإفريقية بإيعاز من ليبيا القذافي ودعم كبير من حكام الجزائر، والتي كان المغرب من مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية الرئيسيين (الاتحاد الإفريقي حاليا) والفاعلين الأساسيين في صنع قراراتها.
إلا أن الغريب في الأمر كذلك، هو أننا لم نسمع ولا زعيم إفريقي قد عارض هذا القرار، أو حتى ناقشه، بحسب الأخبار التي وردت عن اجتماع القمة الإفريقية بملابو بغينيا بيساو، بالرغم من أن المغرب يلعب، وعلى مدى عصور خلت وإلى الآن، دورا رياديا في القارة السمراء على شتى المستويات، تعززت مؤخرا بالزيارات التاريخية التي قام بها الملك محمد السادس إلى بعض الدول الإفريقية وأهمية الاتفاقيات المتعلقة بالعديد من المجالات الاقتصادية والتجارية والدينية، ويبدو أن تفعيلها قد بدأ مباشرة بعد هذه الزيارة الملكية التاريخية، التي لقيت ترحيبا كبيرا من طرف الشعوب الإفريقية وحكوماتها، حيث نظمت العديد من اللقاءات بين رجال المال والأعمال الأفارقة ونظرائهم المغاربة، إضافة إلى الدعم الكبير الذي يقدمه المغرب للعديد من الدول الأفريقية ومساهمته في السلم والأمن بالقارة السمراء من خلال تمثيلية القبعات الزرق المغاربة في العديد من بؤر التوتر بداخل هذه القارة التي لا تزال طاحونة الصراع الإثني والعرقي والسياسي تدفع بها إلى تمزق أكثر وإلى تخلف أعمق.
كل هذا الدعم من المغرب تلفظه بعض الدول الإفريقية مقابل منحها براميل من الغاز والنفط، والتشطيب الانسيابي للجزائر السخية على كل ديون إفريقيا، كما حدث مؤخرا لما كان جلالة الملك في زيارة رسمية إلى تونس، حيث شطبت وبشكل نهائي ديون كانت للشعب الجزائري في ذمة 16 دولة إفريقية، وكانت السلطات الجزائرية قبل ذلك، قد أقدمت على مسح 500 مليون دولار من ديون دولتين إفريقيتين داعمتين لجبهة البوليزاريو، مما خلف ضجة قوية داخل البرلمان الجزائري، كما في صفوف المجتمع المدني، التي اعتبرت أن الشعب الجزائري أولى بهذه الأموال. وانتقدت حينها أحزاب جزائرية معارضة، مبادرة الرئيس بوتفليقة الذي سبق له أن ألغى أكثر من 900 مليون دولار من ديون دول أخرى، وبلغ مجموع قيمة الديون التي ألغتها الجزائر عن دول إفريقية أكثر من 1400 مليون دولار. طبعا مثل هذا السخاء، لم تجده هذه الدول اللاهثة وراء المال والغاز والنفط الجزائري عند المغرب، لكن ما عند المغرب من خبرات وتجارب في ترسيخ دولة المؤسسات وحقوق الانسان وخبرة كبيرة في مجالات التنمية وتطوير الاقتصاد، وتأهيل الكفاءات الإفريقية، هو ما تبحث عنه الدول الإفريقية التواقة إلى الحرية والكرامة والتطور والازدهار، وهو ما يوجد عند المغرب والكفاءات المغربية، وقد بدأت مثل هذه الخبرات تجد تربتها الخصبة في القارة السمراء.
إلا أن ما تمنحه الجزائر لبعض الدول ال‘فريقية مثل زبد الموج يمحى مع كل رجة برمال شاطئ البحر، وينتهي أمره، حيث يلامس واقعا آخر يصدمه.. وتجربة القذافي في إغداقه على الأفارقة بالمال الكثير حتى سموه" ملك ملوك إفريقيا" خير مثال، حيث لم يسعفه شراء ذمم الأفارقة بمال الشعب الليبي في وقوف أصدقائه الأفارقة إلى جنبه، لما طلب منهم الزحف على الثوار يوم ثار عليه شعبه وقتله بإحدى مجاري مياه الصرف بليبيا، باستثناء شرذمة البوليزاريو التي هبت إلى القتال إلى جانبه حيث كان أحد صناعها الأساسيين في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. ولم تسعف هذه الأموال إفريقيا في الخروج من أزماتها المتعددة والمتشعبة والمعقدة، لأن هذه الأموال كانت تصرف من تحت الطاولة كما كانت تمنح من تحت الطاولة كذلك. إن خلق الثروة وتحفيز الإنسان الإفريقي على البحث والإبداع والابتكار هو السبيل الأنجع لتقدم إفريقيا وإخراجها من براثين التخلف والتمزق، وليس بالاكتفاء باستجداء الغير فيما لا يسمن ولا يغني من جوع.
يحدث هذا التغيير المفاجئ في وجهة نظر الاتحاد الإفريقي تجاه المغرب في الوقت الذي كانت أوساط دبلوماسية تأمل منذ سنوات في إقدام هذه المنظمة الإفريقية على تجميد عضوية جبهة البوليساريو التي لا تزال غير مكتملة عناصر دولة شرعية، مما يجعلها خارج الاعتراف الأممي، وهو ما يؤكد انحياز الاتحاد لجبهة البوليزاريو. كما اعتبرت هذه الأوساط أن أي تدخل للاتحاد الإفريقي في النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية إلى جانب الأمم المتحدة، يبدأ أولا بتجميد عضوية البوليساريو. إلا أنه ولحد الآن لم يتحقق هذا المسعى.
ويبدو قرار الاتحاد الإفريقي تعيين "جواكيم شيساني"، الرئيس السابق لدولة الموزمبيق، مبعوثا خاصا من قبل الاتحاد الإفريقي إلى الصحراء المغربية، بشكل انفرادي من طرف هذا الأخير، تعد خطوة استفزازية للمغرب.. واختيار الرجل المعروف بتأييده المطلق لأطروحة البوليساريو الانفصالية، يزيد من تعقيد الأمور ويدفع بهذا التنظيم الإفريقي إلى الهروب إلى الأمام، بضغط من طرف الجزائر التي وضعت إستراتيجيتها المحبوكة والمبيتة ضد وحدة أقاليمنا الجنوبية في أجندتها السياسية الإفريقية والدولية لتقليب المواجع على المغرب في سعي فاشل من أجل إعادة مسرحية حقوق الإنسان الهزلية في أقاليمنا الجنوبية إلى واجهة الأحداث الدولية وإشغال المغرب عن مسيرته التنموية في أقاليمه الصحراوية، كما في باقي ربوع المغرب. وهي المسرحية التي فشلت في تمرير رسالتها إلى المنتظم الدولي في السنين الأخيرة بالرغم من الإمكانيات المالية واللوجيستيكية الضخمة التي سخرتها لهذا العمل الدنيء الذي يزيد من تعميق هوة التباين والتباعد بين الجارين المغربي والجزائري، وتفوت الجزائر بتماديها في معاكسة المغرب في شرعيته على أرضه بالأقاليم الجنوبية، فرصة بأبعادها الراهنية التاريخية والسياسية انكباب البلدين معا على وضع إستراتيجية تنموية شمولية، تدفع بخلق ثورة اقتصادية مغاربية ذات أهمية كبرى، تجعل من المغرب الكبير واجهة للاستثمارات الخارجية وقطبا جاذبا للسياحة، وقوة اقتصادية إقليمية جد مؤثرة في السوق الدولية، وملاذا للأمن والسلام والرخاء في شمال إفريقيا.