الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

محمد يسين: قراءة في رواية " أولاد القشلة" للكاتب عبد الرحمان غريب

محمد يسين: قراءة في رواية " أولاد القشلة" للكاتب عبد الرحمان غريب محمد يسين وفي الإطار غلاف الرواية
يعتبر جنس الرواية في عرف ميخائيل بَاخْتِينْ جنسا أدبيا يتسم بعدم الاستقرار وعدم الاكتمال، تأسيسا على هذا المنظور تبقى الرواية منفتحة على كل الأنواع المختلفة من الرؤى. في قراءتنا لرواية “أولاد القشلة” نهجنا أسلوب القراءة العاشقة لمتن سردي استفز فينا العديد من الأسئلة، حول مفهوم “القشلة/الثكنة”، الهوية الاجتماعية لساكنة القشلة، شغب أولاد القشلة ...الخ. باعتبار الرواية تدخل في صنف السيرة الذاتية والجماعية، لموطن تميز بخصوصيات معينة، تتجلى في تنوع الانتماء القبلي المتنوع، لشريحة من الآباء "لمخازنية"، حتمت عليهم ظروف ومهام العمل العيش مع أسرهم داخل "القشلة" ، فضاء  مغلق تميز بالعلاقات المتمفصلة بين هذه المكونات  السكنية المنحدرة من قبائل تنتمي لمناطق مختلفة بالمغرب، من جهة، وظروف عمل الآباء التي تنتظم في  ثلاث أحداث أساسية: "الطَّاشمة" Le Détachement،وهو الخروج الأكبر للقيام بمهمة غير محددة المعالم. "الدِّبلاصْما"  Le Deplacement الخروج في مهمة محددة. " التْكَرْسِيس" Les Exercices. أي مختلف التدريبات الصباحية للإحتفاظ على اللياقة البدنية...الخ.
هي رواية من الحجم المتوسط، تنتظم أحداثها عبر 186 صفحة تبدأ بتقديم للكاتب المغربي "موحى صواك"، عنونه ب "أولاد القشلة": هؤلاء المشاغبين المزعجين. هو توصيف دقيق يُنبه القارئ منذ البداية بحمية السفر دون تذكرة مع "هؤلاء الأولاد" في فضاء القشلة أولا، ثم في منعرجات ومنحدرات الفضاءات القريبة والبعيدة عن أسوار تلك القشلة،هو سفر ليس كسفريات الترفيه عن النفس فقط، حتما ستتخلله متاعب وشغب ، من جهة، وإبرازا لمختلف الخصوصيات والقواسم المشتركة بين أولاد القشلة ومن ستضعهم الأقدار في طريقهم على مسافة الإحتكاك والعيش وفرد الذات..
 لطرق باب هدا المتن السردي الموسوم ب ” أولاد القشلة” حاولنا الدخول من باب العتبات النصية الأساسية، لسنيا وسيميائيا في علاقتها الجدلية مع باقي المكونات الأخرى أمَلاً منا في الوصول إلى نقطة الالتقاء بين التجربة الروائية والعتبة، من جهة، ولمحاولة إدراك كيف يساهم الخطاب المقدماتي ( العتبات النصية ) في بناء دلالة النص في مجمله؟ 
تجدر الإشارة هنا للأهمية التي باتت تحظى بها تلك العتبات النصية في الرواية الحديثة، إذ أصبح من  شبه المستحيل الاستغناء عنها، فهي ترتبط بالعوالم الداخلية للنص الروائي، وتساهم في تأسيس بنيتها الدلالية، “ولعل ولوج النص قد يكون مشروطا بالمرور عبر هده العتبات، لكي يُسْتَدَلَّ بها في رحلة القارئ عبر المتن الحكائي، وذلك عن طريق المعايشة العميقة لهذه العتبات، والتي تتمظهر في العناوين، المقدمات، الاقتباسات التي يسطرها الكاتب على الصفحة الأولى والثانية، النص الإسنادي على ضهر الغلاف ،الملاحق، كلمات الناشر، دور النشر، إلى جانب الهوامش والشروح والتعليقات”. 
1- عتبة لوحة الغلاف: 
يعد الغلاف أول العتبات الأساسية التي تطالعنا، حين تصفح الكتاب، رواية كان أو مجموعة قصصية أو كتابا فكريا على حد سواء .صورة تشد القارئ وتستفز فيه مجموعة من الأسئلة فيحاول توفير الإجابة عنها عن طريق لغة العين التي تفرض عليه ضرورة التسلح بآليات التأويل ، تلك التي تضمن له عملية الموازنة بين عناصر ثلاث، كاليغرافية، تشكيلية في علاقة بالعمل الأدبي، فالغلاف يتخذ أهميته انطلاقا من المؤشرات المصاحبة له، وبالتالي نستشعر ذلك التعاقد بين الدال والمدلول الذي جاء به دي سوسير، حيث نجد هناك نوعا من التآلف بين اللوحة كسند وأيقونة ذات دلالة بصرية، حمالة لدلالات متعددة، يحيل على الكثير من الإيحاءات السيميائية والتأويلات المتعددة لقراءته، من جهة، وبين العنوان كمقولة كاليغرافية لسنية، من جهة ثانية. حين نتأمل لوحة غلاف رواية “أولاد القشلة”، في مجملها وعناصرها المتداخلة، يمكننا  التركيز على ما يلي: 
أ‌- عنوان الرواية: عادة ما يكون العنوان في صنف الرواية، ذي دلالة قوية على المحور الأساس الذي سينبني علية المتن السردي، فإذا كنا نقول في الحقل الفلسفي “السؤال في الفلسفة يحمل في طياته نصف الجواب” فإن في اعتقادنا نفس التصور يسري على العنوان في الرواية والمجموعة القصصية أو الكتاب الفكري، حيث يستأثر اختيار العنوان بأهمية الكاتب، و الناشر والفنان … حين التأمل في الواجهة الأمامية للرواية يثير انتباهنا العنوان المكتوب بالبنط الغليظ وبخط متميز، اللون الأخضر المتمركز على أرضية كغيمة في السماء، جعل العنوان بارزا بشكل جلي … هو عنوان صريح من حيث الدلالة “ أولاد القشلة “يحيلنا العنوان مباشرة على شريحة مجتمعية  متميزة، استوطنت مع أهلها فضاء القشلة، موطن حتمته ظروف المهنة للآباء، المختلفي الانتماء القبلي  عبر ربوع المغرب.
ب‌- صورة الغلاف: تحيلنا اللوحة مباشرة على فضاء "القشلة " من خلال الألوان المعتمدة ( الأخضر، لون الآجور، اللون الأصفر في دلالة على الرمال...)، الصور الأمامي للقشلة ، ومدخلها الكبير المتميزبوجود باب كبير لمرور الشاحنات والحافلات، وبابين صغيرين على اليمين واليسار، لمرور الساكنة والزوار. كتب عل الباب الكبير  شعار "الله /الوطن /الملك" ...فضلا عن صورة لرأس "مْخَازْنِي" ببيريته الخضراء"Le Beret "  الدالة على الهوية المهنية، كما ضهور أشجار النخيل، كإحالة على الموقع الجغرافي للقشلة. يؤثت فضاء الساحة الأمامية للقشلة الحارس الخاص لمدخل القشلة، امرأة تلتحف إزارا تقليديا، تحمل على رأسها طلبية ما،أطفال ثلاثة في وضعية سباق وجري ، هي إشارة دلالية للبحث عن فضاء اللعب خارج أصوار القشلة ، و بداية جواب لمفردة طرحت  في التقديم" المزعجون".
2- النص الإسنادي ضهر الغلاف:
عادة ما يتضمن النص التأطيري  ضهر الغلاف، تعريفا بالكتاب أو بالمؤلف، أو اقتباسا من المتن السردي ذي  علاقة دلالية  مع مضمون المتن السردي في هدا الإطار سينبهنا الكاتب "عبد الرحمان غريب"  عبر النص التأطيري ضهر الغلاف، بنوعية جنس الرواية والتي تنتظم في السيرة الذاتية للكاتب نفسه، والجماعية لمجموع ساكنة القشلة(آباء ،أمها وأطفال)، حيث سيعتبر الكاتب بصريح العبارة  أن "هده الرواية تكريم للأجيال الذين عاشوا مع أسرهم في ثكنة" قشلة "، من ثكنات بلادنا، مع تحديده للمرحلة المستهدفة بهذا المتن السردي القيم، وهي ستينيات وسبعينيات  القرن الماضي..." كما حدد الهدف الأساس من كتابته، والمتجلي في الكشف عن الجانب الإنساني لهده الفئة من المجتمع، محاولا استدعاء الطفل فيه ليحكي عن آثار تلك النظرة/العلاقة على الوضعية النفسية والاجتماعية لأبناء "لَمْخَازْنِيَّة" وأُسرهم خلال تلك الفترة، إن على مستوى تدبير المعيش اليومي، أو المستوى العلائقي بالذوات وبالآخر وبالمحيط، من جهة، وعلى مستوى السلوكيات والمسلكيات والتمثل من جهة ثانية.
3- محاور الرواية: 
حين القراءة العرضانية للمتن السردي، يتبين اعتماد الكاتب على عناصر أساسية موزعة وفق ما يلي:
إهداء، تقديم، كلام في التوطئة، ملمح لابد منه، من نحن ومن نكون، رمزية مدخل قشلتنا ومتاعبه العلاقات والمحيط عندما يخضع آباؤنا لمهام أكبر من دخلهم الخروج الأكبر الطاشمة (Le Détachement)، زوارنا ممن يسترزقون باب الله، سراب الرحيل، لقاء الألسن والقبائل، قشلتنا تعج بالقبائل، مغامرات وطيش،هوس الصيد، ألعابنا مواسم، القوافل السينمائية، بعض أفراح القشلة ومرارة الفراق.
لتنتهي الرواية بكلام بمذاق الأسى. ص167/168.
4- صفحات ذات دلالة مركزية:
أ‌- الصفحة رقم 08:

رواية "أولاد القشلة «سيرة ذاتية وجماعية، هي كما يصرح الكاتب في الصفحة رقم 8: "... سِيَرٌ أعرف تضاريسها وخبايا أوجاعها، فانتظروا نشر ما تبقى من آمالنا وأحلامنا، واصبروا على طول مكوثي فوق صدوركم المعلولة من غياب الوصل، واشتياق الطير لعشه القديم ابقوا بين ثنايا وريقاتي ولو بدت لكم متلاشية فقط استعينوا بصفاء نواياكم وصدق مشاعركم القديمة حتى نلتقي في النقطة الموعودة هناك سنتبادل القبلات التي لم نفلح يوما في رسمها على خدودنا منذ زمن ولى.
حين يستحضر الطفل، الرجل/الكاتب فيه، يقول لرفيق الدرب والشغب بين ثنايا "القشلة"...:
لكن لما كبرنا، وتوفرت لدينا وسائل الاتصال الحديثة، بدأنا نبحث عن بعضنا البعض. وبدأنا نكتشف من جديد ملامحنا الأولى التي غيرها الزمن، وترك صلبها متأصلا. والغريب أن أغلبنا لا يزال يحتفظ بحنين جارف لقشلتنا، ويتمنى لو عادة الأيام إلى طفولتها، قال صديقي متحسرا: " لو كانت الطفولة تشترى، لاشتريتها مهما غلا ثمنها"...
ب‌- الصفحة رقم 13 من الكتاب، توصيف دقيق لمفهوم "القشلة "، يحتاج لألف وقفة ووقفة، جاء في التوصيف: لم نكن في قشلتنا نتعارف من قبل فكل أسرة جيء بها من تخوم هدا الوطن...وكأنه زمن القفز على منطق القبيلة والعشيرة. فقد كانت القشلة عبارة عن آلة لطمس هده السيرورة التاريخية، والمنطق التجمعي الطبيعي ويمكن القول بأن تجميعنا في قشلة واحدة هو بداية لتشكيل مخلوقات جماعية تتداخل فيما بينها، وتمتص الواحدة منها كينونة الأخرى عبر الزمن، وفي النهاية تنتج تشكلات وتلوينات سريالية، وأحيانا كاريكاتورية، تجمعات قدرها أن تفترق بعد التقاعد أو الانتقال، وتبقى الذكريات عالقة في أذهاننا نحن الصغار. أما آباؤنا فإن الأيام دربتهم على شيئين: القدرة على التحمل، والقدرة على النسيان...». ص 13.
ت‌- استوقفتني الصفحات (48/49/50/51)، هي زاخرة بمعجم لغوي لازال متداولا بين "أولاد القشلة" خاصة ورفاق الدرب عامة، من قبيل( "التكرصيص" Les exercices/ " البَّاجْدة ": جنود جدد/ "بُونَافر"Les manœuvres / "الديفيلي" Defili /  "الطاشمة:  Detachement/   »لاليرط: L'alerte «  / " الديبلاصمة: Déplacement/الترييي: Treillis....) واللائحة طويلة بمفردات دارجية وما يقابلها باللغة الفرنسية.
ث‌- استوقفتني الصفحة رقم 76 وما بعدها بتفصيل المقال من طرف الكاتب حول مرجعية قبائلية لساكنة " القشلة"، حيث تعُجُّ القشلة بقبائل عديدة مختلفة المشارب، تسعى لإيجاد نقط تلاقي على مسافة العيش بهذا المكان الفريد، الذي حتما سيشكل مادة خصبة  للبحث والدراسة  السيكولوجية...في هدا المضمار ،حصر الكاتب نماذج القبائل في ( الوَجْديون/ الريفيون/ السوسيون/ المنيعيون،نسبة لقبيلة المنيعيين/السغروشيون... إلخ...
ج‌-الصفحة 82: ومن جميل الأمور، أن قبيلة آيت سغر وشن، مجاورة لقبيلة آيت وراين الزراردة،  وما كنت أدرك سبب  التسمية، حتى أتحفني بها سي غريب، وكانت من غريب الصدف، حيث جاء في الصفحة 82:"...عندما نسألهم عن سبب تسميتهم بآيت سغروشن، يجيبونها بكل اعتزاز بأن أجدادهم كانوا محاربين أشاوس، ويضيفون  استنادا إلى روايات أسلافهم، أن جدهم الأكبر، ومن شدة هيبته وقوة قتاله: جمَّد الذئب. وهكذا تتكون كلمة " سغر وشن"   من: "سَغْرُ" بالأمازيغية، وتعني جمَّد أو يبَّس.و كلمة " أوشن" وتعني الذئب، ومن هنا جاءت التسمية.
ح‌- تنفرد الصفحات الأخيرة بأبيات شعرية ترصد مسار أولاد القشلة، نخص منها ما يلي ص167:
جاء أصدقاء...رحل أصدقاء...
كبر صغار...تقاعد كبار...
مات كبار...
تزوجت تلك الفتاة الصغيرة...
صار لها أولاد...وربما أحفاد...
اشتغل الطفل المشاكس...
كي يملي ما تبقى من أفواه.
 
5- أسلوب المتن السردي:
تتميز  رواية "أولاد القشلة" برصد دقيق لمجريات مختلف الأحداث، إن داخل فضاء القشلة، أو خارجه في الجوار تمكن الكاتب " عبد الرحمان غريب، من استرجاع الطفل فيه ومساءلته عن كل صغيرة وكبيرة، لم يقف عند هدا الجانب، بل استحضر الرجل في الطفل ليخرج بمقارنات ذات دلالات قوية بين ما مضى وما استجد من الأمور، كل ذلك في أسلوب شيق خالي من مختلف التكثيفات البديعية، تلك التي أحيانا تغطي عن جوهر ولب المراد رصده.