الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

مشروع قراءة جديدة في قصيدة "اَلْعَلْوَةْ" بنفحة صوفية من "علم" الباطن (ح/3)

مشروع قراءة جديدة في قصيدة "اَلْعَلْوَةْ" بنفحة صوفية من "علم" الباطن (ح/3) الباحث عبد الرحيم شرّاد مرتكزا على معطيات ذات الصلة بالسياق التاريخي

هل أغنية "العلوة" هي قَصِيدَةْ صوفية، أم عَيْطَةْ أو سَاكَنْ؟ وهل تعرض النص الأصلي للتحريف والتشويه والبتر والزيادة فيه؟ الجواب عن هذا السؤال يأتي في سياق البحث الذي قام به الباحث عبد الرحيم شرّاد مرتكزا على معيطات ذات الصلة بالسياق التاريخي، وشهادات فنانين، وزياراته الميدانية لمنطقة الشاوية. واعتمادا على منشوراته وفي سياق بحثه واقتفائه أثر الشاعر الزجال، المتصوف "سيدي امحمد البهلول"، والذي أدرك الكثير من أسرار عِلْمِ الباطن.

وفي هذا الإطار يقول الأستاذ عبد الرحيم شرّاد بأنه كلما توصل إلى معلومة إلا وزاد يقينه بأن (قصيدة العلوة) هي من كلام هذا الشاعر الذي عاش في القرن 17 الميلادي".

وتعميما للفائدة وفتح نقاش في الموضوع تنشر جريدتي "الوطن الآن" و "أنفاس بريس" أجزاء من منشورات الباحث عبد الرحيم شراد.

 

النص الأصلي لقصيدة العلوة تعرض للتشويه والتحريف من طرف المغنيين الشعبيين

حسب بعض الروايات فقد أشار عبد الرحيم شراد إلى أن العلامة أبو الحسن اليوسي كان قد تناهى إلى علمه أن شخصا يدعي أنه يمكن أن يسقط على قبيلة أولاد سعيد فريضتي الصلاة والصوم. فتوجه "اليوسي" في بعض الجند والعسكر للبحث عن هذا الشخص، الذي هو في الأصل سيدي امحمد البهلول. وهنا سيدور بينهما حوار مفاده بالمختصر أن الشيخ "امحمد البهلول" لم يقل كلاما يتنافى مع الدين وإنما كان قصده الدعاء على أولاد سعيد من فرط محبته لهم أن يصابوا بالحمق وبالتالي ستسقط عليهم الفرائض

وفي قصيدة العلوة (يقصد النص الأصلي) توجد بعض الإشارات الواضحة لهذا الحدث، مثل تصريح إيمان الشيخ امحمد البهلول المطلق بالتوكل على الله وذلك في قوله: "وَالَلَّهْ مَا نَرْفَدْ هَمْ/ وَلَا نْخَمَّمْ فَاشْ نْعِيشْ/ اَلْبَيْضَةْ اَلِّلي كَانَتْ مَحْ وَلَّاتْ عْظَمْ وُ رِيشْ" .

ثم هناك إشارة صريحة للقاء "البهلول" بـ "اليوسي"، حيث تقول القصيدة: "يَاكْ جَا عَنْدِي اَلْحَسَن مَا صَبْتْ مَا نَعْطِيهْ / هَزِّيتْ كْفُوفِي لِلَّهْ هُوَ اَلْقَادَرْ بِيَّا وُ بِيهْ".

لقد زار عبد الرحيم شراد منطقة البهالة ووقف على مكان يسميه الأهالي إلى حدود اليوم "شَعْبَة اَلْحَسَنْ". و يقولون أنه المكان الذي التقى فيه "اليوسي" بـ "البهلول" . لكن للأسف الكثير من المطربين الشعبيين اليوم في الأعراس يغيرون إسم "اَلْحَسَنْ" بأسماء الحاضرين من المدعوين بغاية جمع "اَلْغْرَامَةْ". مع أن الكلام هنا صريح ويظهر أن "البهلول" أكرم "اليوسي" ومن معه من الجند بفضل من الله سبحانه وتعالى. بعد هذا سيشير "البهلول" في القصيدة إلى ما دار بينه وبين "اليوسي" عن فحوى الكلام الذي قاله عن أولاد سعيد و في ذلك يقول: "اَلْعَالِي شِي مَا خَفِيكْ / كُلْشِي بِينْ يَدَيْكْ / يَاكْ ﯕَالْ لِيَّا ﯕَلْتِي / وَأَنَا شِي مَا ﯕَلْتُو / وَحَقْ رَبِّي اَلْمَعْبُودْ / كْلَامِي مَا بَدَّلْتُو ".

إن غاية الأستاذ عبد الرحيم شراد من هذا البحث والنبش في قصيدة العلوة، هو أن ينفض الغبار عن نص أصلي تعرض للكثير من التحريف والتشويه على يد المطربين الشعبيين الذين يتغنون بالكلام بعيدا عن ربطه بسياقاته و ظروف قوله .

 

في الحديث عن زاوية " سِيدْ اَلتَّاغِي"

إن الحديث عن قصيدة "العلوة" وتصحيح ما طالها من زيادات وتحريف، خصوصا على يد العوام من الناس، يكشف على أن "كل قبيلة من قبائل المنطقة تحاول أن تلحق بها بعض الإضافات بهدف كسب قيمة رمزية بين القبائل"

في هذا السياق ركز الباحث عبد الرحيم شراد على إضافات وتحريف للنص، وهي تخص الإشارة إلى "زاوية سِيدْ اَلتَّاغِي". على اعتبار أغلب المطربين الشعبيين وللأسف يرددون أثناء غناء "العلوة " ما يلي: (أَنْتَ سِيدْ اَلتَّاغِي / الطُّلْبَةْ فِيكْ تْلَاغِي). إن كلاما مثل هذا للأسف لا يمكن أن يردده إلا من يجهل معنى كلمة "اللغو".

وأوضح شراد بأن زاوية "سيد التاغي" الموجودة على مقربة من مدينة ابن أحمد يعود تأسيسها إلى سنة 1805م على يد أحمد التاغي ابن مسعود المزداد سنة 1776م والذي عرف عنه أنه حفظ القرآن الكريم برواية ورش. وأنه أسس هذه الزاوية لتدريس القراءات السبع للطلبة وبالتالي ما دام الأمر يتعلق بحفظ وتدريس القرآن الكريم، فلا يمكن أن نربط قراءة القرآن بـ "اللغو". لأن "اللغو" في معناه هو الكلام بدون معنى ولا فائدة ترجى من ورائه. وإن من صفات المؤمنين الإعراض عن اللغو، كما جاء في الآية 3 من سورة المؤمنون: (والذين هم عن اللغو معرضون).

حديث في إزالة اللبس عن قصيدة "العلوة"

حتى يزيل بعض اللبس فإن أغنية "العلوة" كما يقول عبد الرحيم شراد، هي قصيدة صوفية تعود إلى القرن 17 الميلادي، بخلاف أغنية "اَلْقُبَّةْ" فهي أغنية شعبية تعود للنصف الثاني من القرن 20. وحسب بعض الشهادات التي استقاها الباحث من بعض العارفين فكاتب كلمات "اَلْقُبَّةْ" شخص يلقب بـ (وَلْدْ اَلرَّامُو).

وقد جاء في مستهل كلمات الأغنية قول كاتبها مصرحا بالقصد والغرض من نظمها، وهو تمجيد قبة ضريح الشيخ سيدي امحمد البهلول: "بْغَيْتْ نْمَجَّدْ اَلْقُبَّةْ/ قُبَّةْ عَزْرِي اَلْعَلْوَةْ" .

يوضح الباحث عبد الرحيم شراد بأن عزري العلوة هو لقب من ألقاب سيدي امحمد البهلول. وأن كاتب كلمات أغنية "اَلْقُبَّةْ"، كان قادما من مكان منحدر في اتجاه الضريح وهنا سينتبه إلى أن بناء القبة ليس بالقوة والصلابة المطلوبة. وسبب ذلك هو أن العامل المكلف بالبناء (لَمْعَلَّمْ) قد غشّ في المواد المستعملة: "طْلَعْتْ مْعَ اَلسَّيْلَةْ (أي السَّيْل . والغالب أنه كان قادما من منطقة "اَلشْعَيْبَاتْ" صعودا في اتجاه الضريح). "طْلَعْتْ مْعَ اَلسَّيْلَةْ/ اَلْقُبَّةْ جَاتْ قْلِيلَةْ/ لَمْعَلَّمْ دَارْ اَلْحِيلَةْ/ خَلِّيهْ مَنُّو للهْ" .

فالظاهر حسب منطوق الكلام أن قبة الضريح لم تكن في مستوى البناء الذي كان منتظرا، لذلك ستكون أول فرصة لإعادة تشييدها مع قدوم أبناء المنطقة الذين يقطنون مدينة الدار البيضاء، والذين سوف يجتمعون في ضريح جدهم وسيقررون إعادة بناء القبة وفق مقاييس سيحددها أحد العارفين بالبناء إسمه عباس، حيث قال كاتب الكلمات "جَاوْنَا الْبْهَالَّةْ/ الْبْهَالَّةْ بِيضَاوَةْ/ جَاوْ يْبَدْلُو اَلْهَوَى": (أي أبناء القبيلة الذين سبق وأن هاجروا إلى مدينة الدار البيضاء و استقروا بها، في الغالب كانت الزيارة خلال فصل الربيع ). ثم يضيف الكاتب: "بِدِيكْ لَمْحَبَّةْ/ نَاضُو عَمْرُو اَلْقُبَّةْ/ تَمَّةْ لَكْلَامْ تَّاوَا/ نَاضُو عْلَى كَلْمَةْ/ اَلْقُبَّةْ مَشْقُوقَةْ / وَ اللهْ مَا تَبْقَى / عَادَتْ تْنَدِّي بِالْمَا / تْجَمْعُوا كَاعْ اَلرّْيَاسْ / غَوْتُوا لِلسِّي عَبَّاسْ / هَوَ يَعْطِينَا لَقْيَاسْ/ اَلْقُبَّةْ تَطْلَعْ خْلَاصْ.." .

لقد تم تشييد القبة بالشكل المرغوب، حيث سيعبر كاتب الكلمات عن فرحته وفرحة الأهالي بالقول: "قُبَّةْ جَدِّي طَلْعَتْ/ لَبْهَالَّةْ كَاعْ تْجَمْعَتْ/ الجْوانَحْ كُلَهَا فَرْحَتْ / لَخْوَاطَرْ تْبَشْرَتْ". ثم سينتقل كاتب الكلمات إلى مدح مجموعة من رجال القبيلة مع ذكر كل واحد باسمه الشخصي. (أغنية "اَلْقُبَّةْ" سيتم تسجيلها على أسطوانات من 45 لفة مرة مع الفنانين (قَرْزَزْ ومَحْرَاشْ) ومرة أخرى مع الفنانين (مَحْرَاشْ واَلْعَوْنِي) ومرة أخرى مع الفنانين (اَلْعَوْنِي واَلْبَهْلُولْ) وغيرهما من الثنائيات التي يتناغم فيها العزف على آلة "لَوْتَارْ" و"اَلطَّارَةْ" كآلة إيقاعية.

وبهذا سيتحقق لأغنية "اَلْقُبَّةْ" الإنتشار السريع وستتم إضافة الكثير من كلمات قصيدة العلوة إليها مع التغني بكثير من أسماء الأضرحة والمزارات. الأمر الذي سيجعل أغلب الناس يظنون أن هذه الأغنية هي فعلا هي قصيدة "العلوة ."

مفهوم " الساكن " في الموسيقى والغناء الشعبي المغربي

في منشوراته البحثية يوضح عبد الرحيم شراد أن لا أحد يستطيع أن ينكر ما للموسيقى والغناء من تأثير على المستمع، سواء بالسلب أو بالإيجاب. وفي هذا الصدد يستشهد بقول الكاتب (أحمد تيمور باشا) في كتابه (الموسيقى والغناء عند العرب. ص124): "من فضائلها أنها تحرك الهوى الساكن وتسكن الهوى المتحرك ".

إن فعل الموسيقى في النفس واضح من خلال هذا الكلام ـ حسب الباحث ـ غير أنه يقف عند كلمة "اَلسَّاكَنْ" حيث تتخذ عندنا نحن المغاربة معنى آخر. إنه الموسيقى والغناء الشعبي، الذي يأتي فيه ذِكر أسماء الأولياء الصالحين ومزاراتهم والألقاب التي اشتهروا بها، حسب كراماتهم، كما يزعم عامة الناس.

ويعود الباحث عبد الرحيم شراد إلى ما قاله الأستاذ أبو حميد -رحمة الله عليه- خلال مداخلته في ندوة نظمتها وزارة الثقافة بمدينة سطات سنة 1989، بمناسبة الملتقى الأول لفنون الشاوية: "اَلسَّاكَنْ ويعتمد الغناء المتحمس الصوفي الذي كان يمارس في المواسم الدينية والزيارات المتوالية للأضرحة، المنبثة في جميع البلاد. وأشهر عواصم هذا الفن مدينة أزمور على الخصوص، التي تعرف بِسَاكَنْ اشْعَيْبَاتْ وما تدخل في تصنيفه. والمضمون الشعري أذكار تتغنى بأمجاد الأولياء في العبادة والتهجد والجهاد ".

 

وإذا كان الباحث المرحوم الأستاذ أبو حميد قد قدم تعريفا لـ "اَلسَّاكَنْ" بهذا المعنى فإن الأستاذ عبد الرحيم شراد يرى "أن اَلسَّاكَنْ مُحَرِّك للشهوة، مثير للغريزة الجنسية. فيه يتحرر الجسد من سلطة تفرضها سلوكات الفرد في الحياة اليومية كما رسمتها منظومة القِيَم والأخلاق. بل إن من الناس من يرى في الساكن فرصة تتجاوز التنفيس عن الرغبات الدفينة والمكبوتة إلى ما هو أبعد، كالتخلص من الأرواح التي تسكن الجسد. حيث نرى البعض يرقص على أنغام و كلمات الساكن (كالذي يتخبطه الشيطان من المس) . من يدري فلربما الجن يطرب للموسيقى وللساكن كما يطرب الإنس".

 

في سياق متصل يقول شراد، إن قصدي من كل ما قدمت من كلام عن "اَلسَّاكَنْ" هو أن أوضح أن "العلوة" لا تدخل في هذا النمط، صحيح أنها ليست عيطة، فحتى الأستاذ أبو حميد لم يدرجها في هذا الباب. بل اعتبرها من نوع "السّاكن". وهنا نقطة الاختلاف بيني وبينه. صحيح أنه اعتبرها "ساكن" انطلاقا من كل ما سمعه من أداء "الشيوخ و الشيخات والمجموعات الشعبية "، حيث يكثر ذكر السّادات والأضرحة، لكن "العلوة" التي أتحدث عنها، خالية من كل مظاهر الشرك بالله .

إنها قصيدة صوفية، فيها الكثير من المعاني الدالة على محبة الله دون ذكر أي إسم من أسماء المزارات والأضرحة، هي قصيدة حسب رأيي تعود للقرن 17 الميلادي و نَظَّامُها هو الشيخ المتصوف سيدي امحمد البهلول الذي قال في مقطع منها: "رَبِّ وَأَنَا عَبْدَكْ / أَنْتَ مْنَزَّهْ فِي مُلْكَكْ / مُولْ اَلْمُلْكْ اَلْعَالِي / مَا بْحَالَكْ حَتَّى وَالِي" .

إن الشاعر في هذا المقطع القصير، يُقِرُّ بالعبودية لله وحده وأن الله مُنَزَّه في مُلْكه. له المُلْكُ وحده. إنه الوَلي و هذه الصفة جاءت في القرآن الحكيم. قال الله تعالى بعد آية الكرسي من سورة البقرة: "الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".