الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد السلام المساوي: لماذا تراجع التنوير بالمغرب؟!

عبد السلام المساوي: لماذا تراجع التنوير بالمغرب؟! عبد السلام المساوي

1- الإرهاب المزدوج

لمدة تقارب الأربعة عقود، استهدف اليسار بالمغرب، استهدف الذين آمنوا بمغرب حداثي ديموقراطي؛ آمنوا وناضلوا، فتعرضوا لإرهاب مزدوج: جسدي وفكري... نعم تعرض مناضلو اليسار، تعرض الاتحاديون أساسا، تعرض كل الديموقراطيين... لأبشع أنواع العنف الجسدي (قتل، سجن، تعذيب، نفي، اختطاف، دفن جماعي، إعدام، مراسلات بالملغوم...)، جربت فيهم وعليهم مختلف أشكال الإبادة والتدمير...

نسجل هذا، ونسجل أكثر وأبشع من هذا... نسجل ونسجل، ومع ذلك نقر بأن العنف الجسدي، دمر أولئك الذين كانوا موضوعا له، والذين عاشوا معهم هذا التدمير من الأهل والرفاق، من الأحباب والأصدقاء... وإذا كانت هذه مأساة الذين عذبوا وقتلوا... فإن المأساة الثانية -الإرهاب الفكري- كانت أبشع وأخطر، لأنها مست الشعب المغربي كله، بل مست الإنسانية جمعاء... لأنها لم تستهدف المناضلين فقط بل استهدفت الفكر العقلاني التنويري، الفكر الإنساني الحداثي...لقد منعت وصودرت كل الصحف والمجلات ذات التوجه العلمي العقلاني، الاشتراكي الديموقراطي (المحرر، الثقافة الجديدة، أقلام، لاماليف، الأساس، كلمة، البديل، الزمن المغربي، أنفاس، المشروع)...

صودرت الكتب والمجلات التي تنمي العقل وتعلم التفكير، التي تزرع الوعي وتهزم الجهل، التي تحطم المألوف وتكسر المعتاد، التي تحرر من الأحكام الجاهزة والمعتقدات الفاسدة، التي تدمر المسلمات والمطلقات... منعت الأوراق النقدية التي تحارب التفاهة...التي تعتبر الإنسان موضوعها الأثير، التي تعتبر الإنسان قيمة القيم...

وكان "البديل" الذي بذلت جهود كبيرة وصرفت أموال طائلة لإنجاحه... "البديل" الذي سيريح من تعب السؤال والشغب؛ فتدفقت من هنا وهناك الشرائط والبخور وأشباه الكتب... "كتيبات" رخيصة وتافهة؛ وجهت ضربة قاضية للفكر والتفكير؛ تتحدث عن أهوال جهنم وعذاب القبور... "كتيبات" أعدمت الإنسان عندما جردته من جميع أبعاده الإنسانية وجهزته لابتلاع فتاوى الجهل والظلام... وبقدر ما دمرت الإنسان فكريا دمرته جماليا، فرضت عليه وجها وزيا غريبين، حرمت الفن والابداع... قتلت المرأة... وكانت النتيجة هي الفراغ العاطفي والخواء الفكري... وكانت النتيجة موت الإنسان وميلاد الإرهاب... وكانت النتيجة العنف والتعصب، الحقد والكراهية...

 

2- محاصرة الفكر النقدي

تم اغتيال العقل والتفكير عندما حوصرت وحوربت الفلسفة في المؤسسات التعليمية بدعوى أنها تدعو إلى الكفر والإلحاد! وهي تهمة قديمة قدم الأنظمة الاستبدادية التي تمقت النقد والمعارضة، الفكر والعلم، الحرية والاختيار، الوجود والانسان  ...

اغتيل العقل، اغتيلت الحرية، اغتيل السؤال وأعدمت كلمة "لا"... اغتيلت الديموقراطية، اغتيل اليسار فاغتيل الانسان...

إذن لاغتيال الإنسان واغتيال العقل تم تكفير الفلسفة... تم تحريم السؤال وتجريم التفكير... وكان إحداث شعبة (الدراسات الإسلامية) "بديلة" لشعبة الشغب والرفض؛ شعبة الهدف من إحداثها إفراغ العقول والقلوب؛ إحلال ثقافة الطاعة والسكون محل ثقافة النقد والتغيير... إغراق الطالب في الماضي المخدوم عوض التطلع إلى المستقبل المنشود... ترسيخ "النعم" والقطع مع "اللا"... وكانت النتيجة أن تاهت الجامعة لما تاه طلبتها في متاهات مظلمة... وكانت النتيجة أن أصبحت الجامعة ساحة تخاض فيها معارك إخوانية  بقيادة "أمراء" العنف...

 

3- انسحاب المتنورين وهيمنة الدعاة

في السبعينيات والثمانينيات مورست مختلف أشكال الإبادة على الأساتذة؛ الأساتذة المتنورين... قطعت أرزاقهم وأعناقهم؛ مورس عليهم العنف المادي والرمزي... جربت فيهم وعليهم مختلف أنواع التهديد والترهيب... فكانت النتيجة أن انسحب المدرسون - المربون، واستقالوا من مهامهم بحثا عن "راحة البال"... ونتيجة للخوف الذي وشم المرحلة، وللرعب الذي سكن الجميع؛ استبطن هؤلاء الاستسلام فتخلوا عن المثل والأحلام، عن المبادئ والآفاق... وتحولوا  من فاعلين تربويين إلى كائنات خبزية، همهم الوحيد هو الترقية والترقي، الانسحاب والمغادرة فالتفرغ  للدروس الخصوصية...

وكان "البديل" ظهور مدرسين جدد "دعاة ووعاظ"... وبسبب هؤلاء المدرسين - الدعاة، اقتحمت الأفكار الظلامية المؤسسات التعليمية...

 

4- الجهلوت في المنابر

استفحل خطر الفكر الظلامي، وتعاظم حجمه لما وصل إلى المنبر الدراويش والطرقيون، والمتحزبون المتشبعون بالفكر الظلامي العنصري، فأفسدوا  الجو الإسلامي، النقي والطاهر، الصافي والمقدس، الذي ينبغي أن يهيمن على المسجد. أئمة، البعض وليس الكل، دعاة الحقد والكراهية، وزارعو العنف والإرهاب، أئمة تسلطوا وسلطوا على منابر الجمعة بغرض قلب الحق باطلا والباطل حقا، بغرض مهاجمة اليسار والديموقراطية، مهاجمة الحداثة والتنوير والثقافة الحقوقية، متأولين النصوص الدينية تأويلا سيئا وتوظيفها توظيفا ايديولوجيا، متحذلقين في العبارات بغرض إثارة النقمة والكراهية في صفوف المصلين، ليس فقط ضد الحضارة الإنسانية وضد الثقافات الأخرى، بل ضد إخوانهم من المغاربة الذين يخالفونهم في الرأي والموقف، وهم في كل ذلك لا يصدرون إلا عن نزواتهم السياسية الضيقة... وكانوا يحضرون لقدوم حزب العدالة والتنمية ذي "المرجعية الإسلامية"، يحضرون لزحفه، وهم من أجل ذلك سوغوا ويسوغون لأنفسهم كل السبل والوسائل، بما في ذلك أكثرها انحطاطا وهي الكذب، بل ان بعضهم بلغ به الغلو والانحراف عن تعاليم الاسلام ووأد حرمة المسجد أن قام ويقوم بالدعاية الانتخابية لصالح البيجيدي بدعوى أنه حزب "إسلامي "!

 

5- تفريخ الأحزاب وتمييع الحياة السياسية

في فترات عسيرة من تاريخ بلادنا، تم تفريخ الأحزاب بأمر من السلطة فتم تمييع الحياة السياسية، ولعبت الأجهزة الأمنية أدوارا متعددة في الحد من دور الأحزاب الوطنية والديموقراطية بالاعتقالات والاختطافات والتهديدات والترهيب، وبث العملاء وتطويق المقرات وتتبع المناضلين وإحصاء أنفاسهم وخطواتهم وشراء الذمم... وتمييع الحياة السياسية وإضعاف قوة الأحزاب وتقزيم تمثيليتها بالإضافة إلى عمليات التزوير المختلفة التي طالت كل الانتخابات التي عرفتها البلاد منذ الاستقلال. ولقد كان الاتحاد الاشتراكي المستهدف الرئيسي والأساسي في هذا المسلسل... ولتدمير حزب القوات الشعبية تم توظيف وتجنيد الإسلاميين واستخدامهم كالات لتنفيذ مخططات التصفية والتقتيل... وكان الشهيد عمر بنجلون الضحية - الرمز العنف الإرهابي... وباقي المسلسل نعرفه، صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة !

 

6- القمع المجتمعي

لقد وجدت الأحزاب الديموقراطية المغربية نفسها بعد الاستقلال ضحية قمع سلطوي من طرف الدولة، وخلال أربعين سنة عملت الحكومات المتعاقبة على افقار المجتمع، فسلبت الإنسان المغربي كرامته ونزعت منه أي تطلع للمستقبل، وجعلته رهينا  للحياة البئيسة، مما جعل هذه الأحزاب تواجه نوعا من القمع هو القمع المجتمعي، إذ أصبح من الصعب أن نقنع قوى المجتمع بخطاب عقلاني ديموقراطي حداثي، في الوقت الذي نجد فيه من السهل على تيار يدعو إلى نوع من الفكر الديني أو الأصولي إلى استقطاب أكبر عدد بسهولة جدا...

 

7- الانتماء لليسار تهمة !

إن الانتماء لليسار كان وقتها، وما زال، في نظر الإسلاميين، تهمة لأنه ضد الدين، في اعتقادهم. واليسار في تصور الإسلاميين، هو ملة واحدة مثل الكفر، لذلك وجبت محاربته. ومن ذلك كانت عملية الاغتيال التي تعرض لها واحد من رموز اليسار وهو الزعيم الاتحادي عمر بنجلون، الذي سقط على أيدي عناصر من الشبيبة الإسلامية التي كان ينتمي لها بنكيران، والذي سيقود عقب الحكم على عبد الكريم مطاع في هذه القضية، بالمؤبد، مسيرة حاشدة ضمت قرابة أربعة ألاف منتمي ومتعاطف مع الجماعة، وقطعت مسافة ما بين المسجد المحمدي إلى حي بنجدية  حيث كان يتواجد بيت مطيع.

 

8- اليسار لم يعد انتخابيا

هكذا تم اغتيال العقل وتم اغتيال اليسار... هذا اليسار الذي اقتات المحافظون الدينيون من الفراغات التي تركها خلفه ومن حوله، دون أن يقدروا على طرح أسئلته الجوهرية، ما زال مؤمنا بأن المستقبل قابل للتدارك، ولذلك نراه يسعى لاستعادة المبادرة، لأنه يعرف أن هذا قدره، وأن استعادة توازن ميزان القوى في المجتمع واجبه الذي لا مفر منه...

منذ سنوات لم يعد بإمكان اليسار أن يكون قوة انتخابية قوية، ليس فقط في أنه لم ينجح يوما في أن يستقطب اليه الفلاحين والعمال والطلبة كما تقول الأغنية القديمة، ولا لأن الطبقة الوسطى التي توصف بـ "عاهرة الطبقات" مستعدة لأن تنقلب عليه وترافق أول عابر في السياسة، هو لم يعد انتخابيا لأن الزمن ككل لم يعد زمنه، منذ ان صار الاسلاميون والتقنوقراط والأعيان الزبائن المفضلين لكراسي السلط والتمثيلية...

 

9- الشامتون في حاضر اليسار والناقمون على ماضيه

لم يعش اليسار يوما إلا مسلحا بالشارع، حتى ان كل الذاكرة اليسارية لما تريد تمجيد ماضيها لا تقف الا عند تواريخ من قبيل 1965، 1981، 1984، 1991... ولم يوما ممكنا ذكر اليسار دون أن يكون مرفوقا بالإضرابات والاحتجاجات والتعبير عن نبض الشارع...

ويوم اغتيل اليسار وتخلى عن الشارع، استوطنته جحافل الاسلاميين والعدميين الذين لا لون سياسي ولا ايديولوجي لهم... الذين لا يهمهم المغرب ولا شباب المغرب...

وهنا كل الحكاية ومكمن الداء الذي يسعى بعض من اليسار، وفي طليعته الاتحاد الاشتراكي، علاجه، وليس أمامه من خيار آخر غير رفع راية النجاح في وجه الشامتين في حاضره والناقمين على ماضيه...