الأحد 24 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

محمد بن خالي: قصائد الإمام البوصيري بين جمالية النص الشعري وترسيخ القيم

محمد بن خالي:  قصائد الإمام البوصيري بين جمالية النص الشعري وترسيخ القيم محمد بن خالي بن عيسى
من خلال تتبعي واهتمامي بقصائد الإمام شرف الدين البوصيري (1) رضي الله تعالى عنه ، التي تنشد في مختلف مناطق المملكة ، في الأيام الإثني عشرة الأولى من شهر ربيع الأول ، وهي القصائد التي تصنف من أروع وأجمل قصائد الشعر العربي ، فقد لاحظت اختلافا كبيرا في طرق إنشادها بين مختلف المناطق المغربية ، فلكل جهة تقريبا طريقتها الخاصة في الإنشاد ، وذلك من ناحية الإلقاء والوزن والصوت والنبرة وترديد اللازمة ، إلى غير ذلك من الخصوصيات الشعرية بين مختلف الحواضر المغربية .
غير أني اعتقد جازما ، أن ما ترسخ في الذهن منذ عهد الطفولة المبكرة ، أقصد طريقة السماع والإلقاء ، لا يمكن أن تفارق أذن السامع طوال حياته ، خاصة إذا كان مشاركا مع الجماعة في الإنشاد ، و لايمكن الاستغناء عن ما ترسخ في الذهن بطريقة سماعية مغايرة ، مهما حاولنا أن نلم بمختلف طرق الإلقاء الأخرى في باقي المناطق المغربية و الحواضر الإسلامية ، ومهما أعجبتنا وأطربتنا طرق الإلقاء المختلفة عن ماعهدناه، فلا يكمن أن تقارن ما ألفته أذنك من الصغر إلى ان اشتد عودك، وأيضا بين ما تتحكم فيه النفس ويحرك لواعجها من احاسيس داخلية ، مع ما لا يحرك فيها إلا النزر اليسير من القشرة الخارجية للوجدان ، وذلك راجع للتعلق الشديد بالمكان والزمان الماضي والذكريات وما بقي عالقا في الذهن منذ الطفولة ، أي ما ترسب في الذاكرة .
فما انغرس من عهد الطفولة المبكرة ، لا شك ان النفس تميل إليه بمحبة وشغف كبيرين وانس ووحشة ، رغم ان الطرق الأخرى في الإلقاء ، لها جماليتها ورونقها ، ولها مكانة خاصة في نفوس من شب عليها، وقد يقول عنها أصحابها نفس الكلام ، اي أنهم مولعون بطرقهم ، وبما شبوا عليه ، وما شبت عليه اذانهم السماعية منذ صغرهم ، مهما حاولت إقناعهم بالانفتاح على طرق سماعية مغايرة ، فمثلا طريقة أهل الرباط وسلا، غير طريقة اهل سوس ، واهل سوس غير طريقة اهل الصحراء المغربية، واهل الصحراء غير طريقة اهل الشمال واهل الشمال غير طريقة اهل الغرب الخ .
غير أن، ما لفت انتباهي وشد اهتمامي، هو طريقة أهل الجنوب الجزائري، بمنطقة آ درا، وبالخصوص مدرسة الشيخ المغيلي بانزجمير، اذ تشبه كثيرا، وإلى حد بعيد ، طريقة أهل الجنوب الشرقي المغربي ، خاصة حاضرة تافيلالت، الرشيدية والنواحي ، وذلك من ناحية الإلقاء والنبرة والصوت والوزن وترديد اللازمة ، وكأنك بأحد مساجد الرشيدية ، خاصة بمسجد بلدتي بقصر القصبة الجديدة بمدغرة، حين كنا ننشد البردة والهمزية وقصائد سبائك الذهب ونحن أطفال، الشيء الذي يختلف كثيرا، عن أهل المناطق المغربية الأخرى من ناحية الإلقاء وكذا الإيقاع ، وما تشابه أهل منطقة ادرار بجنوب الجزائر مع الجنوب الشرقي المغربي، فمرجعه طبعا إلى عوامل تاريخية وسياسية مضت، ليس الوقت مناسبا للخوض فيه .
إنني وكما عشت تلك الاجواء الروحانية منذ طفولتي في المسجد في ذكرى المولد النبوي الشريف، في الأيام الاثنى عشرة من شهر ربيع الأول ، لا أملك إلا أن أحب تلك الطريقة الرائعة التي تأسر الروح والعقل والفؤاد والوجدان، والتي ساهمت في تكوين جزء من شخصيتي ، فطريقة الإنشاد الجماعي بالمسجد، تجعلني أتذكر مشاهد ومقاطع الأبيات الشعرية، وكأنها مشاهد حقيقية أمامي، وكيف ان الله تعالى وهب للإمام البوصيري رضي الله تعالى عنه، تلك الروح العجيبة التي استطاعت ان تنشد تلك القصائد الرائعة، وهو يسردها وكأنه فيلم يمر أمامك، من أحداث السيرة النبوية من مولده صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، والأحداث تسرد بطريقة سلسلة وبلغة جميلة ورائعة .
وما يزيد من جمال إنشادها والتغني بها، هو الإلقاء الجماعي الذي يختلف عن الإلقاء الفردي كثيرا، فالانغماس الجماعي في سرد الأبيات بلحن واحد وموحد يكسب الفرد إحساس ولا اروع يسبح بصاحبه في عوالم ربانية وروحانية فريدة، تسمو فيه الروح ويتحقق بها الالتحام النفسي بعالم ما وراء المادة ، ويرتوي وجدانه وبدنه ، ويغترف من حوض المحبة النبوية، ويبتعد الفرد المسلم ولو قليلا عن ادران المادة التي تطوقه وتحاصره من كل جانب ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه ، وتعداد مناقبه الشريفة ، يحي القلوب المتخشبة والميتة، والنفوس المهزوزة القلقة والحائرة, وهذا الذكر والمدح الجماعي ايضا يعزز ويقوي لحمة الجماعة ويوطد اركانها ويشد بنيانها ، ويغرس قيم صلة الرحم ويفشي المحبة والسلام بين افراد القبيلة والجماعة .
انني استغرب أشد الاستغراب، من أولئك الذين يعيبون علينا إنشاد تلك القصائد المديحية الرائعة من أتباع التيار السلفي ، بزعم انها تضمنت شركيات أو بدعيات، وأنها لا تستحق كل هذا الاهتمام ، فربما امزجتهم فاسدة لاتعرف للغة الجمال سبيلا، ولم يجعل الله لهم من داخل افئدتهم إلا افكار التبديع والتفسيق والتكفير، وهم اجهل خلق الله بمراد وقصد الشاعر، فقلوبهم الجامدة، لاسبيل لها لتتذوق عذب الشعر، ولا قصد الشاعر من تلك المسائل، التي أشاد بها كبار العلماء عبر التاريخ ، وفسروها تفسيرا لائقا ، ينفي عنها البدعة والشرك ، فالبوصيري رضي الله تعالى عنه ، وقبل ان يكون متصوفا سنيا ، فهو فقيه وعالم قبل كل شيء .
كيف نحرم أجيالا من أمتنا من هذا العطاء الرباني الطافح، ونرمي القصيدة بالشائعات ، ثم نترك شبابنا للتفاهة تلتهمه التهاما ، وللذوق الفاسد يطوقه ويقتل فيه كل محاولة للتعرف على جمال روح حضارتهم وارثها الغني، خاصة في زمن العولمة الذي أفسد قيمنا وتركنا فريسة لكل العاهات، ورسخ فينا قيم الفردانية و الاستغلال والانتهازية وحب النفس والحقد والبغض ، و نشر الفسق والعري والعهر والمخدرات والكلام النابي المنحط وكل ما يحط من كرامة الإنسان، اليس تعليم اطفالنا مثل تلكم القصائد الرائعة أولى واحق بالعناية في مدارسنا وجامعاتنا؟
إن تنمية الذوق وتهذيب الأخلاق وتحصين دين وعقيدة الأطفال والشبان ، لا يتم إلا عبر مثل هاته الحوامل اللغوية التي جمعت الذوق الشعري الرفيع ، واللغة والبلاغة والتاريخ والعقيدة وعلم الأديان ، والسيرة ، فموضوعاتها متنوعة وكثيرة، من ذكر مولده الى بعثته صلى الله عليه وسلم ، ومن ذكر نسبه الشريف ، الى ذكر هجرته عليه السلام، وكذاك ذكر قصة الإسراء والمعراج، والمعجزات والخوارق، إلى ذكر الخمسة المستهزئين الذين اهلكوا ، ثم الخمسة الذين نقضوا مبرم الصحيفة ، وقصة الشاه المسمومة ، وذكر فساد عقيدة التثليث، إلى ذكر مناقب الصحابة الكرام، والعديد من المواضيع التي لا يمكن الإحاطة بها في هذا المقال.
فهل مثل هذا الشاعر العظيم، يقصف وتبخس أعماله الفنية الرائعة وينفر الخلق من أشعاره، كيف يتجرأ بعضنا ليحرم شبابنا واطفالنا من مثل هذا الجمال؟ ولا يفتح فمه عندما يرى مغني راب ينطق بكلام فاحش أمام آلاف الشباب من المراهقين والأطفال، إلى اين نسير بعد ترك هذا الفراغ القاتل؟ أليست هذه القصيدة وغيرها منبر توعوي للتحصين بأنواعه؟ التحصين الروحي الهوياتي الذي يشعر الطفل بالفخر والاعتزاز بالانتماء الى هذه الامة الاسلامية ويغرس في نفسه قيم الخير وحب الآخر، والتحصين اللغوي عن طريق مد وشحن الأطفال والشبان بمفردات متعددة وعبارات بليغة، وبكل صنوف الإبداع الأدبي واللغوي من استعارات ومجاز وجناس وطباق وتورية وقافية وسجع ومحسنات اللغة البديعية، وبذلك يصبح عقل الطفل أكثر نضجا وتمرسا على اللغة وطرق استخدامها مع الاستفادة من حواملها القيمة لله ذر البوصيري رحمه الله من شاعر عظيم وفقيه حصيف.
هوامش:
(1) محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري (608 هـ - 696 هـ / 7 مارس 1213 - 1295) شاعر صنهاجي مصري , من أصل مغربي، اشتهر بمدائحه النبوية، أشهر أعماله البردة المسماة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية».