الثلاثاء 7 مايو 2024
كتاب الرأي

عبد الإله بو شامة: كنايات عامية نحيا بها (1/2)

عبد الإله بو شامة: كنايات عامية نحيا بها (1/2) عبد الإله بو شامة
ينظر هذا المقال المتواضع في كتاب "الاستعارات التي نحيا بها"، وهو كتاب أكد صاحباه، الباحثان الأمريكيان "لايكوف" و"جونسن" أن الاستعارة ليست طلاء للتزيين، بل رؤية للعالم وطريقة في التصور، لأن النسق الذي يحكم تفكيرنا وسلوكنا نسق استعاري بالأساس، فالاستعارة تحضر في معاملاتنا، وفي كل مجالات حياتنا اليومية وتعاملاتنا حتى في أبسط تفاصيلها (ص 21).
بهذا الفهم كانا من مؤسسي النظرية التفاعلية للاستعارة باعتبارها تصورا متكاملا يجعل الأشياء المجردة صورا استعارية تنزاح عن الدرجة الصفر من التعبير، فتصيب صياغة أبعد بيانا، وأعمق تبيينا، وأكثر تفاعلا مع تصور المتلقي.
انظر مثلا إلى قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) أتَرى في اﻵية من استعارة؟ لا شك في ذلك، لكن لعلك قلما تلوتها متأملا الاستعارة التصريحية الواردة فيها، لأن الدالّين (الظلمات والنور) يتماهيان في ذهنك ويتفاعلان بشكل تام مع مدلوليهما (الكفر والإيمان)، وبذلك استطاع البعد الاستعاري أن يكسف البعد المادي ويستقر مكانه، وهذا التفاعل أوسع من أن يحصر الاستعارة في التشبيه المحذوف أحد طرفيه، ولو أن الآية عريت من هذه الاستعارة لغاب عن ذهنك التفاعل بين بعدها اللغوي وبعدها الفكري التصوري، وأفَلَ أثرها البياني في نحت عوالم أبعد مما يتيحه التعبير العادي.
ومن باب الإنصاف، لا بد أن نؤكد أن الرماني وعبد القاهر الجرجاني سبقا "جونسون" و "لايكوف" في تحديد فكرة الاستعارة التصورية التي تقوم على فهم المجردات انطلاقا من المحسوسات، أي إخراج ما لا تقع عليه الحاسة (الأغمض)، إلى ما تقع عليه الحاسة (الأظهر) كقوله تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب)، أو قوله: (عذاب يوم عقيم) أو قوله: (ربنا أفرغ علينا صبرا) أو قوله: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) أو قوله : (فما بكت عليهم السماء) إلخ.
نستنتج من هذا أن كلامنا وهو يحاكي الواقع أو ينقل التجارب والمواقف والمشاعر يتشرب الاستعارة، ويتبنين من خلالها، فهي منغرزة في النسق التصوري للمتكلم أثناء الرؤية إلى العالم وأثناء التعبير عنه، وليست نماذج من التشبيهات المحذوفة الطرف، أو حلية يمكن الاستغناء عنها، والآيات الكريمة خير مثال على ذلك.
وعلى الرغم من هذه المرتبة الفريدة التي تحتلها الاستعارة في البيان والتصوير والتأثير، فالمقال الآتي يحاول البرهنة على أن الكناية لا تقل أهمية عن الاستعارة، بل قد تكون أحيانا أقدر منها على تجاوز التفاعل التصوري الذي تحدثه الاستعارة، على اعتبار أنها نسق تصوري ذو أثر عميق في صياغة المعاني المتنوعة. ولا عجب أن يعتمدها القرآن الكريم في التعبير عن العلاقات الحميمية، والمواقف الحساسة التي تناولها بأرقى ما يكون عليه تعبير، وتأتي به صياغة، كالكناية عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول والتغشية مثلا. يقول د. عبد العزيز عتيق: "ولعل أسلوب الكناية... هو الأسلوب الوحيد الذي يستطيع به المرء أن يتجنب التصريح بالألفاظ الخسيسة أو الكلام الحرام" (علم البيان، عبد العزيز عتيق، بيروت ـ لبنان، دار النهضة العربية، الطبعة: بدون، 1405هـ/ 1982م، ص 226).
ولم تنل الكناية هذه المكانة لكونها من ألطف أساليب البيان دقة وخفاء، بل وأيضا لأنها اكتسبت القدرة على أن تمكن المتكلم من أن يقول شيئا وهو يقصد غيره، فيصيب المعنى المراد مع أنه لا يوظف أي لفظ خاص بذاك المعنى، لأن اﻷلفاظ التي استعملها خارجة عما وُضعت له في اصطلاح التخاطب فعبر بها عن معنى آخر لازم لها، وبذلك يستطيع أن يأتي بالدليل المادي على المعنى الذي يقدمه ما دام ينتقل ضمن مكوناته من الملزوم إلى اللازم، هذا مع الإيجاز التام، والاختزال الكامل، والتصوير المجسم.
الكناية إذن جهاز بياني ذو وظيفة تصويرية منغرسة في النسق التصوري والتعبيري للمتكلم، وقد تكون أبلغ من الحقيقة والتصريح، لأن المتكلم حين يستحضرها، فهو لا يعدل بها عن الحقيقة من باب البذخ التعبيري الفني، بل لحاجات نفسية أو تصورية أو فكرية أو بيانية أو تصويرية غاية في الدقة. وللتمثيل لذلك، انظر إلى شمول المعنى وقوة اﻷثر الذي حققته الكناية في اﻵية (يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة) وسترى البون الشاسع بينها وبين (خلقكم من آدم)، مع أنهما واحد.
وانظر أيضا في كل ما يمكن أن يُعبَّر به عن الندم والحسرة هل ترى تعبيرا أدق وأعمق وأبعد بيانا من هذه الكناية؟ قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}. ثم أليس طول الجياد، مثلا، من علامات الحسن في المرأة؟ أوَ تستطيع مع ذلك أن تقول لها: أنت طويلة العنق!؟ لكن أن يقول لها الشاعر:
وباتتْ تمجُّ المسكَ في فيَّ غادةٌ ******* بعيدةُ مَهوى القُرط صامتَةُ الحَجْل
فذاك من أدق ما أصاب المعنى، فقد تغزل بطول عنقها، وهو من أهم معايير جمال المرأة، رغم أنه ما وصف عنقا وﻻ ذكر طولا، لكنه حمل المتلقي على فك عناصر الصورة لفهم علاقة القرط، بالبعد، بالمهوى. وهذا أحد أسرار الكناية، أنها ترسل الدعوى، ثم تأتي عليها بالبينة والدليل الذي لا يمارى، وتدعو السامع إلى الكشف عن العلائق التي تؤلف بين عناصر الملزوم ولازمه.
ولا عجب، فقد اقتبس علماء البيان من المناطقة و اﻷصوليين مباحث دلالات اﻷلفاظ على المعاني، وهي دلالة ثلاثية اﻷقسام، دلالة مطابَقة، ودلالة تضَمُّن، ودلالة التزام، حين يدل اللفظ على معنى آخر غير معناه الحقيقي أو المجازي دلالة التزام، وهي دلالة الكناية. انظر مثلا إلى علاقة "كثرة الرماد" بشدة الكرم، وانظر إلى ما بين دلالة لفظهما وبين معنى الكناية من التزام رغم ما بينهما من هوة، أو انظر إلى علاقة "تقليب الكفين" أو "عض الأنامل" بالندامة والحسرة، وغير هذه من الأمثلة التي تؤثر التعريض على التصريح، وتراهن على الرمز والتلميح، فتدلل على الدعوى المقدمة رغم انعدام أي لفظ من القاموس المعبر عنه في الكناية، لكن الرهان مبرر بعلاقة اللزوم بين اللفظ والمعنى، بين اللازم والملزوم.
ولما كانت الكناية تحتل هذه المنزلة العالية في نسق التوليد الدلالي، فمن حق معترض أن يثير اﻹشكال اﻵتي: لماذا آثرت كنايات العامية عن كنايات الفصحى مع أن لها القدح المعلى في البيان والتراث؟ والجواب يبدأ من حيث انتهى السؤال، أي ﻷن الكناية بهذه المنزلة السامية، وجب إعادة الاعتبار إليها، فالتجربة والملاحظة أكدتا أن هذه الأداة البيانية الخارقة للعادة تشكو جفاء من جل المشتغلين بتحليل الخطاب، ناهيك عن المدرسين والطلبة، مع أننا نحيا بها كما سنرى. فكيف نقنعهم بفضل الكناية على المعنى، وعلى المتكلم، وعلى متعة النص، وقد غاب عنهم كيف تَحدُث هذه التفاعلات وتُترجَم تلك المتع؟ فاﻷوْلى أن نجلوَ هذه الآثار في اللغة اليومية عساها ترفع الحجب عن كنايات الفصحى. بعبارة أدق، لما كانت تجليات الكناية في الفصحى قاصية القطوف، عزيزة المنال، فقد عدلنا عنها إلى العامية على اعتبار أن المتكلم يتقن كناياتها بالسليقة، فيفك شفراتها دون عناء، بل ينتجها تلقائيا كلما دعتها الضرورة، فلعله حين يدرك في النماذج العامية الأليفة ما استعصى عليه في الفصيح، لعله يتصالح مع كناياته، فتتبدى له فيه دون حجاب. فمن منا يعجز عن فك شفرة كناية عامية كهذه: "اَلْمَيِّتْ كَتَبْدَاهْ ﯕَمْلَتُّ (قَمْلَتُهُ)" على الرغم من تمنُّع معناها؟ فلا حقلها الدلالي ولا المعجمي يوحي بشيء مما تلمح إليه، وهو أن أول من يبدأ بإيذائك هو اللصيق بك، واﻷقرب إليك، وفي الجمع بين الضدين: الحي والميت ﻹنشاء التماثل بُعد دلالي يقوي معنى الكناية ويبرز قدرتها البيانية الخارقة.
نزعم بهذا أن المتكلم العادي قادر على إنشاء الكناية على الرغم من أنه لم يتعلمها في كتاب ولا دليل، لأن العقل الجمعي الذي أنتج هذه اﻵلية البيانية، وهو الذاكرة الشعبية العامية، نحت القدرة على التوليد الكنائي في سليقته كما نحتتها الفصحى والموهبة والمران في سليقة الشاعر واﻷديب.
وبعد هذه التوضيحات الضرورية، نبلغ محطة التمثيل لهذه الكنايات العامية التي دأب المتكلم العادي على توظيفها كلما عنّ له موقف يستدعي ترك التصريح بالشيء، أو اختزال الكلام، أو تكثيف الصورة، أو تجسيد المعنى المراد، أو تقديم البينة على دعواه، أو التأكيد والمبالغة، أو كل ذلك مجتمعا. وقبل عرض نماذج الكنايات المعتمدة في التمثيل والتدليل، نشير إلى أنها مرتبطة بأعضاء جسم الإنسان وفي صدارتها "الرأس"، وهذه ظاهرة لافتة للاهتمام حقا.
ومعلوم أن البلاغة العربية صنفت التعبير بالجزء عن الكل ضمن باب المجاز المرسل، وحددته باللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. فكلمة رقبة مثلا، وهي جزء من اﻹنسان قد استعملت في قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}، على المجاز، ﻷن المقصود بها تحرير اﻹنسان وليس رقبته، إذ هي مجرد جزء منه.
وبناء عليه، فمن خاصية الكنايات التي سنقدمها أنها تجمع بين مجازين إثنين، كونها تعبر بالجزء عن الكل على غرار المجاز المرسل، ثم تترك التصريح بالشيء إلى التلميح، وتلك ظاهرة عامة في جميع الصور المجازية. بل ولها ميزة ثالثة تدنيها من اﻷمثال، ولا عجب في ذلك، فاﻷمثال نتاج خالص للعقل الجمعي، كما أن هذه الكنايات هي أيضا من بنات أفكار الذاكرة الشعبية. ونماذج التمثيل للكنايات العامية في هذا المقال تجسيد حي لكل ذلك كما سنبينه في الحلقة المقبلة.
 
عبد الإله بو شامة، أستاذ جامعي سابق