الخميس 25 إبريل 2024
منوعات

ثقافة الملح و"الطّْعَامْ اَلْمَشْرُوكْ" بين واقع المدينة ومتغيرات البادية المغربية

ثقافة الملح و"الطّْعَامْ اَلْمَشْرُوكْ" بين واقع المدينة ومتغيرات البادية المغربية مذاق ولذة "اَلطَّعَامْ" في البادية خلال فصل الصيف لن تجد مثلها في أرقى المطاعم المصنفة
تغير السّلوك الاجتماعي لدى ساكنة البادية بـ 180 درجة، نتيجة غزو عالمنا القروي بعدة مظاهر وظواهر اجتماعية، والتي شكلت قطيعة مع الزمن الجميل ببساطته وعفويته، حيث ساهمت في التحولات العميقة التي تعرفها البادية خلال العقدين الأخيرين، ومسّت عمق الإنتماء البدوي في علاقة مع ثقافة مجتمعنا الرعوي، وطالت كذلك بساطة أسلوب العيش، وغيرت من طبيعة علاقة الإنسان بالمجال القروي ومحيطه الاجتماعي.
في زمن الراديو والتورنديسك، قبل اقتحام صورة وصوت التلفزيون للبيوت وربطها بالكهرباء، كان كل شيء على طبيعته في حياة أهل البادية والقرية، وعلى أثير أمواجه الإذاعية فجرا كانت القرية وأهل الدوار يصحون عن بكرة أبيهم لتحية صباح جديد دون خمول يذكر، وعلى نسمات الهواء النقّي كانت تتحرك كل الدواب التي تمشي على الأرض للبحث عن رزقها، قبل أن تلامس خيوط أشعة الشمس تربتها الطيبة.
كانت همّة الفلاح وحذاقة الكساب ورجولة الراعي وكفاح المرأة البدوية التي تعمل في البيت، وتنتقل إلى الحقل والبيدر بجانب زوجها وأبنائها، (ذكورا وإناثا) موسومة بطابع "لَحْدَاﯕَةْ" و"لَفْيَاقْ بَكْرِي بِالذْهَبْ مَشْرِي"، للقيام بالواجب والمسؤولية دون كلل.
كانت من علامات الإستيقاظ باكرا المضبوطة على عقارب صياح دِيكْ "اَلْخَيْمَةْ" معلنا قدوم صباح مشرق وجديد قبل آذان الفجر، وانتشار تلك الرائحة المغرية المنبعثة من دخان موقد "كَانُونْ" طهي الخبز وهو يمدّ آنية "فَرَّاحْ" اَلْفَخَّارْ بنار هادئة، تلتهم بقايا "بَرِّيوْ" الزريبة و"لَوْﯕِيدْ" الذي تجمعه المرأة القروية من إسطبل أبقار الخير التي يجود ضرعها بالحليب الطازج، والسّمن البلْدي والّلبن كمواد أساسية في الوجبات الغذائية صباح مساء.
موقد "اَلْكَانُونَ" المنصوب في زاوية "اَلْكُشِّينَةْ" كان مختبرا حقيقا لقياس "حْدَاﯕَةْ" المرأة القروية "لَمْشَمْرَةْ" على ساعديها، رغم صعوبة التعامل مع طريقة إشعال ناره وتوفير حطبه ومواده القابل للاشتعال (لَحْطَبْ) خصوصا في فصل الشتاء البارد الذي لا يساعد على إضرام النار إلا بمشقة النفس، خلاف ما ناراه اليوم من وسائل وتجهيزات المطبخ العصري. (اَلْمِيكْرُو أُونْدْ، والأفران الكهربائية والغازية)
المرأة القروية "اَلْحَادْﯕَةْ" في الزمن الجميل، هي تلك التي كانت تشّمر على ساعديها بكرة وأصيلا، من أجل أن تعد عجين مختلف أنواع الخبز والفطائر، من "مَخْمَارْ" و "بُوشِيَّارْ" و "رْغَايْفْ" و " مْسَمَّنْ" و"رُزَّةْ اَلْقَاضِي" و "سْفَنْجْ"...دون أن تفرط قيد أنملة في توقيت عجين خبز "لَكْرُونْ"، ورميه داخل "اَلْفَرَّانْ" الذي يلتهم كل أشكال الحطب لبلوغ درجة حرارة تجعل من لون الخبز ذهبيا. (يطلق عليه في دكالة وعبدة وأحمر اسم اَلْخَبَّازْ التقليدي الذي يتم بنائه بالطّين والتّبن).
كانت هذه المشاهد في ثقافتنا الشعبية هي السائدة، وتوثق لـ "اَلطَّعَامْ" في مختلف مجالاتنا القروية، وكان إنسان المدينة يشتاق لزيارة أهل البادية كلما سنحت له الفرصة وخصوصا في فصل الصيف للاستمتاع بمذاق الأطعمة الشهية التي تنتجها فضاءات القرية وتعدها المرأة البدوية بإتقان وتفنّن وسخاء وكرم.
العطلة الصيفية بالنسبة للعديد من العائلات كانت فرصة مواتية لقضاء أمتع الأوقات في بادية دكالة بعيدا عن صخب المدينة وضجيجها:
"لم نكن نهتم بالوجبات الغذائية الرئيسية ولا نعير أي اهتمام لتوقيتها، بل كنا نفضل الاستيقاظ باكرا لقضاء الفترة الصباحية ببستان (جْنَانْ) "اَلْعِنَبْ" و "اَلْبَاكُورْ" الذي تحيط به ألواح الصبار الشوكية (اَلْكَرْمُوسْ اَلْهَنْدِي)، وبجانبه بستان أخر (لَبْحَيْرَةْ) ينتج الفواكه الموسمية مثل "اَلدَّلَاعْ" و "لَمْهَايَةْ" و "اَلْبَطِّيخْ" و "اَلْفَـﯕُّوسْ"... لقد كانت منتوجات الأرض الفلاحية البورية (بْيُو) تتيح لنا فرصة للتزود بنقائص الطاقة وتعويض كل الفيتامينات التي يحتاجها الجسم". يقول مصطفى بن اسماعيل المنحدر من أولاد عمران بمنطقة دكالة.
مذاق ولذة "اَلطَّعَامْ" في البادية خلال فصل الصيف لن تجد مثلها في أرقى المطاعم المصنفة، يكفيك أن تتأبط خبزة من نوع "لَكْرُونْ"، المعد بحبوب الشعير والقمح، وتهيم على وجه البسيطة لتنتقي ما لذ وطاب من "شْهَيْوَاتْ" فاكهة "اَلْكَرْمُوسْ" و "اَلْبَاكُورْ" أو تقطيع "دَلَّاعَةْ" أو "سْوِيهْلَةْ" مازالت ندية، لتغسل وتنظف بها الأمعاء والمعدة من جراثيم عالقة.
"كنا نقضي ساعات الصباح في الحقول والبساتين، نأكل ما تجود به الأرض من خيرات، وكانت شهيتنا مفتوحة على كل ضيافات موائد الأهل والأحباب ساعة تلوى الأخرى، وخصوصا يوم السوق الأسبوعي الذي يعد استثناء في الكرم" يقول نفس المتحدث.
في هذا السياق أوضح مصطفى بن اسماعيل بأن مساء يوم السوق الأسبوعي كان يشكل استثناء في أجوائه وطقوسه ببادية دكالة على مستوى ثقافة "اَلطَّعَامْ"، حيث تفوح رائحة مرق "اَلْحَمَّاسْ" و"اَلْـﯕَامِيلَةْ"، إلى جوار رائحة قِدْرْ اَلْكُسْكُسْ من كل بيوت الدوار.
رائحة تخترق الأنوف، وتستفز المعدة، ممزوجة بروائح دخان "اَلْخَبَّازْ" وكَانُونْ "اَلْفَرَّاحْ"، حيث تتملكك رغبة جامحة في أن تتذوق طعم تلك الوجبات التي سيتقاسمها لا محالة كل الضيوف وأفراد العائلة بعد غروب الشمس وعودة رؤوس الماشية من المرعى نحو "اَلزَّرِيبَةْ" والإسطبلات المخصصة لها.
هذه الأجواء العائلية بالبادية المغربية، كانت تفتتح بطقس "تَعْمَارْ أَتَايْ"، والتحلق حول صينية ومجامع إعداد الشاي التي لا تستقيم جلستها إلا بتقديم الفواكه الجافة والمكسرات من (لُوزْ، و ﯕَرْﯕَاعْ و تَمْرْ)، على إيقاع سماع موسيقى طنين وأزيز "سْبُولَةْ اَلْمُقْرَاجْ" المنصوب على "مَجْمَرْ اَلْفَاخَرْ".
أما مناسبة الأعياد الدينية، فقد كانت فرصة سانحة للفتيات والنساء القرويات لتقديم ألذ وأشهى أطباق وجبة الفطور فوق موائد الكرم الحاتمي، والتي يتم تحضيرها باكرا بمنتوجات فلاحية وزراعية، حيث تعم أرجاء القرية روائح أنواع اَلرَّغِيفْ واَلْفَطَائِرْ والسّْفَنْجْ ولمْلَاوِي والْحَرْشَةْ و بُوشِيَّارْ و الْبَطْبُوطْ و الْبَغْرِيرْ، المصاحبة بالعسل والسّمن وزيت الزيتون، فضلا عن حساء حبوب الشعير بنكهة الأعشاب، دون التفريط في صينية إبريق القهوة بالحليب وبرّاد الشاي .
للأسف الشديد كل شيء تلاشى وانقرض، بعد التحول الذي طرأ على البنية الإستقبالية البدوية بسبب غزو مظاهر التمدن والتحضر المفترى عليه، والانفتاح على العالم الافتراضي ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي، وتسريب صور ومشاهد قنوات التلفزيون داخل الأسرة القروية، التي أضحت تتابع المسلسلات التركية وبرامج التفاهة، حيث تم التفريط في مجموعة من العادات والسلوكات الاجتماعية، ولم يعد دخان "اَلْكُشِّينَةْ" يحمل رسائله لأنوف ضيوف البادية المغربية.