لم تعش العراق، منذ سقوط بغداد سنة 2003، تهديدا أخطر مما تعيشه اليوم على خلفية المعطى الجديد، ممثلا في ظهور الدولة الإسلامية في العراق والشام كلاعب قوي في المشهد، بعد احتلالها لما يقارب ثلثي مساحة بلاد الرافدين. هذا على الأقل ما يبدو العنصر المهيمن في الصورة، وهو بالتحديد ما يجعل الحكومة العراقية تنذر كل العالم بخطورة الزحف الإرهابي، وهو أيضا ما يفسر إقدام وزير الخارجية هناك بتوجيه الدعوة مباشرة للولايات المتحدة الأمريكية من أجل التدخل العسكري. لكن خلف هذه الصورة تكمن أسئلة وقراءات أخرى.
خصوم نوري المالكي رئيس الوزراء، خاصة مشايخ المناطق المحتلة من طرف "داعش" كما في منطقة الأنبار يقدمون تفسيرا آخر لما يجري. إنهم يصفون ما يجري اليوم ثورة واعية بأهدافها، وذلك احتجاجا على قيام المالكي بالاستفراد بالسلطة بعد تعطيل البرلمان وإلغاء كل إمكانية للحوار مع الفرقاء السياسيين، ومطاردة خصومه، ودفع البلاد إلى الفخ الطائفي على خلفية الاستقواء بإيران التي تجعل من العراق ورقة أساسية في معادلة صراعها مع الغرب. وكانت تلك أسباب التوتر التي عاشها العراقيون على امتداد الولاية الثانية للمالكي، والتي تمثلت في مظاهر الاحتجاجات المتواصلة من أجل تفعيل الحوار من جديد، بحثا عن أفق سياسي لا يحتكم فقط إلى شرعية صناديق الاقتراع.
وحسب خصوم المالكي دائما، فلقد استثمرت "داعش" كل هذا الاحتقان في غياب الدولة المتصالح حولها لتبدو فاعلا أساسيا. وهنا تقاطعت مصالح الغاضبين والثائرين مع مصالح "داعش"، وهو الوضع الملتبس الذي اختاره المالكي بميكيافيلية حادة لتصوير المشهد كما لو كان صراعا بين الشرعية والفتنة، وبين السياسة والإرهاب.
قد لا تكون هذه القراءة مقنعة بهذا القدر أو ذاك ، لكن المؤكد ان الأمر على درجة بليغة من التعقيد إذ لا أحد يتصور إمكانية الحل على المدى القريب.
نفس التعقيد بدا جليا على مستوى نوعية تفاعل المجتمع الدولي، فلقد تأكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تتردد في اتخاذ القرار الملائم بالنسبة إليها بخصوص التدخل من عدمه. ولذلك عبر وزير خارجيتها عن فكرة أن كل الخيارات مفتوحة، فيما يواصل الرئيس أوباما اجتماعاته مع محيطه السياسي والعسكري لتدارس هذه الخيارات. نفس التردد يطبع الموقف الإيراني الذي لم يتحدث عن إمكانية التدخل إلا في ما يتعلق بحماية العتبات المقدسة، كما لو كانت هذه العتبات أغلى من الدم العراقي، ومن سيادة ووحدة العراق.
بعيدا عن لغة الحسم العسكري، طرح إياد علاوي رئيس الوزراء الأسبق مبادرة سياسية تقوم على ضرورة تبني خارطة طريق متضمنة "بندين رئيسين: المصالحة الوطنية لضمان عملية سياسية شاملة لا تقصي سوى الإرهابيين والقتلة وسراق المال العام، وإعادة تشكيل المؤسسات الوطنية الرئيسية ".
أما البند الثاني فيشمل " تشكيل حكومة وحدة وطنية، تضم القادة السياسيين الأساسيين، بالإضافة إلى شخصيات محدودة من التكنوقراط "، وذلك تأسيا لحوار جديد يقوم على فكرة الشراكة، وعلى الإعلاء من قيمة العمل السياسي والقضاء على الإرهاب.
فهل ينصت المالكي وكل الفاعلين لهذه المبادرة أو لما يشبهها حقنا للدماء؟ أم أن التعنت سيبلغ مداد لتكون بغداد على موعد مع سقوط جديد؟