حين أنزلت الراية الفرنسية يوم الأحد 19 فبراير 2023 في إحدى القواعد العسكرية ببوركينافاصو، أدركت باريس أن إنهاء الاتفاق العسكري مع واغادوغو، وقبله مع باماكو (مالي)، رسالة قوية موجهة إلى عقلها السياسي المتغطرس؛ وهي الغطرسة نفسها التي يريد الرئيس إمانويل ماكرون أن يفرضها على المغرب الذي وضع "بند الوضوح السياسي" و"الخروج من المنطقة الرمادية" و"التخلي عن الالتباس في المواقف" كأساس لعقد شراكاته وتجديدها وتطويرها.
لقد أدركت فرنسا أن ما يجري حاليا من تصدع بينها وبين مستعمراتها السابقة في إفريقيا هو نوع من الوعي الجديد الذي ينبغي أن تتعامل معه ليس بمنطق الاستقواء العسكري، لأنها خسرت بالفعل حربها على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وليس بمنطق "الزيارات الرئاسية" إلى دول إفريقية صغيرة وفقيرة لإظهار نفوذ يعرف الجميع أنه يتقلص باستمرار. بل بالتعامل مع هذا "الوعي الجديد" باحترام، في ظل سعيها إلى استعادة الانخراط في اللعبة الجيوسياسية في إفريقيا.
هذا الإدراك كان واضحا في مضمر "الإستراتيجية الجديدة بشأن إفريقيا" التي عرضها ماكرون يوم الاثنين 27 فبراير 2023، والتي قال إنها استراتيجية من أجل "تعميق الشراكة بين فرنسا وأوروبا والقارة الأفريقية". ذلك أن كل المؤشرات تؤكد أن "فرنسا الماكرونية" تعيش أسوأ مرحلة في علاقتها بمستعمراتها السابقة في القارّة السمراء، خاصة بعد طرد السفير الفرنسي من مالي، وخروج متظاهرين في بوركينافاصو يرفعون شعاراتٍ تتهم فرنسا برعاية الإرهاب وقيادة الانقلابات في إفريقيا، فضلا عن شن المعارضة الغابونية حملة إعلامية وتواصلية قوية ضد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاصمة ليبرفيل. وإذا أضفنا إلى ذلك التخبط الفرنسي الكبير في منطقة المغرب العربي، ومغامرة إبطال التوازن الإقليمي عبر بناء محاور ملغومة، وخاصة ضد المغرب الذي اختار الانخراط في استراتيجية تعاون جنوب-جنوب، وتنويع الشراكات، والتوجه الاستثماري نحو إفريقيا.
إن فرنسا التي تعيش هلعا حقيقيا جراء فقدان باريس لنفوذها في إفريقيا، لا تريد لأي فاعل آخر أن يحل محلها، ولو كان هذا الفاعل هو حليفها الاستراتيجي التقليدي (المغرب)، في سلوك أقل ما يقال عنه أنه ينبني على التقيد بـ "احترام المجال المحفوظ". فرنسا لا تريد أي فاعل جديد يرفع شعار "استقلالية القرار السياسي" أو "الموقف السيادي" أو "الندية الاقتصادية". كما أنها لا تريد أي فاعل هي غير قادرة على الوقوف في وجهه أو إزاحته من السلطة. بل تريد فاعلين على مقاس مصالحها يمثلون الاستجابة الفعلية والمادية لعقلها السياسي؛ وهي تعول على هؤلاء الفاعلين من أجل مواجهة المدّ المتنامي للوجود الاقتصادي الصيني والياباني والأمريكي والتركي والروسي؛ وأيضا البرازيلي والبريطاني، خاصة بعد انضمام الغابون وتوغو، وهما عضوان ضمن الدول الفرنكفونية، إلى تجمّع الكومنولث لتلتحقا برواندا وموزمبيق اللتين سبقتهما إلى الانضمام إلى هذا التكتل الاقتصادي الأنغلوساكسوني الذي يضم المستعمرات البريطانية السابقة، ويفرض على أعضائه التزامها الواضح بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد. وما يزيد الطين بلة هو سعي إفريقيا الوسطى إلى التخلص من الفرنك الأفريقي المرتبط بالفرنك الفرنسي. وإذا أضفنا كل ذلك الأخطاء التي راكمتها باريس في رواندا، واعتمادها على "سياسة التفوق الأوروبي"، وعلى إرشاء النخب، وقطع الطريق على السياسيين الأفارقة من مناهضي الاستعمار أو من المتشبعين بالحس الوطني، فإن الأمر يفضي إلى تفوق فرنسا في فقدان المساحات، وفي انحسار الهيمنة الثقافة التي فرضتها بالحديد والنار. كما يعني فتح المجال أمام قوى أخرى صاعدة، ومنها المغرب الذي بادر، على المستوى الاستراتيجي، إلى إقرار نموذج لشراكة تكاملية ومندمجة تسعى إلى الرفع من المستوى المادي للعديد من الدول الإفريقية، وتقدم بدائل استراتيجية ناجحة من منطلق معادلة "رابح-رابح"، والتعويل على المدخل الاقتصادي كمقاربة واقعية تمهد الطريق لتفاهمات وتوافقات أخرى تخدم أهداف المصلحة الوطنية.
فمنذ سنة 2000 انتقل المغرب من مفهوم "الشراكة السياسية" (الغامضة وغير المستقرة) التي ظلت تنهجها فرنسا للإمساك بالتوازن الإقليمي في إفريقيا، وخاصة بين المغرب والجزائر، إلى شراكة تراهن، أولا، على البعد الاقتصادي، من قبيل إعفاء بعض الدول الإفريقية الفقيرة من الديون، مما أهله للرجوع بقوة إلى الفضاء الإفريقي واحتلال مكانة دبلوماسية متميزة أثارت غضب فرنسا، وأججت أحقاد كراغلة الجزائر، وضاعفت من حنق جنوب إفريقيا التي تؤسس "الوجود الفاسد" لزعمائها على أسطوانة "التحرر الوطني".
لقد راهن الملك محمد السادس، منذ 23 سنة، على توفير ظروف جديدة تساهم في إخراج إفريقيا من وضعيتها الحالية بدءا بإعلان حرب شاملة ونهائية ضد الفقر. غير أن فرنسا كانت تراهن على الاستثمار في المخاوف الإفريقية، وعلى تغذية الحرب على الإرهاب عبر تحويل القارة إلى سوق مفتوحة للسلاح، وإلى محضنة واسعة لجماعات إرهابية أكدت بعض التقارير أنها تتلقى دعما لوجيستكيا وماليا (من طرف حكومات بعض الدول) للاستمرار في مهامها. وها هي الآن تجني ثمار سياساتها في مواجهة جيل إفريقي جديد منفتح على العالم، وعلى دراية بالوضع الجيوسياسي لبلدانه، ويستطيع أن يقرأ جيدا "التغيير الذي وقع في برمجيات القارة" بسبب التنافس الدولي على مواردها الطبيعية والاقتصادية والبشرية.
ولأن الرئيس ماكرون يعرف جيدا أن أقدام فرنسا مليئة بالوحل في إفريقيا، فقد استبق جولته المرتقبة إلى الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، بالإعلان، يوم الاثنين 27 فبراير 2023، عن إطلاق "استراتيجية فرنسا الإفريقية الجديدة"، داعيا إلى "التواضع" ورفض "المنافسة الاستراتيجية" التي يفرضها حسب قوله "أولئك الذين يستقرون هناك مع "جيوشهم ومرتزقتهم"، في إشارة واضحة إلى روسيا وجماعة فاغنر المقربة من الكرملين، والتي انتشرت بشكل خاص في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، ويجري الحديث عن انتشارها أيضا في بوركينافاصو، وتحديدا في المحيط الرئاسي.
فهل نصدق الرئيس ماكرون؟ هل نأخذ استراتيجيته الجديدة على محمل الجد؟ على نصدق أن باريس اختارت طواعية الحد من العمليات العسكرية داخل القارة؟ هل كفَّت فرنسا حقا عن النظر إلى الأسواق الإفريقية كملكية خاصة؟ هل اكتسبت فرنسا وعيا جديدا بإفريقيا يقوم على بناء علاقة جديدة متوازنة ومسؤولة مع دول القارة الأفريقية؟ هل هي جادة في إبطال "شعور العداء" حيالها؟
لقد قال ماكرون إن إفريقيا ليست "ساحة خلفية لفرنسا"، وأضاف: "يجب أن ننتقل من "منطق" المساعدة إلى منطق الاستثمار". فهل هذا هو المنطق الذي ستتعامل به فرنسا مع المغرب، أم أنه منطق الجزرة لاصطياد الأرنب؟
فإذا كانت مجموعة من الدول، ومنها إسبانيا وألمانيا، لا تتردد في الاعتراف بالمغرب كبوابة رئيسية نحو إفريقيا بالنسبة لأوروبا، وأن إشراكه في تدبير المنطقة ضروري من منطلق قدرته على تكوين تحالفات صلبة مع دول إفريقيا، وأيضا من منطلق حضوره الاقتصادي وثقله الديني، فهل ستتوقف فرنسا عن إعادة تأسيس وجودها الإفريقي بمناوشة المغرب سياسيا ووضع الكثير من الألغام "الحقوقية" في طريقه على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وعلى مستوى تسوية نزاع الصحراء، وعلى مستوى تنويع شراكاته الدولية والإقلمية؟ هل ستتخلى عن النظر إليه كـ "تابع تقليدي" أو "كزنجي يعمل في ساحتها الخلفية"، لتعامله كشريك له مؤسساته السيادية التي يعود إليه في قضاياه المصيرية؟ هل ستتوقف فرنسا عن إذكاء الصراعات وإشعال الحروب في إفريقيا؟
فإذا كانت مجموعة من الدول، ومنها إسبانيا وألمانيا، لا تتردد في الاعتراف بالمغرب كبوابة رئيسية نحو إفريقيا بالنسبة لأوروبا، وأن إشراكه في تدبير المنطقة ضروري من منطلق قدرته على تكوين تحالفات صلبة مع دول إفريقيا، وأيضا من منطلق حضوره الاقتصادي وثقله الديني، فهل ستتوقف فرنسا عن إعادة تأسيس وجودها الإفريقي بمناوشة المغرب سياسيا ووضع الكثير من الألغام "الحقوقية" في طريقه على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وعلى مستوى تسوية نزاع الصحراء، وعلى مستوى تنويع شراكاته الدولية والإقلمية؟ هل ستتخلى عن النظر إليه كـ "تابع تقليدي" أو "كزنجي يعمل في ساحتها الخلفية"، لتعامله كشريك له مؤسساته السيادية التي يعود إليه في قضاياه المصيرية؟ هل ستتوقف فرنسا عن إذكاء الصراعات وإشعال الحروب في إفريقيا؟
لقد أثبت المغرب أنه مستمر في كسب المزيد من التأييد الإفريقي لقضية الوحدة الترابية، كما أثبت أنه متفوق في التعامل مع الألعاب النارية التي تريد أن تشعلها باريس قريبا من سقفه. فهل ستثبت فرنسا أنها بلغت سن الرشد داخل إفريقيا؟ وهل يستطيع ماكرون أن يعلن الاعتذار لإفريقيا، كخطوة أولى لتمكينه من محاولة استعادة موقعه داخل القارة؟
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"