الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

عمر بن أعمارة: الداعية.. أو الدعوة إلى إنقاذ الناس من أنفسهم؟

عمر بن أعمارة: الداعية.. أو الدعوة إلى إنقاذ الناس من أنفسهم؟ عمر بن أعمارة
ليس لكثرة ووفرة خطابات الدعاة والوعاظ حول نعي مجتمعاتنا المعاصرة ما يضاهيها سوى عقمها. في كل مرة، يخرج علينا من ينعي الحياة ويستنكر ما عمّ الأرض واستشرى فيها من فساد كلّي ويتنبأ بقرب نهايتنا والفناء تحت وقع كوارث سيسلطها الله على عباده العصاة المارقين لحظة غضبه وأن الحل هو أخذ مقعد داخل الفرقة الناجية وطريق النجاة الوحيدة هو في الرجوع إلى ما كان عليه السلف.
هذه النظرة الدونية إلى المجتمع، هذا الاستصغار والحكم على البشر كقاصرين، يسكن عقول فئة من الشيوخ؛ ولّد لديهم هوس الوصاية وإنقاذ الناس من أنفسهم ومن معاص وذنوب استفحلت واقترفت تحت أيديهم، وحوّل بعض من هؤلاء الدعاة إلى مُعادين للبداهة، فبعد أن ركبتهم أوهام حول أهميتهم في الكون، صارت لهم ادعاءات تخليص العالم من الشرور والألم، ولسان حالهم يردد ما قاله السيد قطب:"مجتمعات الجاهلية".
نحن مجتمعات بلا فضيلة والوعاظ وحدهم حراس القيم والأخلاق ومحاربي الرذيلة، لقد بعثوا لينفخوا فينا من فضائلهم، هكذا يعتقدون جازمين.
ما هو نمط العيش ونوع العالم الذي يقترحه علينا هذا الرهط من الشيوخ؟.
إنهم يدعوننا إلى يوتوبيا البؤس والجلوس إلى مائدة الخراب والموت حيث ينصبون خيامهم ويقيمون مآتم يومية: لا فنون لا مسرح لا سينما لا رقص لا موسيقى لا إبداع لا متعة لا حياة... تأبينات تلوى التأبينات ونفث الكراهية تحت خطابات متخمة بالضغينة والعداوة حد جعل الحياة لا تطاق.
إنهم يسعون إلى أن يقتلوا فينا الفرح وكل ما هو جميل ومثير للحياة ويحولوننا إلى مجتمعات للغربان...أليس من الجنون أن نطارد حلول مشاكلنا في ماض أجدادنا الذي لم يعد قابل للسكن وللعيش؟.
في كل مرة ينصّبون مقصلة للفنون ويقيمون محاكم للتفتيش ويضعون الحدود والسياجات حيث يدعون إلى تقابلات مقيتة، جائرة لا تستقيم، بين الحرية والعهر بين الفن والفجور بين الغناء والبغاء بين الرقص والانحلال بين العقل والزندقة بين الحداثة والفناء...
ينتصب الداعية كمخلص وحارس ويصير نجما فيصبح مطالبا بحضور دائم ووبخطابات حماسية مسترسلة لتنشيط الجماعة وتحفيز المريدين وتثبيت استمرارية نجوميته. هكذا يتحدث في كل شيء مما في البر والبحر والسماء، يفتي في العقائد والشعائر والشرائع، يمتد لسانه إلى العلوم فيحدث في جغرافية العالم وفي تاريخ الحروب، ثم يعرج إلى الطب والتداوي بالأعشاب وعلم الأجنة وعلم الوراثة والفيزياء والكمياء والنووي والهندسة والبستنة وتسيير المقاولات وتربية الأطفال والتعليم وطبقات الأوزون ونسبية اينشتاين والثقوب السوداء. يسعى لأن يصبغ كل الأماكن بلون واحد ويعيد كل الأزمنة إلى زمن واحد ويجعل كل الألسنة لسانا واحدا.
عندما نقول هم ضد كل ما هو حياة وجمال؛ نعني أنهم ضد التعدد والاختلاف وأنهم يحثون على النمطية ويسعون إلى تكريس الوثوقية واليقين والمطلق؛ وفي ذلك دعوات إلى الموت.
فرجاء لسنا قاصرين كما تعتقدون! كفّوا عن إعطائنا الدروس في الحياة ولا حاجة لنا الآن ولا غدا لأن نجذف ضد العصر، فلا تنعوا إلينا عالمنا ذمّا أو هجاء… فالحياة أقوى من كل التأبينات ونحن نحبها ما استطعنا إليها سبيلا.