الثلاثاء 7 مايو 2024
فن وثقافة

إذاعة لوكس راديو و "قلقها" من الثقافة العربية

إذاعة لوكس راديو و "قلقها" من الثقافة العربية رشيد العشعاشي وطلال شاكر ولحسن العسبي(يسارا)
خصصت إذاعة "لوكس راديو"، الكائنة بشارع رحال المسكيني بالدارالبيضاء (وهي محطة إذاعية خاصة، نخبوية، أغلب برامجها باللغة الفرنسية بنسبة تقارب 90 %)، ضمن برنامجها اليومي "صباحات لوكس راديو" الذي يمتد من السابعة حتى العاشرة صباحا، محورا للنقاش حول سؤال مركزي يقول: "هل هناك ثقافة عربية؟"
ولأنه معرفيا وفلسفيا السؤال نصف الجواب، فإن التوجه الذي حرصت الصحفيتان أسماء سويتات وبشرى الأزهري على أخذ النقاش إليه، كان كافيا لتفسير الغاية من السؤال أكثر. حيث يكاد يخرج المستمع إلى منطوق أسئلتهما المتلاحقة حول الموضوع إلى أن الغاية من طرحه بالمجمل، هي أساسا إبراز فكرة أن شيئا اسمه "الثقافة العربية" غير موجود عمليا، وأنه وهمٌ كبير ظلت تردده جهات هنا وهناك في جغرافية المتكلمين باللغة العربية.
ولقد انساق أحد الضيوف المناقشين لذلك المحور (طلال شاكر، أستاذ جامعي في العلوم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية بالدارالبيضاء) وراء نفس التوجه الذي حرصت الصحفيتان بإصرار لأخذ النقاش إليه، من حيث إنه ظل يقدم المبررات لترسيخ فكرة انتفاء شئ اسمه "الثقافة العربية" بالمعنى الإطلاقي، بخفة يخونها أحيانا واجب التحليل العلمي المفسر والباني للأفكار والمعاني. على عكس زميله المشارك معه في النقاش (رشيد العشعاشي، الأستاذ الجامعي بجامعة بن طفيل بالقنيطرة)، الذي اجتهد في تقديم أطروحة أكثر علمية وذات سند معرفي تحليليا، حتى وإن كان المستمع قد لا يتفق مع بعض خلاصاتها النهائية.
إن طرح "صباحيات لوكس راديو" لذلك الموضوع الإشكالي غير البسيط، المتعلق بسؤال وجود "الثقافة العربية" من عدمه، إذا ما اعتبر أنه طرح بدون خلفية تمييزية (قيميا) لكل شئ مرتبط بما يمكن وصفه ب "الهوية العربية"، وانزاح المرء إلى حسن النية المهنية لتلك الإذاعة الخاصة، فإن الأمر كان يستوجب في الواقع مقاربة أخرى (ذات سند علمي تحليلي) لم يتوفق فيها كثيرا لا الفريق الصحفي ولا الضيفان المشاركان.
لأنه لا يمكن مناقشة سؤال "الثقافة العربية" بدون الإرتكاز على مركزية اللغة، بصفتها وعاء حضاريا، كما تجمع على ذلك كل علوم اللغة وعلم اللسانيات. وأنه تاريخيا، الذي خلق "الهوية العربية" هو التطور التاريخي الذي منحته اللغة العربية (المعتمدة رسميا منذ زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وبشكل أكثر وضوحا من الناحية السياسية التدبيرية مع قيام الدولة الأموية بعاصمتها دمشق) للعنصر البشري المتعدد الذي أصبح يشكل مجتمع النظام السياسي الجديد، الذي أنتجته الديانة الإسلامية الجديدة المنطلقة من بلاد الحجاز بشبه الجزيرة العربية. فهي دعوة انطلقت برجل (الرسول الكريم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي المكي) لتصبح "أمة". وأن تطور اللغة العربية، بصفتها لغة حية، تُغني وتَغتني في احتكاكها مع باقي ألسن الأمم والشعوب ومع آثارهم الحضارية، هو الذي سيبلور للناطقين بها "جسدا في الحضارة"، هو العنوان الأبرز لشئ اسمه "الثقافة العربية" من حيث هي إنضاج لبنى معرفية مركبة ومعقدة، ميزتها الكبرى، أنها أطرت جماعة بشرية (هم المنتمون للهوية الإسلامية باللسان العربي، حيث حتى الشعوب غير العربية الإسلامية قد ظلت تنتج المعاني والقيم تاريخيا بذلك اللسان العربي). ومنحتها أن تنتج معرفة تقدم أجوبة حضارية مختلفة ومغنية لباقي المعارف التي أنتجتها تجارب حضارية أخرى عبر العالم، المؤطرة بأوعية حضارية أخرى (لغوية، مثل اللاتينية بالمجتمعات المسيحية والعبرية بالشتات اليهودي واللغات الآسيوية ذات الجذر الصيني التيبتي الماندرانية).
إن "الثقافة العربية" واقع قائم فعليا، في تعددها المجتمعي والإنسي بين المشرق والمغرب، بفضل تواصل اللسان العربي حيا، من نواكشوط حتى بغداد، كوعاء حضاري. وأنها قائمة في مجمل المعاني التي أنتجتها اللغة لتأطير وجود بشري منتم هوياتيا لتلك الثقافة، كما يتجلى ذلك من خلال الإبداعات التعبيرية المختلفة (الآداب، المعمار، الخط والكتابة، الغناء، الطبخ، اللباس... وغيرها)، وكذا من خلال منظومة القوانين المتعددة والمتشعبة لتنظيم حياة الجماعة البشرية المنتمية لتلك "الثقافة" (الآداب السلطانية للحكم، المواريث، فقه النوازل وما إلى ذلك). وبهذا المعنى فإن "الثقافة العربية" منظومة قيم وأشكال ممارسة سلوكية وتعبيرية، تمنح لأهلها أن يختلفوا في شكل ممارسة الحياة بين باقي البشر فوق البسيطة، تماما مثلما هي "الثقافة الفرنسية" منظومة قيم وأشكال ممارسة سلوكية تميز الجماعات البشرية المنتمية إلى ما راكمه "اللسان الفرنسي" كوعاء حضاري عبر القرون، الذي أنتج للبشرية "جماعة فرنسية ثقافية".
مثلما كان على أصحاب برنامج "صباحيات لوكس راديو" أن يتوقفوا بالتحليل عند لحظة التحول التاريخية التي شكلتها مرحلة نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، في العلاقة مع نظام الحكم العثماني بالمشرق العربي، التي كانت محطة بروز تيار قومي منتصر ل "العروبة" كخيار سياسي ضد ما اعتبروه "هيمنة عثمانية" (وأن الإستعمارين الإنجليزي والفرنسي قد شجعا ودعما ذلك التيار القومي العروبي حينها ضمن مخطط لتقويض الإمبراطورية العثمانية واحتلال بلاد المشرق العربي). وأنه بالتالي، حين برز ذلك التيار العروبي السياسي بالمشرق العربي (خاصة بالقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت والحجاز)، اعتبر "الهوية العربية" المتأسسة على منظومة ما أنتجته "اللغة العربية" وسيلة لإنهاض "الثقافة العربية" لغايات سياسية آنية حينها. وكان من وسائل عمله لترسيخ ذلك استثمار وسيلة الإعلام والصحافة والنشر الجديدة، كما وفرها دخول المطبعة إلى القاهرة وبيروت في نهاية القرن 18 وبداية القرن 19. من حينها صار لمفهوم "الثقافة العربية" معنى سياسي بنزوع قومية، بقي متواصلا بهذا الشكل أو ذاك إلى اليوم.
الخلاصة، ضمن هذه المناقشة القصيرة (والحبية) لضيوف وصحفيات "صباحيات لوكس راديو"، هو أنه لا يمكن القفز بخفة على واقع تحقق معطى "الثقافة العربية"، التي جميعنا سجناء أساليب تعبيرها السلوكية، إراديا أو لاإراديا، تأسيسا على المقولة العميقة للباحث اللساني النمساوي لودفيغ فيدغنشتاين التي تقول بأن "اللغة جهنم حياتنا اليومية"، كونها تصنعنا ونصنعها في الآن نفسه.
إن اللغة وعاء حضاري، والعربية أنتجت معنى بلوره المنتسبون إليها تعبيريا (بتعددهم الديني أيضا، الإسلامي والمسيحي واليهودي، كما انتبه إلى ذلك بفطنة رشيد العشعاشي)، هو الذي يجمل في مفهوم "الثقافة العربية". فهي بالتالي واقع قائم، فوق سياسي، بل كحقيقة حضارية. ومناقشة تلك الثقافة وتحليل بناها ومدى تساوقها مع حركة التاريخ شئ، بل إنه أمر عادي ومطلوب، أما الدفع (بمكر) إلى الحكم على عدم وجودها فهو شئ آخر، وهو أمر معيب معرفيا ومهنيا، ويخشى أنه ليس أكثر من موقف سياسي (آخر) في نهاية المطاف، لا يتساوق وقيمة التحليل العلمي.