الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب:في رِحاب دِيارِ "المعقول"

أحمد الحطاب:في رِحاب دِيارِ "المعقول" أحمد الحطاب
في هذه المقالة، كلمة "المعقول" مأخوذة من التراث الثقافي العامي المغربي والتي هي مُرادِفةٌ للاستقامة والجدِّية والإخلاص والكفاءة والأخلاق والصِّدق والتفاني والشفافية والمصداقية والنزاهة… و"المعقول" كعنوانٍ للسلوكيات الإيجابية والمرغوب فيها داخلَ المجتمع، كان موجودا في كل مناحي الحياة اليومية: في البيع والشراء، في المعاملات، في الزواج، في التِّجارة، في الصناعة، في الفلاحة، في التَّساكن، في الجِوار، في العمل، في الحِرف...
ولعلَّ المقولة الشهيرة: "ما يْدومْ غِيرْ المعقول"، التي ينطق بها المغاربة بانتظامٍ في حياتهم اليومية خير دليل على تشبُّثهم بهذا "المعقول". وحين نقول: "هذا راجْلْ معقول"، فالأمر يتعلَّق بشخصٍ يؤدِّي ما عليه من واجبات بروحٍ عاليةٍ من التفاني والجِدِّية. وهو كذلك شخصٌ يتحلَّى بسلوكٍ حسنٍ ويقوم بعمله بجرعةٍ فائقةٍ من المسئولية. وهذا يعني أن كلمةَ "معقول" مضادَّةٌ لكلمة "فساد".
كان بودِّي أن أستيقظَ كلَّ صباح وأجدُ نفسي غارقاً في "المعقول" المنتشر في كلِّ مكان: في الحياة العامة، في الإدارة، في المؤسسات العمومية، في السياسة، في البرلمان، في الحكومة، في الأحزاب السياسية، في النقابات، في المعاملات، في الشارع..
لكن هيهات! "المعقول مْشَا مْعَ مَّالِيهْ". وأينما حللتُ وارتحلتُ، أسمع فقط: "دْهْنْ السِّيرْ إسِيرْ" و"لِمعَندُ سِيدُو، عَندو لاللَّه" و " أغلى ما في خَيْلْكْ رَكْبو" و "عْرَفْ مْعَ من كتدوي" و "مولْ التاج و كيَحْتاجْ" و "لِمَعندو فلوس، كْلاَمو مسوس" و "الصاحب، صاحبْ حاجتو"...
لكن "المعقول" الذي لم أجِدْه حاليا في الأوساط التي أعيش فيها، وجدتُه في ديارٍ أخرى ناسُها غير مسلمين لكنهم إنسانيون بما للكلمة من معنى. وجدتُ "المعقول" في ديارٍ زرتُها كمسئولٍ بوزارة التعليم العالي، وبالتَّحديد، كمديرٍ للبحث العلمي.
بالفعل، زرتُ خلال التِّسعينيات، في إطارِ التعاون العلمي، العديدَ من البلدان. في هذه المقالة، أخصُّ بالذكر اليابان وكوريا الجنوبية. في هذين البلدين، "المعقول" يشِعُّ في ومن كل مكان. "معقولٌ" يستفزُّكَ ويجعلُكَ، غصبا عنك، تقارن بين ما أنتَ مُتعوِّدٌ عليه وما تعيشُه في لحظتك الآنية من تغييرٍ مفاجيء. فتكون مضطرّاً لطرح سؤال لا مفرَّ منه: " ما دام البشر هم مَن يقفون وراء هذا "المعقول"، فهل هناك فرقٌ ببن بشر هذين البلدين وبشر المحيط الذي أنتمي إليه"؟
المنطق والعقل يقولان لا ثم لا من الناحيتين البيولوجية والفيزيولوجية. كلٌنا نتنفَّس، نأكل ونشرب وننام ونستيقظ ونشتغل ونتعلَّم ولنا نفس عدد الكروموزومات ولنا دماغ وعقل… فأين الفرق إذن؟ هنا بيت القصيد وهنا عٌمق المسألة.
فإذا كان لا يوجد فرقٌ من الناحيتين البيولوجية والفيزيولوجية، أي من حيث تركيبة الجسد والدِّماغ، فهناك فرقٌ من حيث استعمال الدماغ والعقل، أي في نمط التَّفكير. وبعبارةٍ أخرى، الفرق يوجد في العقليات. والعقليات لا تنطلق من فراغ. العقليات وراءها ثقافة تتوارثُها الأجيالُ. ثقافةٌ عمودُها الفِقَري احترام القواعد الأخلاقية المشتركة بين أعضاء المجتمع واعتبار المواطن كإنسان. ثقافةٌ قِوامٌها قِيمٌ إنسانيةٌ هي أساس التَّعامل والتَّساكن. كل شيء يسيرُ على ما يُرام نظرا لثقافة "المعقول" المتبادلة بين السلطة والمواطنين.
وحتى الثقافة التي ترتكز عليها العقليات (أو نمط التَّفكير) في هذين البلدين لا تأتي هي الأخرى من فراغ. إنها تستمدُّ وجودَها من العناية الفائقة التي تُعطى لبناء الإنسان الياباني والكوري الجنوبي. عناية تبدأ منذ نعومة الأظافر. تكون فيها القواعد الأخلاقية مبنيةً على الاحترام المتبادل في الحياة اليومية للناس.
وهذا هو ما لاحظتُه في البلدين وأثار انتباهي في العديد من المناسبات. وفيما يلي، إليكم البعضَ من هذه المناسبات التي كنتُ فيها مشدوها ومُتحيِّراً.
1.بعض الناس، قبل أن يُسلِّموا على الآخرين بالكفِّ، يضعون اليدَ اليسرى فوق رُسْغِ اليد اليمنى ثم يُسلِّمون. بالطبع، استغربتُ لهذا الأمر لأني لم أجد له تفسيراً. لما استفسرتُ عن ما حيَّرني، اتَّضح لي أن الأشخاص الذين يُسلِّمون بهذه الطريقة، يخجلون من مدِّ كفِّهم إلى الطَّرف الآخر. ووضعُ اليد اليسرى فوق رُسغِ اليد اليمنى هو بمثابة اعتذارٍ لهذا الطَّرف.
2.إذا كنا، بصفة عامة نحن العرب، لا نُعير أي اهتمام للمقولة المشهورة "الوقتُ من ذهب"، فإنها في البلدين مُطبَّقةٌ على أرض الواقع بحذافيرها. وهو الشيء الذي عاينتُه بأمِّ عيني حينما حضرتُ ندوةً علميةً باليابان وعدَّة اجتماعات بكوريا الجنوبية. سواءً تعلَّق الأمرُ بالندوة أو الاجتماع، فإن رئيسَ الجلسة أو مَن يسيِّرُ أشغالَ هذا الأخير، يعطي انطلاقةَ هذه الأشغال في وقتها المُحدَّد ولو حضر إلى القاعة شخصٌ واحدٌ.
3.اليابانيون و الكوريون الجنوبيون يحبُّون عملَهم بشغفٍ كبيرٍ. هذا ما لاحظتُه لأننا كنا، أنا والشخص الذي كان يُرافقُني، مضطرِّين للذهاب مبكِّرا إلى اجتماعٍ أو زيارةٍ. ما لاحظتُه هو اكتظاظ الشوارع والأزقة بالمُشاة المتوجِّهين إما لمقرات عملهم أو لمحطات النقل العمومي. وعلى ذكر وسائل النقل العمومي، فإن الناسَ يشكِّلون طوابيرَ منظمة في انتظار هذه الوسائل أو للصُّعود إليها. ولمزيد من التَّوضيح، طرحتُ هذا السؤالَ على مُرافِقي الكوري الجنوبي: "هل كل هؤلاء الناس، رغم كثرتهم، يستطيعون الوصول ألى عملهم في الوقت المطلوب؟ فأجاب: عندنا، العمل شيءٌ مقدَّسٌ وواجب وطني. وأضاف إن الناسَ يبدلون كلَّ ما في وٌسعِهم ليكونوا في مُستوى هذا الواجب. كما قال أيضا: إننا نُعطي للعمل حقَّه من العناية لكننا كذلك نُعطي نفسَ العناية للتَّرفيه عن النفس. وهو ما لاحظتُه في عطلة نهاية الأسبوع حيث تمتليء المقاهي والفنادق ودور السينما والمسارح.
4.اليابانيون والكوريون الجنوبيين متشبِّثون بتقاليدهم التي هي جزء من ثقافتهم الجماعية. متشبِّثون بهذه التقاليد رغم التَّقدُّم العلمي والتِّكنولوجي الذي يعرفانه البلدان. بل إنهم، خلافا لبعض الدُّول الغربية التي بدأت تتلاشى تقاليدها الثقافية تحت ضغط هذا التَّقدُّم، استطاعوا أن يُزاوِجوا بين ما وصلوا إليه من تطوُّرٍ علمي وتكنولوجي وبين تقاليدهم التي تضرب جذورُها في أعماق التَّاريخ. وهذا هو ما لاحظتُه حينما تمَّت دعوتي لتناول العشاء في منزل بعض المسئولين. فعندما يدخل هؤلاء المسئولون منازلَهم، يرتدون لباسَهم التَّقليدي ويستقبلون الضيوفَ بأدبٍ كبيرٍ. ويتناولون الأكلَ وهم جالسين مباشرةً فوق أرضية الغرفة، أي بدون كراسي. وهذا دليل على البساطة والتَّواضع.
5.ما أثار انتباهي و أنا أتجوَّل في أحد شوارع مدينة كْيوطو Kyoto وهي أحد كُبرياب مُدُن اليابان، أن الناسَ، الرَّاجلين و السًّائقين، يحترمون قانونَ السير احتراما صارما. لم أر ولو راجِلاً واحدا أو سائقا واحدا تجاوز هذا القانون. وما أثار انتباهي كذلك هو أن الشوارعَ تكاد تكون خاليةً من الشرطة. وهذا دليلٌ قاطعٌ على أن الناسَ ليسوا في حاجةٍ لمَن يُجبِرغم أو ينبِّههم لاحترام القانون. هذا الاحترام مغروسٌ في ذواتهم وفي وعيهم ولا وَعيِهم. أكاد أقول أنه أصبح عفويا؟ أي يُمارسونه دون عناء. وما أثار انتباهي أيضا هو أن بعضَ الشوارع لا تقف على جوانبِها السيارات. لما سألتُ مُرافقي، أخبرني أن القانونَ في اليابان يفرض على كلِّ مَن أراد شراءَ سيارةٍ أن يُدلِيَ بشهادةٍ تبيِّن أنه يتوفَّر على مرآبٍ أو على مكانٍ في موقفٍ للسيارات.
6.أينما ولَّيتُ وجهي في البلدين، أجد أن النّاسَ يتحلَّون بحسن الخُلُقِ الذي يتجلَّى أساسا في الاحترام الذي يسود يينهم. وقد عايشتُ هذا الاحترامَ شخصيا في الفندق الذي كنتُ أقيم به. فبمجرَّد ما يتجاوز الزائر عتبةَ باب الفندق، يجد في بهوِ هذا الفندق فتاةً أو سيِّدةً أو رجُلاً مُهمَّتهم الأساسية هو التَّرحيبُ بالنُّزلاء وذلك بانتِسامةٍ عريضة. وهذا الأمرّ يتكرَّرُ طيلةَ اليوم ولو دخل النَّزيلُ الفندقَ وخرج منه عدَّة مراتٍ متتالية.
وخلاصة القول، اليابان وكوريا الجنوبية يوجدان معا في مجموعة العشرين G20 وهي المجموعة التي تضمّ أقوى الدول اقتصاديا، تكنولوجياً وعلميا. وهي المجموعة التي يشكِّلُ اقتصادُها 80% من الناتِج الداخلي الخام العالمي و75% من التِّجارة الدولية و60% من سكان المعمور. فتُرى ما الذي جعل هذين البلدين من أقوى الدول؟ الجوابُ هو "المعقول"!
وعندما تكون البُلدانُ مبنيةً على "المعقول"، فإنها، في نفس الوقت، تكون مبنيةً على "الصَّحْ". حينها، يسيرُ فيها كلُّ شيءٍ على ما يُرام: بناء الإنسان (المواطن) الصالح، التَّعليم، السياسة، الاقتصاد، الإنتاج، البحث العلمي، الصناعة، الفلاحة، الإبداع، الابتكار…
وكما سبق الذكرُ، "المعقول" مُرادِفٌ للاستقامة والجدِّية والإخلاص والكفاءة والأخلاق والصِّدق والتَّفإني والشفافية والمصداقية والنزاهة… ولهذا، استطاعَ البلدان أن يُزاوِجا بين التَّنمية والحضارة. التنمية وراءها الفكرُ والبحثُ والقدرة على الإبداع والإنتاج بينما الحضارة وراءها القيمُ الإنسانية. وكلاهما وراءها "المعقول". لقد صدق مَن قال: "المعقول هو كُلْشِي". وسبق أن قُلتُ أعلاه، "المعقول" هو ضد الفساد.
و"المعقول" يتعلَّمُه الأطفال، في البلدين، في مدرسةٍ تُعوِّدهم على إتقان العمل وبدل الجُهد وحُسن السلوك والانضباط داخلَ المجتمع، إضافةً إلى حبِّ النظام وتعلُّم المسئولية وتفضيلِ المصالح العامة على المصالح الشخصية.
وللتَّذكيرِ، إن أول خطوة قامت بها كوريا الجنوبية، في أوائل الستينيات، لوضع قدمها على طريق التنمية والحضارة تمثلتْ في محو الأمية والقضاء عليها وذلك بالتخلي عن الأبجدية المعقدة وإبداع أبجدية من 26 حرفا.