الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الرزاق الجباري: انتخابات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء..مسؤولية الناخب ومعايير المنتخب 

عبد الرزاق الجباري: انتخابات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء..مسؤولية الناخب ومعايير المنتخب  عبد الرزاق الجباري
ليس هناك من شك لدى عموم القضاة وخصوصهم، في أن أهم محطة مهنية تشد انتباههم وتستأثر بجُل اهتماماتهم، هي تلك المتعلقة بانتخابات أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وذلك لِما لهذه المؤسسة من أدوار دستورية وقانونية تجعل منها المدار الحقيقي لتنزيل خطة إصلاح القضاء بشتى جوانبها.
ولعل القطب الذي تحوم حوله تلك الأدوار، هو مبدأ "استقلالية السلطة القضائية"، حيث لا ضمان لتنزيل مقتضياته على أرض الواقع إلا عن طريق ثلاثة أمور كلية تضطلع بها، حصرا، مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهي:
أولا: السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، وذلك بالتدبير الأمثل لوضعيتهم المهنية والفردية، وكفالة المعايير المتعلقة بها، وفق مبادئ تكافؤ الفرص، والاستحقاق، والكفاءة، والشفافية، والحياد (المادة 65 من قانون المجلس الأعلىللسلطةالقضائية).
ثانيا: السهر على حماية استقلال القاضي من كل تهديد أو محاولات للتأثير عليه بكيفية غير مشروعة (ف 109 من الدستور).
ثالثا: إصدار توصيات ملائمة بشأن وضعية القضاء ومنظومة العدالة، وذلك بما يدعم حقوق المتقاضين وحسن تطبيق قواعد سير العدالة، وتحسين أداء القضاة، ودعم نزاهة واستقلال القضاء، والرفع من النجاعة القضائية، وتأهيل الموارد البشرية، وتحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للقضاة (المادة 108 من قانون المجلس الأعلى للسلطةالقضائية).
غير أن مقابلة طبيعة هذه الأدوار بما شهدته الانتخابات الأخيرة للمؤسسة المذكورة من تسابق محموم على الترشح لتمثيلية القضاة فيها، تَشي بنوع من "الاستبساط" لتلك الأدوار وتهوين "جسامتها"، وهو ما نتوقع –لا قدر الله- مزيدَ استشرائه وتفاقمه في الانتخابات المقبلة في حال عدم ضبطه بما يخدم المصلحة العامة للقضاء والقضاة.
وإذا كان ضبط هذه الانتخابات من الناحية التنظيمية يبقى نسبيا، بالرغم من أهميته، فإن ضبطها "الذاتي" الموكول إلى القضاة أنفسهم يبقى أكثر أهمية وفاعلية، ويمليه، بإلحاح، ما رشح من معطيات حول إكراهات وصعوبات التنزيل الفعلي لتلك الأدوار، وما ترتب عن ذلك من محدودية ملامسة نتائج إعمالها على مبدأ استقلالية السلطة القضائية، بالرغم من المجهودات المبذولة من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية خلال ولايته التأسيسية الأولى، وهو ما تبدى من خلال مضامين تقريره الأخير المنشور بالجريدة الرسمية.
ولن يتأتى هذا النوع من الضبط، إلا إذا اقتنعنا نحن القضاة، بداءة، بجسامة عمل المؤسسة المشار إليها، وثقل المسؤولية الملقاة على عاتق أعضائها، ومن ثم خطورة اختياراتنا لهؤلاء الأخيرين بهدف تمثيلهم بها والنيابة عنهم فيها.
ولما كان القضاة المنتخبون بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ممثلين لمجموع الناخبين من زملائهم، فإن العلاقة الجامعة بينهم، تحكمها، من وجهة نظرنا، وقياسا على قواعد "الإجارة"، التوجيهاتُ القرآنية المُحَدِّدة لمعايير هذه الأخيرة في قوله تعالى من قصة سيدنا موسى عليه السلام: "إن خير من استأجرت القوي الأمين" [القصص: 26].
واهتداء بهذا التوجيه الرباني، فلا مندوحة لنا، نحن القضاة، عند اختيار من سينوب عنا ويمثلنا بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، إلا أن نضطلع بمسؤوليتنا في أن نختار من زملائنا من يتحلى بصفتين اثنتين:
أولاهما: وهي صفة "القوة" ؛ وتتأدى، أساسا، في أن يكون القاضي المرشح قويا في تصريف مواقفه المدافعة عن استقلالية السلطة القضائية غير مهادن فيها، ذا جرأة في الدفاع عن طروحاته الرامية إلى التنزيل الفعلي والحقيقي لأدوار المجلس الأعلى للسلطة القضائية على أرض الواقع، قادرا على التأثير الإيجابي في مناقشات هذا الأخير وفي قراراته المزمع اتخاذها بما يكفل الضمانات الممنوحة للقضاة، صارما في نصرة أخلاقيات وقيم رسالة القضاء، من: استقلالية، ونزاهة، ونجاعة.
ولا تتأتى صفة "القوة" في القاضي المرشح، إلا إذا كان في أصله مجبولا عليها طيلة مساره المهني، موصوفا بها في اتخاذ مجمل قراراته، ذا مراسٍ في مواجهة كل أنواع الضغوطات والتهديدات. فلا يكفي للتحلي بهذه الصفة مجرد التظاهر ببعض تجلياتها علنا، والنكوص عنها سرا، وإنما وجبت ممارستها فعليا في السر كما في العلن ؛ إذ كيف، مثلا، لمن لا يجرؤ حتى على الدفاع عن استقلاليته وكرامته أن يحمي استقلالية وكرامة زملائه ؟.
ثانيهما: وهي صفة "الأمانة" ؛ وتتجلى في أن يكون القاضي المرشح أمينا فيما سيقدمه داخل المؤسسة بما يخدم المصلحة العامة لا غير، ذا وفاء لمبادئ وقيم العدالة التي سيرفعها كشعار في حملته الانتخابية، مخلصا في وعوده الرامية إلى تنزيل تلك القيم والمبادئ، متفانيا في التواصل مع زملائه بمختلف انتماءاتهم ودرجاتهم، صادقا في أفراحهم ومعاناتهم بما لا يوحي استغلاله لها بهدف بلوغ مراميه الذاتية العَرضية.
ولا شك أن من مآتي هذا الصفة، هو أن يكون القاضي المرشح مشهورا بصراحته في الحق طيلة مساره المهني، سواء في عمله أو مع زملائه، مواثِقا لا خائنا لهم في السراء والضراء، غير منافق ولا مجامل ولا مداري.
فمن خلال الاضطلاع بمسؤوليتنا في إعمال هاتين الصفتين الكُلِّيتين، سنتمكن، لا محالة، من تأطير عملية اختيار ممثلي القضاة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وسنُفرز، من الناحية الموضوعية، قضاةً مؤهلين للمساهمة في تنزيل مهام وأدوار هذه المؤسسة بما يتلاءم وجسامة مسؤولياتها الوطنية، بعيدا عن تغليب معاييرنا الذاتية القائمة على انطباعاتنا الشخصية، وولاءاتنا المصلحية، وميولاتنا "المُجاملاتية"، التي قد تُفرغ مهام المجلس الأعلى للسلطة القضائية من كل أهمية واقعية، وبالتالي العَصفَ بكل مخططات ومشاريع إصلاح القضاء، وبمجمل ما تم تحقيقه في سبيل ذلك من تراكمات إيجابية.

عبد الرزاق الجباري، الكاتب العام لـ "نادي قضاة المغرب"