الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

يونس وانعيمي: الدستور لا يخلق لغة

يونس وانعيمي: الدستور لا يخلق لغة يونس وانعيمي

انتشى معانقو "عقيدة" الأمازيغية عندما وفر المغرب وضعا دستوريا لهذه "اللغة" التي لطالما ناضل روادها من أجل أن تحظى بهذا الطابع الرسمي غير المسبوق. وكان هؤلاء الرواد قد اعتادوا بالصدفة على حيازة مكاسب هيكلية لفائدة قضيتهم اللسنية-السياسية في كل عشر سنوات: فبعد مرور عشر سنوات على خطاب أجدير وإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية IRCAM سنة 2001، جـاء دستور 2011 ليمنح للغة الأمازيغية صفة دستورية كلغة رسمية "ثانية" بعد اللغة العربية. وها هي مطالب الرواد تتكاثف بعد مرور عشر سنوات (ابتداء من 2021) للدعوة "الصارمة" الموجهة للدولة قصد قطعها مع سلوك التسويف ومباشرتها بوضع آليات الترسيم المؤسساتي الفوري للأمازيغية (سياسيا، قضائيا، تعليميا، إعلاميا...). فالأمازيغية اليوم بالمغرب أصبحت مسألة إحقاق حق دستوري لغوي وهوياتي لا يقبل أية مماطلة حقوقية وسياسية من طرف مؤسسات الدولة.

لكن، ومقابل استقواء الأمازيغيين اليوم بالدستور (ونقصد بهم المترافعين الحاليين حول تنزيل وضعها الدستوري) وهو للذكر نظير لاستقواء الإسلاميين السابق بالطابع الدستوري للإسلام كدين الدولة، فإن الوضع اللغوي والتداولي والاستراتيجي للأمازيغية كلغة رسمية، تعترضه جملة من العراقيل المنهجية والمزايدات التي جعلت العقيدة اللغوية للبلاد واختياراتها اللسنية محفوفة بالغموض والمجازفات؛ وهو تقريبا نفس وجه الغموض الذي ظل يشوب رغبة الإسلاميين في إحلال دولة الخلافة بالمملكة الشريفة والتي يعد الإسلام أحد (وليس كل) قوام شرعية ومشروعية الحكم بها.

التنوع والتعدد

تبقى أولى مرتكزات "وجوب" دسترة الأمازيغية، في نظر روادها، هي ما نقره جميعا بأن للمغرب حالة من التنوع الثقافي والتعدد اللغوي كمبرر لإرساء "لغات رسمية" شرعية وليس لغة واحدة. لكن، يصعب علينا أن نحتفي بذلك التنوع الثقافي والتعدد اللغوي "المحتمل" للمغرب بدون أن نفسح لنا إمكانيات المقارنة مع أنظمة ثقافية ولغوية أكثر منا تنوعا وتعددا. كما ستصيبنا هذه الشوفينية (إحساسنا الذاتي أننا متعددون متنوعون) بالتحجر ونحن لم نستقص بعد وبشكل موضوعي كيف دبرت دول وأمم وحضارات "معضلة" تنوعها الهوياتي وتعددها اللغوي، مقابل سعيها الذكي نحو توحيد كل ذلك الشتات لتوطين عقيدة "لغوية" توحيدية monolithique سمحت لها بالتعايش الذكي مع : التقانة المعولمة، والتواصل الإنساني المعولم، والاقتصاد والعلم والمعرفة... المتوجه حتما للوحدة وليس للتعدد اللغوي.

في الهند مثلا، هناك مئات اللغات وآلاف اللهجات، وبها منظومات عقائدية فسيفسائية مركبة ومعقدة، بل وبينها صراعات إثنية محتدمة (تجعل تعايشها مستعصي أحيانا) وبجانبها باكستان. وفي أفريقيا هناك رواندا والكونغو وساحل العاج... التي لها نفس التنوع "المتعايش". والأصل الحضاري المتنوع، بروافده اللغوية المتفرعة، لم يمنع أبدا أن تقوم هذه الدول بفصل منهجي واستراتيجي بالغ الأهمية: الفصل بين الفضاء الثقافي حيث يمكن التكلم بالكلام الأصلي "للأم"، وبين الفضاء المؤسساتي الاستثماري (الاستثمار في المستقبل ومع العالم) التقني المعولم، حيث لا مناص من التكلم بلسان لغات العالم الحية (كالإنجليزية والإسبانية والصينية والعربية). هذا طبعا لا يعني أن هناك لغات ميتة تقابل لغات حية، ولا لغات نستعملها سريعا ولغات نحفظها في أقبية باردة، بل الواقع يفرض وجود لغات انتمائية هوياتية (لها فضاءات تعبيرية خاصة) ولغات مصيرية تعايشية (تفرض تحولات واستثمارات)... حيث الإنسان، في نهاية المطاف، كائن مجبول على المثاقفة والتأقلم والتعايش ليعيش ولو على حساب تحوير أصوله اللغوية والثقافية.

إنه من المجازفة، لكنه حقيقي، القول بأن اختيار دول معينة للغات حية، قد ساعد مسارها التنموي، وذلك بفضل تساميها الطوعي والقسري على لغاتها الأصلية sublimation linguistique وتجاوزها لها في "الفضاءات الاستثمارية" (الاقتصاد خصوصا) ، مما سمح لها بتسريع وثيرة النمو والاندماج المعولم... لغات السواحيلي مثلا كانت وما تزال لغات هوياتية شاعرية قوية من ناحية الأصالة للعديد من دول الساحل الأفريقي، لكن هذه الدول، لما قررت الرفع من نواتجها الإجمالية في التنمية والوصول لآفاق منفتحة في العالم، وضعت عقيدة لسنية منفتحة على لغات الاستثمار والتقانة والتواصل المعولم...بشكل مبسط، قررت خلق فضاءات لتعيش فيها لغاتها بسلام وانسجام بدون تناقضات ولا تصدع لسني وهوياتي مع إكراهات العولمة (العالم لا يتكلم سوى لغته). ولا يجب أن ننس التضحية اللغوية العظيمة التي قامت بها دول أوروبا نفسها (وهي تعطينا هنا درسا تاريخيا عظيما في التجاوز)، لما أقرت الاستقلال عن "عقدة اللغة اللاتينية" وتخفيف التبعية إليها بنفضها من منظومة التعليم اللغوي وتحرير الأوروبيين من لغة، هي فعلا أصلية ومنبعية langue de souche، لكنها تحمل معها معيقات أمام واجب انفتاح أوروبا على العالم. اللاتينية طبعا لم تذهب قسرا لمزبلة التاريخ وإنما ذهبت للفضاءات المعرفية الخاصة بها كلغة "اركيولوجية" موضوعة رهن إشارة المتخصصين. فقط تمت إزاحتها نحو "مجال التاريخ" بدل إقحامها قسرا في مجال استشراف المستقبل.

ماذا أقصد من كل هذا فيم يتعلق بالأمازيغية؟

الطبقات الوسطى هي من تحدد اللغات الوسطى، وهي لغات مشتركة للتنمية والتجاوز والتطور والتوحيد: فما دفع الفراهيدي وابن منظور وديدرو وغيرهم من "البورجوازيين" القلقين حيال تقعيد لغات التطور، هو ما دفع جون بياجي وشومسكي وسايمون ديك، وربما دوسوسير وكريستيفا...للإقرار بشيء بسيط وواضح: المشاريع اللغوية باختلافاتها الفونولوجية والسيميولوجية والإيثيمولوجية والتداولية، لا يمكن أن يكون لها قيمة ايبستمولوجية إلا في اتجاه البحث عن مقومات توحد لغات البشر للإسراع بوثيرة تواصله وذكاءه ونماءه المشترك...أما السير نحو "الحفريات اللغوية" لإبهارنا باللغات الصغيرة المتفرقة المتعاظمة في القدم والأصالة والتي، فقط، كان يتكلم بها "السوالف"، وجعل ذلك مبررا لإعادة إنتاجها وترسيمها القسري بل ودسترتها، فذلك يضرب الفلسفة الوجودية اللغوية برمتها. نعم، أجدادنا كانوا في غالبيتهم أمازيغ، والأمازيغية كانت هي أيضا موضوعا لإسقاطات تماس مع الفينيقي والأفريقي (خط التيفيناغ منقول من كتابات فينيقية سابقة)...نعم كانت أزمنة توهج كل ذلك، ثم أفوله أمام تمدد الحضارة العربية الإسلامية التي مارست تسلطا فظيعا على المقومات الأمازيغية المحلية وأقصتها من مؤسساتها (الدينية والعسكرية والنقدية)، ثم تفاقم ذلك أمام إرهاصات المثاقفة مع ذلك الأوروبي المستعمر الذي جاء بدوره ليقوض المقومات العروبية مادامت تعيق امتداده...واليوم يفتح لنا العالم الافتراضي المرقمن فرص تحررية واضحة وحقيقية من ذلك المستعمر الأوروبي القروسطي الذي جثم على أنفاس كل مقوماتنا الحضارية المتنوعة ليضعنا أمام استيلاب لغوي جديد لكنه مهيمن. الأكيد هو أننا لن نعايشه ولن نتجاوزه بذات الانكماش اللغوي الفلكلوري المتماهي مع أصول بائدة... الذكي هو ترتيب فضاءات اللغات ووظائفها بغير المجازفة في منح لغة معينة أدوارا جمة لا تمتلكها أصلا.

اليوم، التنوع والتعدد شيء مبهر وجدير بالاهتمام في عالم أحادي اللغة والتعبير وليس العكس (كما يتصور الهوياتيون). نعم لنا فرص سانحة للاختراق وليس للانكماش (خذ هاتفا وصور فيديو وترجم ذلك للأنجليزية او الصينية مثلا)... وسبل اختراق العالم اللغوي المعاصر لن تقوم إلا بالتكلم بلغته وليس العكس. والاختراق لن يكون نسقا وتكتيكا لتغيير عالم توحيدي باستعمال عوالم منشطرة éparpillés لغويا بل بإبراز كم أننا قادرون على ولوج شفرات دخول عالم نسقي بلغات نسقية تم الحسم المسبق فيها.

لنعبر عن تنوعنا بلغات العالم المتفاعل وليس العالم "الميت" المتراص في المعاجم والمتاحف. ثم هذه الطبقات الوسطى القلقة لغويا وثقافيا (كما قلت سابقا)، هي اليوم تأخذ تذكرة ذهاب بلا عودة هي وأبناؤها نحو الأنجليزية أولا ونحو لغات حية أخرى: لغات حية بالكم الهائل للمستعملين، وبالكم الهائل للمتون التي يتم انتاجها سواء علمية أو تقنية أو فنية أو رياضية، وبكم براءات الإختراع المسجلة بها وصفة الحي هنا ليست أبدا حكم قيمة ولكنه حكم إجراء... لا أظن أن من سيفرض على أطفاله الأمازيغية كلغة أساسية، ستكون غايته تعليمهم فنون الوجود والقتال بأوروبا وفي العالم... وأشك أن اشد "المتمزغين" سيفرض على نفسه وعلى أطفاله الكلام والتعبير والتعلم الحصري بالأمازيغية (أرجوكم هي جميلة للغاية). والله من أجد الناطقين الأصليين بالأمازيغية أذكياء في توظيف لغتهم بشكل أذكى من أولئك المتمزغين السياسيين، حيث وأبي وجدي وجدتي (وهم للذكر أمازيغ) قرروا أن لا ينطقوا بلغتهم الأصلية إلا في أمورهم الأصلية جد خصوصية... وهذا حال الأمازيغي بيننا (وليس في ذلك أدنى نقص) حيث تراه "معرب ومفرنس" بشكل مبهرـ ويحتفظ بلغته الأم للتعبير عن الوجدان الخصوصي بدون مركب نقص.

الهوية نصنعها معا ودوما

الطابع الدستوري للأمازيغية يحتمل تأويلا دستوريا.

أولا الأمازيغية هي لغة للمغاربة وهذا اعتراف بمقوم ثقافي لا يتنازع عنزان حوله. بحيث لكل مغربي ناطق بالأمازيغية أن يتكلم بها في مرافق الدولة وأن يطالب الدولة بتحضير مواءمة لسنية تتناسب مع لغته كمواطن. لكن ذلك لا يكون على حساب لغة الدولة التي يثبت الواقع أنها عربية فصحى وفرنسية، مفروض عليها الانفتاح على المقومات اللسنية الأخرى (بشروط قانونية مسطرية) : ما يزال إيطاليون محليون يتكلمون لاتينية قديمة وما يزال أتراك يتكلمون عثمانية قديمة وما يزال أمريكان يتكلمون مورمونية قديمة وما يزال فرنسيون يتكلمون غولية قديمة ... الدولة من واجبها إدماج الجميع في لغتها وما تماهيها اللغوي مع المحليات سوى تكتيك مرحلي.

الأمازيغية ثانيا هي تعسف لسني على لهجاتها والناطقين بها وبالتالي فهي تستعمل الضغط والسلطة اللغوية على مكوناتها منذ البدء. والدولة لن تستعمل منظومة وسطية تثاقفية لا يستعملها الأهالي الأصليون (تاشلحيت أو تاريفيت تهم الدولة أكثر من تلك اللغة التعاقدية الوسطى). وبالتالي، واسمحوا لي، فالدولة تنظر للأمازيغية كلهجات محلية وليس كلغة بطابع سياسي. وما إحداثها لمؤسسة IRCAM لم يكن سوى محاولة استنزاف مطالب سياسية داخل مؤسسة تم إقبارها ماليا وبرمجيا.

بالمقابل، التعريب بالمغرب كان سلطويا وتعسفيا وطبقيا. وربما من هذا التعسف يقتنص "التمزغ" تطرفه السياسي اليوم. اللغة العربية في العالم تسترجع مكانتها ليس لأنها لغة القرآن بل لأنها لغة النفط والبيترودولار.. إنه الاقتصاد من يغذي اللغة حيث يمكن القول: قل لي كم تملك، سيجعلني أتكلم بلغتك.. الخليج العربي باستثماراته في البنى التحتية والسينما والفن والرياضة والإعلام جعل العالم ينتبه أن مدخل هذا الإلدورادو هو لغته ودينه... وأشك أن للأمازيغية اليوم نفس فرص الامتداد الاقتصادي ينافس امتداد اللغة العربية التي تحولت منذ 1990 لرابع لغة منطوقة بالعالم بعد الأنجليزية والصينية والهيسبانية...أما الفرنسية فهي في المرتبة السادسة بعد الروسية.

سأقول شيئا لا يجرؤ أحد على قوله ولكنه استنتاج منطقي لكل ما سبق:

دستور 2011 كان دستورا توافقيا مهادنا حسب السياق التوتري الذي جاء فيه... كل مضامينه قابلة لمعاودة النقاش والتأصيل وأولها لغة الدولة الرسمية. لا نريد محاباة لا أصوليين دينيين (أصول دين الدولة) ولا أصوليين لسنيين (أصول لغة الدولة) بل ما نريده هو مغرب ذكي يحس بمقومات حقيقية وليست مزيفة وسط عالم معولم منفتح متواصل متسامح .