الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الحميد جماهري يحلل معضلة الداعية الذي عوض المثقف

عبد الحميد جماهري يحلل معضلة الداعية الذي عوض المثقف عبد الحميد جماهري

حل الكاتب والشاعر عبدالحميد جماهري، ضيفا على  برنامج "مدارات"، حيث تناول معه الزميل عبد الإله التهاني، في جزأين متكاملين، مجموعة من القضايا الأدبية والفكرية والإعلامية، قال عنها معد ومقدم البرنامج في ورقته التقديمية، بأن عبدالحميد جماهري اشتغل عليها، بكثير من الجهد والمثابرة والإنتاج النظري، واصفا إياه بأنه  أحد الأصوات الثقافية لجيل التسعينات، وأنه نسج حضوره شعرا ونثرا، على امتداد أزيد من ثلاثين عاما، زاوج خلالها بين الإبداع الشعري والإسهام في مجال الترجمة الأدبية، وكتابة المقالة التحليلية، فضلا عن الخواطر والمذكرات، مستعرضا إصداراته، بدءا من مجموعاته الشعرية الأربع، وترجماته لكتابات فكرية وسردية من الفرنسية إلى العربية، وصولا إلى كتابه الأخير عن رحلاته إلى الصين، والذي دوّن وصاغ فيه تأملاته حول التجربة الحضارية المعاصرة لهذا البلد، وانطباعاته عن المنظومة المجتمعية والثقافية للصين، والتحولات التكنولوجية التي تصنعها، والبناء المؤسساتي للدولة الصينية .

وأضاف بأن في صوته الشعري الشجي، لمسات حزن شفيف، وفي كتاباته النثرية بقايا لغة شعرية، تلهو بالاستعارات والتلوينات والتشبيكات، التي تمنح لمقالاته جمالية مميزة، مبرزا أن جماهري، وفي كل مستويات حضوره الثقافي، تتشكل معالم مساره المنتظم والمتواصل، من خلال  خيط ناظم لكل أطوار هذا المسار، ولاسيما في بعديه الأدبي والصحفي .

وجوابا على الأسئلة التي همت الشق الأدبي في مسار عبدالحميد جماهري،  تحدث هذا الأخير عن طفولته، وعن خطواته المبكرة في الاقتراب من لهيب الكتابة، مستحضرا قراءاته الأولى في الأدبيات العربية والغربية، وأثرها في تشكيل ملامح وعيه الثقافي. كما تحدث عن شعراء باتوا قريبين من نفسه، وأثروا في لغته ورؤيته الشعرية، مثل الشاعر بول إيلوار والشاعر روني شار .

وفي ذات السياق، أوضح عبد الحميد جماهري كيف أن الشغف بالكتابة، هو الذي قاده إلى السير في مسالك الادب والصحافة، على حد سواء وبشكل متوازي .

وتحدث جماهري أيضا عن لمسة الحزن في قصائده، وعن تنقله بسلاسة بين الكتابة الشعرية والكتابة النثرية. كما تحدث عن مزاولته للترجمة بشغف شديد.

وفي الشق الفكري من هذا اللقاء الاذاعي، وجوابا عن سؤال يتعلق بتزايد الفجوة بين العقل الثقافي والعقل السياسي، بعد أن كان الاول مؤثرا في الثاني، قال جماهري بأنه يعتقد أن جوهر القضية، لا يكمن في تبادل العلاقة، لأسباب ذاتية وأخرى. مستعرضا تجربة اليسار المغربي، المدافع عن قيم التحديث والعدالة الاجتماعية، مشيرا إلى أن المعادلة كانت  قاسية بين الدولة، وبين هذا اليسار ومثقفيه، حيث كان عليه أن يجتهد لكي يقنع الشرائح الواسعة من المجتمع بمشروعه الفكري .

وأوضح عبدالحميد جماهري إلى أنه في هذا الاطار، كانت الحاجة قائمة حينئذ إلى المثقف، الذي يطرح الأسئلة ويحاول أن يبحث عن الأجوبة، والحال نفسه بالنسبة لأدوار النخبة المثقفة في العالم، والتي كانت مدعوة وقتئذ لأن تقود الطليعة، وكان هناك بنظره، نوع من الصراع يغذي هذا التمايز، بين الثقافي والسياسي في المعارضة، وما بين الثقافة الرسمية والمثقفين الرسميين.

وأوضح جماهري أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، حيث ضعف وضع المثقف أمام السياسي والنقابي، مبرزا أنه في فترات معينة، كان المطلوب هو البحث عن القوة العاملة الضرورية لممارسة الصراع، وبالتالي بات المثقفون يظهرون وكأنهم غرباء، ومتعالون في برج عاجي.

ولاحظ جماهري أن الذي حدث بعد ذلك، هو أنه وقع تسارع في التاريخ، وحصلت المعضلة الثانية، حيث ظهرت مشاريع تنتمي وتعود إلى الماضي، وتم استبدال المثقف بالداعية، سواء في حلقات الفكر أو في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الأحزاب والنقاش السياسي، وتم طرح قضايا الهوية، التي جعلت "الداعية"، يتفوق على المثقف بالشكل الذي نعرفه.

ولاحظ عبدالحميد جماهري أن السياسي تنازل أيضا عن جوهر العلاقة مع المثقف، والنتيجة برأيه أن  السياسي تخلى عن المشروع الثقافي، وأصبح السؤال المركزي، ليس هو من سيربح المشروعية في قيادة المجتمع، من خلال قيمه وثقافته وأوراقه وأدبياته، وإنما أصبح  السؤال هو من سيربح الانتخابات؟

واعتبر جماهري أن هذه هي أكبر مسألة أساسية، وأن تجاوزها لا يمكن أن يتم، إلا بإعادة تغذية هذا التمايز السوسيو ثقافي ما بين التيارات السياسية، لافتا الانتباه إلى التحول الجوهري الذي حدث وتحقق،، والذي أصبحت معه الدولة، هي التي تحمل المشروع الثقافي، بعد أن كانت في السابق تخوض الصراع من موقعها، مع جزء من الطبقة والنخبة المثقفة، فأصبحت اليوم هي الحاملة للمشروع الثقافي، حتى أمكن القول، أن المثقف الجماعي الجديد اليوم هو الدولة نفسها، ملمحا إلى حديث وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في الدرس الافتتاحي أمام الملك بمناسبة شهر رمضان، باعتماد ماكس فيبر ، الذي لم يعد اليسار يذكره، مشيرا إلى هذه الطفرة التي يجب الانتباه إليها، والمتمثلة في تحول الدولة نفسها، إلى حاملة لمشروع ثقافي .

وردا على سؤال يتعلق بمستقبل المواجهة مع التطرف الديني بكل أشكاله، شدد عبدالحميد جماهري أن المغرب نجح كثيرا في خوض هذه المواجهة، ليس فقط في القدرة على تلجيم هذه الظاهرة، ومحاصرة النزعة "القيامية" لدى حركة التطرف الديني، والتي بدأت فكريا، ثم تحولت إلى حركة مسلحة إرهابية، مبرزا أن العمل في المغرب لم يتم فقط أمنيا، بل أن المغرب شغل كل "التوربينات" التي يتوفر عليها، فكريا وسياسيا وعقديا، وذلك بذكاء استراتيجي.

وأشار جماهري إلى جزء من التحول الذي تم داخل هذه المنظومة المتطرفة، حيث قام العديد من وجوهها المعروفة بمراجعات حقيقية، مسجلا أن المغرب أصبح من المراكز الأساسية، في كل ما يتعلق بالمجهود الدولي لمحاربة التطرف، حيث يترأس دوريا المعهد الدولي لمحاربة الإرهاب، وهناك تعاون عميق مع الدول في هذا المجال، بحيث أصبحت محاربة الإرهاب "سردية" وطنية وجيوستراتيجية، لأن المغرب استطاع أن يقدم عرضا ثقافيا، دينيا عقائديا وأمنيا، في مواجهته لهذه الحركات الإرهابية، وفي تسفيهها بالعقل وبدون نزعة عسكرياتية.

وفي سياق حديثه عن مشروع الحداثة والتحديث في المغرب بمعناهما الواسع، سواء على مستوى القيم المجتمعية أو المنظومة المؤسساتية، أوضح جماهري أنه من حسن الحظ أن الحداثة لم تعد مفهوما يقض المضاجع، أو مفهوما خلافيا، بسبب نضج شروط هذه الحداثة، مشيرا إلى الحداثة المادية التي تقوم بها الدولة بشكل كبير، من قبيل إرساء البنيات التحية، والطرق والتحديث التكنولوجي، والنقل، والعلاقات، مسجلا أن المغرب نجح في تثبيت الوجه المادي للحداثة المادي، وأنه مقابل  ذلك، كان هناك في فترة من الفترات، تنازع حول الحداثة الفكرية، مشددا على أن الجميع  اليوم يتفق، في مستويات متعددة وبنسب مختلفة، على أن الحداثة الفكرية يجب أن تقودها الدولة، بمساعدة الحداثيين، وهو ما تجلى في تحديث منظومة الأسرة، والانخراط في الحداثة الحقوقية.

وأبرز جماهري أن كل القيم، التي كان جزء من الطبقة السياسية في لحظة من اللحظات، يعتبرها دخيلة أو أنه غير معني بها  أصبحت اليوم في عداد التوافقات الوطنية الكبرى، واصفا ذلك بالأمر الإيجابي، الذي سيسمح فعلا بأن تكون أدوار الدولة والنخب، أدوارا طلائعية وتتجه للمستقبل.

وردا منه على تساؤل يهم النقاش الفكري في المغرب، حول موضوع الهوية والعلاقة بالآخر، لاحظ جماهري أن مسألة الهوية تطرح أحيانا بشكل قاتل، وهذه التجربة عاشها الإسلام السياسي بكل تلاوينه، كما عرفتها بعض المجتمعات، وكانت لها تأثيرات قومية، أو عقدية أو فكرية، تجعل من الهوية شيئا جامدا، ومتماسكا مثل الصخرة، في حين أن الهوية لا يمكن أن تتأسس إلا بالآخر، حتى إن مجموعة من الشعراء والمفكرين، اعتبروا أن "الأنا" التي تشكل الهوية، هي بحد ذاتها "آخر".

ولاحظ عبدالحميد جماهري أن مسألة الهوية، تظهر أحيانا كغطاء سياسي، وأن خطورتها تكمن، حينما تنتقل من حقل المساءلة الفكرية والثقافية والوجدانية، إلى حصان طروادة يستخدم في السياسة؛ كما حدث في المغرب حول مجموعة من القضايا .

كما أن البعض بنظره، يريد أيضا إحياء نقاش الهوية من داخل السياسة، حول قضايا اللغة والتعليم وحقوق الإنسان.

وتجدر الاشارة إلى أنه على هامش الشق الأدبي والفكري، لحوار برنامج "مدارات" مع الكاتب والشاعر عبدالحميد جماهري، أجاب هذا الأخير عن أسئلة تخص جوانب إنسانية وشخصية، لم تخل أجوبته عنها من طابع حميمي، ساهم في تقريب المستمع من عالمه الداخلي.

كما قدم جماهري انطباعاته السريعة عن بعض رجالات المغرب، واصفا عالم الاجتماع محمد جسوس بأنه كان الْمُخَاطَبْ الدائم له، والمهدي المنجرة بالإنسان القَلِقْ والضروري، في حين وصف عبد الخالق الطريس، بأنه الوطني المتجرد، الذي على العكس مما يفعله عدد من السياسيين، قرر أن يتخلى عن حزبه (حزب الإصلاح الوطني)، من أجل فكرة وحدوية مع حزب الاستقلال. أما المهدي بنونة، أول مدير لوكالة المغرب العربي للأنباء، فقد نعته عبد الحميد جماهري بأنه "غوتنبيرغ المغرب".

وفي مسك الختام، قرأ عبدالحميد جماهري مختارات من قصائده، راسما بذلك صورة الشاعر، الذي جعلته الصحافة يرتدي كل صباح قبعة الكتابة النثرية، بمقاله الافتتاحي اليومي...