السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: ماذا يريد الإنسانُ.. إعمارَ الأرضِ أم خرابَها؟

أحمد الحطاب: ماذا يريد الإنسانُ.. إعمارَ الأرضِ أم خرابَها؟ أحمد الحطاب

عندما نتحدث عن الحياة، أول فكرة تخطر بالبال، هي الحياة بمعناها البيولوجي علما أن الحياةَ، بمفهومها الواسع، هي كل ما يؤثِّث الفضاءَ الذي يعيش فيه البشرُ ويُحرِّكُه ويُنشِّطه ويجعله قابلا للتَّعايش والتَّساكن. وإذا كانت حياة الإنسان، ببُعدِها البيولوجي، تحتاج للماء والهواء والأكل لتستمرَّ، فالحياة، بمعناها الواسع، تغيَّرت وتتغيَّر مع تطور الإنسان فكريا واجتماعيا.

 

وإذا كانت حاجيات الإنسان الأول homme primitif بسيطةً بحُكم اعتمادِه على الصيد وجني التِّمار و صُنع بعض الأدوات من الحجر والعظام والخشب، فحاجيات الإنسان العاقلhomo sapiens، منذ ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا، تطوَّرت إلى حدٍّ كبير، أولا، بسبب تكاثر أعداده، ثانيا، بسبب عيشِه في مجتمعات منظمة، الكلُّ بسبب تطوُّر العقل والفكر على مستوى الأفراد والجماعات.

 

وهكذا، فإن حياة الإنسان العاقل، ببُعدِها الواسع، أصبحت لها مظاهر وأبعاد اجتماعية، اقتصادية، مالية، سياسية، ثقافية، تعليمية، أدبية، لغوية، أخلاقية، فلسفية، بيئية، صناعية، تنافسية، حِرفية، مِهنية، تجارية، تسويقية، فكرية، علمية، تقنية، تكنولوجية، عقائدية، دينية، روحية، حضارية، فلاحية، صِحية، تواصلية، إعلامية، تكاملية، إنتاجية، بُنْيانية، استهلاكية، عسكرية

 

مما لا شك فيه أن الحياة المُعاصرة، بمعناها الواسع، تعدَّدت وتعقَّدت وتشابكت مظاهرُها مقارنةً مع ما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد. لكن، ألا يجدر بنا أن نطرحَ السؤال التالي: "أليست هذه المظاهر المعقَّدة والمتشابكة هي التي قادت و تقود إلى إعمار الأرض؟

 

بكل تأكيد أن هذه المظاهر، التي هي من صُنع الإنسان العاقل، هي التي عمَّرت الأرضَ ولا تزال تُعمِّرها مصداقا لقوله سبحانه و تعالى في سورة هود، الآية 61: "...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...". "واستعمركم فيها" تعني وأمركم أن تُعمِّروا الأرضَ، أي أن تسكنوها مستغلين ما تُوفِّره لكم من خيرات، ظاهرُها وباطنُها. وكيف سيعمِّرُ الإنسان الأرضَ؟ سيعمِّرها باستعمال فكره والقيام بالأعمال من قِبَل البناء والزرع والصناعة وإقامة المنشآت بشتى أنواعها...

 

غير أن الله جل جلالُه، عندما أمر الإنسانَ أن يُعمِّرَ الأرضَ، المقصود هو الإعمارُ الذي فيه صلاحٌ ومنافعٌ للناس. والمنافع هنا كثيرة، مُتنوِّعة بل لا تُحصى. فمنها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي. وكونُ المنافع "كثيرة ولا تُحصى" تعني أن هذه المنافع تتطوَّر مع تطوُّر فكر الإنسان. فيكفي أن نُلقيَ نظرةً على هذه المنافع منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض إلى يومنا هذا، فسنجد أن هذه المنافع تطوَّرت تطوُّرا مدهشاً بفضل ما أنتَجَه الفكر البشري من معارف وأدواتٍ علمية وتكنولوجية غيرت، بصفة عامة، تغييرا جذريا مجرى الحياة، بمعناها الواسع، والحياة اليومية بصفة خاصة.

 

وهنا، على الإنسان أن يطرحَ هذا السؤال على نفسه: "هل فعلا كل مظاهر الحياة، بمعناها الواسع، عمَّرت الأرضَ بما فيه فقط صلاحٌ ومنافع للناس؟

 

الجواب عن هذا السؤال واضح وضوحَ الشمس: لا ثم لا! لماذا؟ لأن الإنسانَ، وخصوصا الإنسان المعاصرُ، عند قيامه بأعمال إعمارِ الأرض، لم يتخلَّص من أنانيتِه ومن جَشَعِه ومن ميولِه إلى استغلالٍ مُفرطٍ لخيرات هذه الأرض و لاستعبادٍه لأندادِه استعبادا فاحشا والسيطرة عليهم. وعندما أتحدَّثُ عن الأنانية، فالأمرّ ينطبق على الأفراد والجماعات وعلى الدُّول.

 

على مستوى الأفراد، تجذرُ الإشارةُ إلى أن الكثيرَ من بني البشر، وفي جميع أنحاء المعمور، جعلوا من شِعار "ومن بعديَ الطوفان" الخيطَ الناظمَ لحياتهم اليومية جاعلين من المصلحة الشخصية (وهذا شيءٌ مشروعٌ) همَّهم الواحد والوحيد بل جاعلين من الفردانية والمادِّية وسيلةً لبلوغ أهدافهم على حساب مصلحة عموم الناس.

 

على مستوى الجماعات التي تتنوَّع شكلا وأهدافا، لا داعيَ للقول أن العديد منها انحرف عن أهدافِه وركَّزَ الاهتمامَ على مصالح الجماعة/ الفردية عِوض الصالح العام. والأمثلة هنا كثيرةٌ ومُتنوِّعة أذكرُ منها على الخصوص الأحزاب السياسية التي باتت تضمُّ جماعات من البشر هدفُهم بدون منازعٍ هو الوصول إلى السلطة لبلوغ أهدافٍ لا علاقةَ لها بالصالح العام.

 

على مستوى الدُّول، الأمر واضح وضوح الشمس. كل الدُّول، بدون استثناء، تضع نصبَ أعينِها أولويَةَ خدمةِ مصالحِها. وهذا شيء مشروع ما دام تحقيق هذه المصالح لا يؤثِّر على مصالح الدول الأخرى، وعلى الخصوص، على عيش و حياة البشرية جمعاء وعلى الأوساط التي تعيش فيها. غير أن ما نلاحظه اليوم، وفي وضوح النهار، هو أن الدُّولَ المتقدمة اقتصاديا وتكنولوجيا تقضي مصالحَها غير آبِهةٍ بالأضرار التي قد تلحق بالدول النامية، بصفة عامة، وبالإعمار المستنير الذي يعود نفعُه على كافة البشر. وما يثيرُ الاستغرابَ، هو أن هذه الدُّول تتسبَّبُ في الأضرار في تناقض صارخ مع ميثاق منظمة الأمم المُتَّحدة والتصريح العالمي لحقوق الإنسان وكذلك مع المنظمات الأممية التي، أصلاً، أُنشِئَت لخدمة الصالح العام كمنظمة اليونسكو ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية ومنظمة الأمم المتَّحدة للبيئة ومنظمة العالمية للصحة...

 

ويكفي، في هذا الصَّدد، أن أُشِيرَ إلى نتائج المؤتمر 26 حول المناخ الذي انعقد مؤخَّرا بكلاسكو بالمملكة المتَّحدة. مؤتمر، كسائر المؤتمرات السابقة، تغلَّبت فيه مصلحة الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي على مصالح الدول النامية علما أن هذه الأخيرة ليست مسئولة إلا على نسبة ضئيلة من انبعاثات الغازات المُسبِّبة للاحتباس الحراري.

 

ولا داعيَ للقول أن أنانيةَ الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي هي التي أفرغت مواثيقَ الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها من محتواها الإنساني، التضامني والتعاوني. فعِوض أن تتجاوزَ هذه الدول أنانيتَها لإعمار الأرض بما يتلاءم والمواثيق الدولية الإنسانية، فإنها عضَّت وتعضُّ بالنواجد على أنانيتِها ضاربةً عرض الحائط هذه المواثيق وناسيةً أو متناسقة (في الحقيقة متناسية) أنه من واجبها إعمارُ الأرضِ دون إلحاق أضرار لا بالأفراد ولا بالجامعات ولا بالدُّول الأخرى ولا لأوساط عيش البشر والكائنات الحية بجميع أشكالِها.

 

فكل ما يهمُّ الدولَ المتقدِّمةَ هو نمو اقتصادها وسيطرتُها على الأسواق العالمية ولو أدى ذلك إلى إلحاق أضرارٍ بالبشرية وبأوساط عيشها. ولو أدى ذلك إلى الخراب الواضحةُ معالِمُه إن على المستوى البشري أو على المستوى البيئي. والأمثلة، في هذا الشأن، كثيرة ومتنوعة. منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو بيئي...

 

على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، تجدر الإشارة إلى أن احتكارَ الدول المتقدمةِّ للاقتصاد العالمي وعدم إتاحة الفرص للدول النامية لتَّطوُّرها العلمي والتكنولوجي، يجعل هذه الأخيرة رهينة ببيع ثرواتِها الطبيعة بأثمان لا تتحكَّم في تحديدِها، الشيء الذي يحرمها من خلقِ القيمات المضافة ومن خلقِ الثروة. وبما أن تطوُّرَ البلدان النامية رهينٌ بنجاعة اقتصاداتها، فلا غرابةَ أن يستمرَّ بها الفقر والفوارق الاجتماعية والجهل والحروب وغياب توزيع الثروة بإنصاف...

 

على المستوى البيئي، إن أنانيةَ الدول المتقدِّمة تسبَّبت وتتسبَّبُ في خَلْق مشكلات بيئية ضخمة بسبب الاستغلال المفرط وغير العقلاني للموارد الطبيعية واللجوء إلى تكنولوجيات مخرِّبة للبيئة، فضلاً عن تراجعَ التنوع البيولوجي واستنزافَ التربة والغابات وتلويثَ الماء والجو والبحار...

 

ولعلَّ أخطرَ وأضخمَ هذه المشكلات البيئية، هو تغيُّرَ المناخ. تغيُّر المناخ الذي تسبَّبت وتتسبَّبُ في خلقِه الدول المتقدِّمة اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا. تغيُّرُ المناخ الذي بدأت محاولات التَّصدِّي له في أول مؤتمر المناخ الذي انعقد بمدينة برلين سنة 1995. تغير المناخ الذي مرَّت على نقاشاتِه 26 سنة ولم يستطع المجتمعُ الدولي إلى حدِّ الآن إيجادَ حلول جذرية له علما أن خطورتَه تزداد سنةً بعد سنةٍ حسبَ ما تفيدُه التقارير العلمية الدورية. لماذا؟ بكل بساطةٍ وكما سبق الذِّكرُ، أنانيةُ الدول المتقدِّمة تجعلها متشبِّثةً بسيطرتِها على العالم اقتصاديا، علميا، تكنولوجيا، سياسيا، استراتيجياً...

 

فأين هو إعمارُ الأرض بما فيه منافع للبشرية جمعاء؟ ما يمكن تأكيدُه اليوم هو أن هذا الإعمارَ، رغم منافعه التي لا يمكن إنكارُها، يحمل معه جانبا مهمّاً من الخراب إنسانيا وبيئيا. والغريب في الأمر، أن الدُّولَ المتقدِّمة، رغم إدراكِها لخطورة تصرُّفاتِها، فإن أنانيَتَها أعمت بصيرتَها إلى حدِّ التَّضحية بمستقبل البشرية بل بمستقبلِ الكرة الأرضية برُمَّتِها.

 

وبما أن لكل شيء وجهان، وجه إيجابي ووجه سلبي (هذه سنة الحياة)، فعلى الإنسان أن يُعزِّزَ الجانب الإيجابي وذلك من خلال مراجعتِه لنفسَه ولنظرتَه إلى الأرض ليُعمِّرَها بما فيه صلاح ومنافع له ولأنداده وبأقل الأضرار. وعليه كذلك، في هذا الصدد، أن يعيدَ النظرَ في مفهومي التنمية والاقتصاد. فالإنسان الذي اخترق الأجواء ووصل إلى الكواكب وإلى أعماق البحار وقصَّر المسافاتِ والوقتَ ولطَّف ما هو شاق...، قادر على إعمار الأرض بما يقتضيه العقل وصلاح البلاد والعباد.

 

فالفكرُ الذي أفرز نظراتٍ فيها جانبُ من الإساءة للبشر وللبيئة، قادِرٌ على إفرازِ نظرات أكثرَ تناغُماً وتناسُقاً مع استمرار الحياة و حماية الوسط الذي تترعرعُ فيه. إنها فقط مسألة إرادة! فعلى الإنسان أن لا ينسى أنه يوجدُ في الطبيعة ويعيش فيها وعليه كذلك أن لا ينسى أن الطبيعة لها قوانينُها ولها توازناتُها ولها أساليب اشتغالها. فكلما ازداد ضغط الإنسان عليها، كلما فقدت بالتَّدريج هذه القوانين والتوازنات والأساليب وبالتالي، تكون ردَّاتُ فعلها بما لا يُحمَدُ عُقباه...